* بغداد د. حميد عبدالله:
لا وقت للتفسير حين تتلاطم السنة اللهب امام العيون، وتصم الأذان أصوات الرصاص في وفوق بيدر العراق، وأقفال الأبواب مهشمة وعلامات الاستفهام تتزاحم كالسنارات الحادة في عقل العراقي. فالذهول سيد الموقف ولم يبق سوى باب واحد مقفل ومفتاحه في جيب (جي كلارنر) قال احد المتفرجين في شوارع بغداد بإحباط واضح ان لذة التخلص من كابوس صدام حسين الذي جثم على اليقظة والحلم ثلاثين عاما قد بددها فقدان الأمن والأمان امام أنظار قوات التحالف وأحياناً بمساعدتهم وربما بتخطيط منهم.
ان انتظار ما سوف يحدث أو ما يجب ان يكون، ثقيلا على نفوس العراقيين ولاسيما انعدام من يجيب على أسئلتهم الملحة التي تتعلق بالمرحلة القادمة وتركيبة قيادتها. وفي انتظار ذلك فهم مازالوا يضمدون جراحهم على ضوء القوانيس ويتجولون بحذر ويقظة واسف ممض على مؤسسات الدولة المنهوبة والمحترقة ويشتركون بمظاهرات تتفق شعاراتها مع ميولهم لكنهم لا يعرفون قيادتها وأين تقيم وما هو موقعها في هرم الدولة.
ان التعطش الى رفع الأصوات كان مكتوماً في الصدور طيلة العقود الثلاثة الماضية ولم يخرج العراقيون خلالها أسوة بشعوب الارض إلا في مسيرات ينظمها ويشرف عليها ويكتب لها شعاراتها رموز السلطة.
والآن حين تفجرت الفقاعة واختفى صدام حسين ونظامه وجد العراقيون متنفسا ليعبروا به عن حرية لا يعرفون كيف يمارسونها، وفي غياب وسائل إعلام موجهة يمكن الركون الى أخبارها بقي العراقيون نهبا للشائعات وتضارب الأخبار والتصريحات والتحليلات القائمة على الاجتهادات الشخصية والفاقدة لأي خلفيات معتمدة.
وبين اليقظة والحلم يقف العراقيون متفرجين على أرتال آلة الحرب الامريكية وهي تجوب الشوارع لايعرفون كيف يستوعبون وجودها أو يردون على أيدي جنود قوات التحالف وهم يلوحون بها للتحية اوللابتعاد عن طريقهم كما لا يعرفون كيف يستوعبون انهيار نظام وصفه معارض معمم انه تشرنق في كل خلية من خلايا جسد العراق وانتشر كأعقد نوع من أنواع الالتهابات الرئوية اللانمطي الذي حير علماء الطب، اما إطارات الصور الممزقة التي مازالت قائمة فكأنها سلك كهرباء مقطوع يصعق كل من يتقرب منه ليس خوفاً لكن سنوات القمع لا يمكن ان تندمل أثارها ببضعة أسابيع أو أشهر.
وفيما بدأت أحزاب ترفع لافتاتها وشعاراتها على واجهات دوائر حكومية خالية أو بيوت مهجورة لا يعرف العراقيون الكثير عنها، وانبثقت روابط وتجمعات واحزاب كانت تعمل بسرية مرتعشة وراحت توزع منطلقاتها ومناهج عملها واهدافها بمنشورات علنية وتعقد مؤتمراتها التحضيرية والتأسيسية على الهواء الطلق فإن اشكالية الملامح للسلطة القادمة ما زالت قيد التكهنات المخدشة للأعصاب.واذا كان الموسرون من الناس الذين يتمكنون من العيش بمستوياتهم المعهودة او اقل قليلاً فإن الغالبية العظمى يعتريها الخوف من استمرار هذه الاوضاع التي لم يعهدوا لها مثيلا فتنضب خزينتهم من الغذاء والمال وترتفع الاسعار مما يؤدي الى ظهور اسباب للتناحر والسلب والنهب.
واذا توقف العراقيون عن التعامل باوراق النقد من فئة (عشر آلاف دينار) لاسباب لا احد يعرفها فإن القلق يزداد رعبا لدى كل اولئك الذين اودعوا اموالهم في المصارف التي نهبت اموالها ومستمسكاتها.
ثمة غريق في وسط البحر وحوله السباحون والزوارق وناقلات البترول وأطواق النجاة وأسماك القرش وآكلو لحوم البشر وكامرات الفضائيات وشاحنات المساعدات والجميع في انتظار عودة التيار الكهربائي لكي تعمل إشارات المرور. ترى في أي سلك من الأسلاك الكثيرة المتشابكة يكمن التيار الكهربائي؟ ولماذا يخبىء صعقته النهائية حتى هذه اللحظة، فمن الداهية ومن العظيم؟ يقول التاريخ ان المرحلة للداهية والتاريخ للعظيم، ولكن من يأبه بهذا ومقتنيات متحف الستة آلاف سنة تتداولها أصابع الجهلة والأغبياء في أسواق العالم لتتلقفها أنامل الخبراء الأذكياء المدججين بالعملات الصعبة. وما زالت دبابة اسطورية لقوات التحالف تحرس المتحف العراقي بيقظة الحريص لتحفظ ما تبقى من الجدران وصناديق العرض الزجاجية الخالية وفي ضوء الفانوس.
|