1/2
هل وضعت الحرب أوزارها؟ بعد الصفقة أو الخيانة التي فاجأت العالم باختفاء الحكومة والجيش العراقيين معاً، وروضت جماح بغداد وأسقطت رهانات الإعلام المزيف للوعي، والواعد بأن العاصمة العراقية ستكون مقبرة للعلوج، أم أن هناك حرباً من نوع آخر، تكون أشد ضراوة وأفدح خسائر وأطول استنزافاً، تخوضها الكرامة العربية المجروحة، والكبرياء الأمريكية المهزوزة، حرباً لا يحسمها التفوق العسكري، وإنما تحتاج إلى سلاح الفكر وترسانة السلاح معاً متوقية لحمام المواجهات الموجعة التي ترقب الطرفين.
فالعرب بحاجة إلى موقف مصالحة بينية: بين الحكومات والشعوب، وبين الحكومات ونظائرها، وبين طوائف الشعب الواحد، يسمو بوحدة الشعب فوق العرقية والطائفية والإقليمية، جاعلاً مصلحة الأمة المفجوعة فوق كل المصالح.
وأمريكا بحاجة إلى موقف يطمئن كل الأطراف، ويزيل شبح الاحتلال ولغة الغزو. وهو ما لم يفعله الطرفان. لقد انحسرت الجيوش، واختفت المؤسسات، وغاض ماء الأمن، وطمست الحضارة والتاريخ والذاكرة، واقتيد العلماء إلى مخافر الاعتقال والتحقيق، وخضدت الشوكة، ونهبت غير ذات الشوكة، والتفت كل طائفة حول نفسها داخل إقليمها، تراقب الوضع على حذر، فيما فاضت المواجهات، واغتيلت المشاعر، وقامت المظاهرات المناوئة للمحتل، ودخل الناس جميعاً في صفوف الرافضين للوجود العسكري، واتخذ المناوئون خططاً، لا يمكن السيطرة عليها، لأنها تستمد وقودها من موقف الرفض المطلق لأي تدخل أجنبي، ولأي وجود عسكري، متخذة آلياتها من الفداء والمقاومة والمظاهرات. ولا أشك أن جيوش التحالف سيتعرض أفرادها لقنص أو تفجير أو انتحار، فيما يتعرض الشعب العربي لقتل جماعي، وحرب نفسية، واختلال في الأمن وتجويع مفتعل، ولن تلوح بوادر الانفراج في المنظور القريب، وعمليات التصدي والتحدي والصمود تؤزها كرامات مجروحة، لا يبلسمها لا العمل الاستشهادي، من فتية يرجون من الله ما لا يرجوه طالب العرض الزائل، وهو ما لا نريده، وما لا نود اللجوء إليه، وإن كان آتيا لا محالة، متى استمرت المكائد بهذا الحجم، وبهذا العنف، والمفادون والفدائيون في مواجهاتهم الموجعة والمخلة بكل الموازين، لا يقتصون للحكم البائد، وإنما يدافعون عن كبرياء مأزومة. والشعوب العربية قد تخضع لحكومات مستبدة، ولكنها لن تسلم مقاليدها إلى مستعمر أجنبي. وليس ببعيد أن تمارس دول التحالف تجييش النعرات، وأن تستزل الطائفيات، وأن تصنع الزعامات، ليعود العراق إلى حمامات الدم من جديد، إذ ما زال في اللعب بقايا، والعراق كهشيم المحتظر، سماؤه كالمهل، وجباله كالعهن، وأهله في ذهول، حتى لا يسأل حميم حميما.ومن الخير للطرفين البحث عن مخارج أخرى تجنح للرفق، وتحفظ ماء الوجه، وتبقي على شوارد الأمن والأنفس والأموال والثمرات التي أفناها كرّ التآمر. وعلى أمريكا ومن معها - والحالة تلك- أن يسارعوا بالعودة إلى بلادهم، وليأخذوا توصيات المؤتمرين في الرياض مأخذ الجد، فأهل مكة أدرى بشعابها، وتوصياتهم معقولة، بحيث لا تتجاوز التأكيد على: وحدة العراق، وأمنه، وتسليمه لأهله، وتمثيل كل طوائفه، وتبرئة سوريا مما وجه إليها من اتهام، يرمي إلى تهيئتها لمواجهة لاحقة، أو يشغل الرأي العام عما يُفعل في العراق. وليس هناك ما يمنع- وقد سقط صدام حسين- من أن ينزع سلاح الدمار الشامل، إن كان ثمة ترسانات في جوف الأرض، وعندها تنتهي مبررات الغزو وحيثياته، وجيوش التحالف حققت كل الذي جاءت من أجله، وليس لها بعد هذا إلا الرحيل. وإن كانت ثمة أطماع أخرى، فإنها لن تتحقق بالثكنات العسكرية، ولا بالحاكم العسكري اليهودي، ولا بالإرغام على الاعترف والتطبيع مع العدو الصهيوني. والحسابات بهذا المستوى دخول متعمد في دهاليز المقاومة العنيفة، وصناعة متعمدة للإرهاب الشرس، مع سبق الإصرار. لقد خرج العراق من مأزق مظلم بسقوط حكومته، حكومة الحزب الواحد والرجل الواحد، وارتكس في مأزق أشد حلكة بالوجود العسكري على أرضه. وعلى الأمة العربية والإسلامية أن تمارس واجباتها القومية والدينية في انتشال جثته من مستنقع الفتن، وعلى أمريكا أن تعرف أنها دخلت في نفق مظلم، لا تضيء عتمته الترسانة العسكرية، إن كانت بوجودها تريد أن تظل لإعادة صياغة الشرق على عينها، فإن هذه المغامرة ستحول المنطقة إلى بورة فتن، تدمر نفسها ومن حولها، وعليها أن تنظر إلى ما فعله «شارون»الذي تصور أن الترسانة العسكرية قادرة على تركيع الشعب الفلسطيني.
ومما لا مراء فيه أن سقوط النظام شر أزيح عن كواهل العراقيين والكويتيين معاً، ولكن الفراغ الدستوري والوجود الأجنبي شر مستطير، وكم من متسائل يردد:- أشر أريد بمن في العراق أم أريد بهم رشد؟ هناك اختلاف غريب وعجيب في وجهات النظر، وفي قراءة الأحداث، هذا الاختلاف المتنامي يجتال الخطابات العربية: الرسمي منها والشعبي، وهناك إلى جانب الصخب صمت الخائف وترقب المرتاب وهناك تناقض في الرؤى والتصورات لا يحتمل، فمن محيل إلى السننن الكونية، ومن معول على الخوارق، ومن مراهن على جواد القوة، ومن حالف على جواد الإرادة، ومن مؤمن تقي، لا يفقه الواقع، ومن مادي شقي لا يقدر الأقدار ولا نقمة الملك الجبار، ومن متحدث عن الوجه المشرق لأمريكا، ومن متفائل بهذا الغزو. وليست هناك وسطية يتفيأ ظلالها المتعبون من تداخل الأطياف. وبوادر هذا التناقض والاختلاف. لا يبشر بخير، ذلك أن أصحاب القرارات المؤثرة لن يستدبروا هذا اللغط المتناقض إلى حد التناحر فقد يجدون فيه ملاذاً ومغارات، وليس من شك أنهم الأقدر على تعميقه واستثماره، والإعلام سلطة مؤثرة، لعب دوراً خطيراً في الحرب الخليجية الثالثة، مما اضطر أمريكا لضرب بعض مواقعه، واحتلت «الحرب النفسية» الصدارة. والحرب الباردة معادل قوي للحرب الساخنة، ومن استخف بالكلمة، أضاع فرص المواجهة المحكمة. والذهنيات الفارغة حين تشكلها الدعاية الرسمية أو المتطوعة تصنع العجائب. والحكومات الخائفة من الداخل والخارج لن تجد الظروف المناسبة لاتخاذ القرارات المصيرية، وستظل في حيرة من أمرها على حد:- «أمي وصلاتي» والأجواء العربية المكفهرة، غير مهيأة لاتخاذ قرارات مؤثرة، فلكل دولة شأن يغنيها، والاختراقات الصهيونية والغربية أجهضت كل المساعي الخيرة، والإعلام الموجه ليس بقادر على الاستبداد، والذهنية المشتتة ليست بقادرة على الفرز، ولسنا ببعيدين عن التعبئة الذهنية أيام «الجهاد الأفغاني» الذي استجاب لرغبة أمريكا، وأسقط بالنيابة عنها «الاتحاد السوفيتي» ولم تستطع أمريكا بعد أن لعب دوره من تفكيكه، حيث اتجه إليها بوصفها دولة معادية للحضارة الإسلامية. والفراغ الذي تشكل في أعقاب السقوط المفاجئ للحكم في العراق، واحتدام الجدل بين المعارضة العراقية في الداخل والخارج، واحتقان الطائفيات والعرقيات واضطراب الرأي العام، كل ذلك ومثله معه، يشكل مآزق بعضها فوق بعض كما الظلمات وهذه الحرب التي باركها قوم، واستبشعها آخرون، اعتزلتها «الشيعة» وآزرها «الأكراد» وبقيت دول الجوار تفكر، وتقدر، وتعد وتتوعد، وكل واحد من هؤلاء وأولئك يقول في داخله:- اللهم سلم سلم.هذه الحرب غير الشرعية، ستخلق إشكاليات مستعصية، ولكل لعبة ذيولها الأكبر منها، وما «صدام حسين» إلا لعبة اختل تركيبها، فنمت نمواً عشوائياً، كما الأورام السرطانية.
إن باستطاعة أمريكا، وقد تمكنت من تفكيك ذيول اللعب أن ترضى من الغنيمة بالإياب، وتترك ولو مفحص قطاة للمؤسسات العربية والعالمية، لكي تسهم معها في صناعة الحكومة المعتدلة المتزنة الموالية، ولن تتخطى المأزق الحرج بالأثرة، ولكنها مع هذا لم تفعل، ولا أحسبها تفكر، لأنها لا تستطيع إشراك من لم يشاركها على المكاره، كما أنها لن تستطيع البقاء في العراق على مسمع ومرأى من الناس. فالعراقيون لن يقبلوا بالوجود الأمريكي، ولا بالحكومة «القرضاوية» المفروضة عليهم. ولن تجد أمريكا حاكما دموياً مسعوراً ك «صدام حسين» يسوم العراق سوء العذاب. وأحسب أن حكومة يختارها العراقيون بمحض إرادتهم لن تكون مراعية لمصالح أمريكا في الشرق بالقدر الذي تطمح إليه، ويحقق حلم الصهيونية العالمية، والحكومة التي تشكلها أمريكا لن تكون مقبولة لا من العراقيين ولا من العرب، وأمريكا في تجربتها العادلة مع دول عربية ما يبعث على الأطمئنان، لو أنها اتخذت سبيلها إلى مصالحها بالتي هي أحسن متخلية عن مغامرات اليمين المتطرف.
والشائع مظهراً ومخبراً أن العرب بمجملهم غربيون وحتى في زمن المد الشيوعي الذي ظاهره إعلام متفوق، وكثافة بشرية، لم يكن أحد من العرب متشرباً للماركسية، وإنما كانوا متصنعين وإعلاميين، والذين اتخذوها شرعة ومنهاجاً، تحولت سوحهم إلى حمامات دم، وقامت بين فصائلهم حروب أهلية عنيفة، ساقتهم جميعاً إلى مزبلة التاريخ. ومن المسلمات أن:
- الاقتصاد العربي غربي رأسمالي.
- والمدنية العربية غربية.
- والهوى العربي غربي. وواجب أمريكا ألا تفرط بهذا المكتسب، الذي وضع بذرته «نابليون» وتعهدته البعثات والترجمات والمبشرون والمستشرقون والمستغربون. وعلى أمريكا ألا تميل إلى الأثرة، وألا تصيخ للأصولية والصهيونية، فالزمن لا يحفل بالعنف والعنف المضاد، وشركاؤها الأوربيون، لن يسلموا لها بالغنائم، ويعودوا بالمغارم، والموتورون منها، والخائفون من مخططاتها، سيدعمون أي مقاومة، والجيش المتفوق يرتبك أمام فوضى المواجهات، وأمريكا من قبل التدخل العسكري مستأثرة بالكثير من المصالح، وأصدقاؤها التقليديون أوفى منها، وأي تحول من طرفها، سيعكر صفو العلاقات، ومزيد المكاسب الذي تطمح إليه ستنفقه على حماية مصالحها التي لمَّا تزل مستهدفة. لقد دخلت أمريكا في مآزقها منذ أن جُرحت كبرياؤها في الحادي عشر من سبتمبر، ولما تفق بعد من هول الصدمة، وما من أحد قدَّر وقع الصدمة عليها، ولهذا استغرب الجميع تدخلاتها العسكرية، التي لم يجارها فيها أصدقاؤها الأوربيون.
وأوربا بوحدتها الإقليمية تنازع أمريكا الزعامة، وتقاسمها المصالح، لقد اختطت لنفسها موقفاً متزنا، قد يكون في صالحها. ثم إنها تحقق نجاحات إقليمية واقتصادية مذهلة، في تقاربها وتعاونها واتحادها، مما يشكل معادلاً قوياً، وشريكاً مؤثراً في الأحداث العالمية، ودول شرق آسيا تسابق الزمن في التحدي الصناعي الاقتصادي. وما لم تتدارك أمريكا الأمر، وتعتمد على قوة العقل والعدل، وتعد تحسين صورتها، وتطهير سمعتها، وما لم تفق من هول الصدمة فإن الفرصة الذهبية متاحة لأوروبا، وبخاصة بعد الحرب غير الشرعية التي خاضتها منفردة، وبدون غطاء قانوني، ولا أحسب العرب قادرين على مزيد من الصمت، ولا على مزيد من التهميش، وبخاصة حين يتفاقم غليان الشارع العربي، وحين تتعرض مصادر الثروة عندهم للخطر، أو حين تمتد اللعب إلى إنتاجهم القومي ومصدر أمنهم الغذائي، ولا أحسب أمريكا قادرة على احتمال المتاعب التي تعرضت لها في سوح القتال، وفي المشاهد السياسية. وإذ يكون العراق مغدوراً يتشحط بدمائه، ويغالب سكرات الموت، فليس من المعقول أن يظل العرب بكل مؤسساتهم وبكل أرصدتهم القومية التي أتخمونا بها خارج الحدث، وتلك لا شك مآزق محرجة لكل الأطراف. فأمريكا تضع يدها على الزناد، وليس لديها فرصة لتداول الرأي مع الآخر، والعرب مصابون بوهن الفرقة وفشل التنازع، والوضع القائم لا يمكن احتماله. فمن الذي يملك المبادرة، لإقالة العثرات، وفك الاختناقات، وتجاوز المآزق المتنامية؟ هذا الخيار بحد ذاته يعد مأزق المآزق.
«للحديث صلة»
|