ثلاثة أسابيع تمضي على كابوس عربي من الحجم الثقيل بسقوط بغداد المفاجئ واختفاء صدام وجماعته، دون الوصول - على وجه اليقين - إلى أسرار اللعبة التي انتهت حسب توصيف محمد الدوري المندوب العراقي السابق في الأمم المتحدة، وحتى هؤلاء الذين استسلموا أو ألقي القبض عليهم من ضمن قائمة الخمسة والخمسين المطلوبين من قبل التحالف، والذي كان من المؤمَّل أن يكشفوا عن بعض أوراق اللعبة.. هؤلاء يجري التعتيم على ملابسات القبض عليهم واستسلامهم، ناهيك عن نتائج استجوابهم والتحقيق معهم، ففيما عدا الفريق السعدي - المستشار العلمي السابق لصدام - والذي نقلت المحطات واقعة استسلامه فحسب، اعتمدت وسائل الإعلام - بالنسبة للباقين - على صور من الأرشيف، دون صورة واحدة حية للموقف الراهن! ولا تزال الساحة العربية.. بل والعالمية ملأى بالأسئلة الحيرى - رغم تقارير المخابرات الغربية المتضاربة على الساحة - مفتقدة الوصول إلى الخبر اليقين عند جهينة التي يمثلها اليوم التحالف الأنجلو أمريكي.ومصير صدام وطغمته الفاسدة لم يعد يهم أحداً بشيء خارج نطاق معرفة ما جرى من صفقات أو خيانات، فالخونة لا يستحقون حتى الحبر الذي تكتب به أسماؤهم بعد ما تكررت خيانتهم لبني دينهم بحربهم على إيران المسلمة، ثم لدينهم وعروبتهم بغزوهم للكويت الشقيق، وأخيراً لبني جلدتهم حين تركوا الحبل على الغارب لقوات الاحتلال، بعد ملحمة بطولية «كلامية» دفع الشعب العراقي ثمناً فادحاً لها من دمه ومن قوته.. والأكثر من تاريخه وحضارته جراءها.
ولم يبق من ترهات الماضي العنتري القريب إلا تصريحات الصحاف ومفرداته التي شغلت العالم بطرافتها - وشر البلية ما يضحك - إلى الحد الذي صرَّح معه الرئيس الأمريكي مؤخراً بأنه كان يقطع اجتماعاته - الهامة - ليرفِّه عن نفسه بأكاذيب وزير الإعلام العراقي السابق وخفة ظله.
لقد كانت الجماهير العربية بل ودول أخرى خارج المنطقة - على اختلاف نظرتها للنظام العراقي - تتابع المقاومة «الشعبية» العراقية الباسلة للذود عن الوطن والشرف، وتأمل في صمود أقوى لبغداد، صحيح أن ميزان القوى الفارق كبيراً لصالح القوة الأجنبية كان يوهن الحلم الإنساني، لكن الجميع كان يتطلع - على الأقل - إلى سقوط مشرف يسبقه دفاع الأبطال عن الرمز المتمثل في عاصمة بلادهم العريقة، بل إن البعض كان يتصور أن صدام وعصابته من الممكن أن يموتوا دفاعاً عن العراق، طالما أنهم السبب في أزمته. لكن «حصان طروادة»، الذي دخلت القوات الأجنبية من جوفه إلى المنطقة عام1990 بعد غزوه للكويت، وبعد أن رفض الانصياع لأصوات الحكمة التي كررت له النصح بمغادرة الكويت، فكانت النتيجة أن أخرج منها مدحوراً مذموماً، ومحاصراً هو وشعبه تحت رحمة نظام النفط مقابل الغذاء ومقابل الدواء ومقابل..! وعرَّض شعبه لخسارة فادحة على الصعيدين المادي والمعنوي، وصدام اليوم قد أتم جريمته الكبرى بعدم الانصياع مرة أخرى إلى أصوات العقل من الشيخ زايد والأمير سعود الفيصل وغيرهما الذين رأوا أن تضحية الفرد - مهما كان - من أجل سلامة الأمة واجب محتم، وقد سبق لعبد الناصر - رغم الاختلاف عليه - ان فعلها عندما أعلن تنحيه عن السلطة في التاسع من يونيو حزيران عام 1967 في ظروف قد تكون متشابهة مع الاختلاف في النوايا والأهداف.بيد أن صدام أبى إلا أن يكون «حصان طروادة» للمرة الثانية، وأن يدخل من جوفه عسكر التحالف من جديد ليفعلوا في بلاده ما لم يفعل في بلد آخر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وهكذا كان لابد أن يسقط الطاغية كما سقط حصان طروادة بمجرد أن خرج الجند من جوفه، فهي النهاية الطبيعية لكل «الأدوات» المستخدمة في الأغراض الخبيئة بشراً كانت أم جماداً.وإذا كان حب الاستطلاع يستغرق الكثرة الكاثرة لمعرفة ما دار في بغداد قبيل سقوطها، فربما يكشف تصريح الرئيس علي عبد الله صالح في مؤتمره الصحفي بمناسبة الانتخابات التي جرت أمس الأول في اليمن شيئاً من تلك الحقيقة «الذاهبة» فهو يقول «إن ما حدث في العراق وفي بغداد يدل على أن تأليه القادة والزعماء يقود إلى النكبات والهزائم، وأنَّ أسباب سقوط بغداد هو تأليه الحاكم والخيانة!».
وقفة
قضية منطقية خلافية قديمة حول من يصرِّح بأنه كاذب، إذ كيف نصدِّقه وهو يعترف بأنه كاذب! ولهذه القضية مشهد آني يتمثَّل في حادثة سقوط طائرة أباتشي «تحالفية» في حقل عراقي، وخروج الإعلام حاملاً على أكتافه «منقاش».. ذلك الفلاح العراقي البسيط، هاتفاً بحياته، مبرزاً شجاعته حيث أسقط تلك الطائرة برصاصة من بندقيته العتيقة ، وها هو منقاش يعود ليكذِّب نفسه مصرِّحاً بأنه لا علاقة له بسقوط الطائرة.الغريب أن كثيرين لم يتركوا باباً لاحتمال ان يكون اعتراف الرجل بكذبه جاء على سبيل التقية من قوات التحالف بعد أن أحكمت قبضتها على ما كان يدافع عنه منقاش واخوته الوطنيون العراقيون وأنها تلاحق كل من وقف في وجهها، بل وصل الحال بالبعض إلى الانطلاق من امتداح منقاش لشجاعته حين اعترف بكذبه، إلى حد تسفيه الأمة بكاملها.. منتهى جلد الذات.. والإحباط!
|