* جراح قلب
* علي أحمد النعمي
* 240 صفحة من القطع المتوسطة
جراح قلب دونها جراح الجسد التي يمكن علاجها وشفاؤها.. القلب بجراحه حين لا يشفع له حب تتداعى أمامه كل صور الحياة ورغباتها حتى ولو كان الجسد سليماً معافى.. وأنكى من الاثنين جرحاً حين يصاب المرء بجرح في كرامته وشهامته ورجولته..
النعمي قدم لنا قلباً جريحاً.. والقلوب المعذبة في دنياها تملاً ساحاتها ومساحاتها.. ولكن بأشكال مختلفة..
* قلب مجروح برحيل عزيز لا عودة له..
* قلب جريح بعاطفة حب من الصعب اعادتها من جديد..
* قلب جريح من عقوق يصعب تحمله..
* قلب جريح من حقوق مهدرة ضاع بضياعها رصيده في دنياه..
ويبقى وجع القلب من المرض أقسى تلك الحالات لأنه بداية النهاية.. أي لون من هذه الأوجاع حملت لنا دفة هذا الكتاب الشعري بصفحاته التي تجاوزت المائتين..؟!
مع أول صفحاته إن لم أقل صفعاته القلبية تلك الصفحة المجهولة التي لزاماً علينا قراءة خطابها الشيطاني:-
(مالت عليَّ كأنها الشيطان
ينساب من أشداقها الدخان)
أمرأة تنفث الدخان من لهب فمها لا تطاق.. بل إن طلبها أمر.. وهمسها زجر لابد من اطاعته وهي تسأل:
(ما هذه الأوراق.. ماذا ضمنها؟
هيا أجب يا أيها الإنسان؟!)
وعلى الفور اجابها وشفتاه ترتعشان كما لو أنهما اصيبتا بحمى الشفاة التي لا شفاء منها إلا بالطاعة:
(فأجبتها: هذي قصائد شاعر
فيها النشيد الحلو.. والأشجان
فيها مشاعر أمة.. وتجارب.
وعواطف. ما حدَّها حسبان)
وراح يعددها باعتبارها ثروته التي لا يملك سواها، إلا أنها استذكرت واستكثرت عليه خياره واصفة الشعر بأنه جبان.. وأن الشاعر تمتصه احزان شعره إلى النخاع.. وإلى الضياع في عالم يومه مذكرة إياه بعصور ذهبية كان الشاعر فيها سيد قومه.. وحديث ركبانهم.. ولأنه أسير شعره لم يطلقه.. وانما امتطى زورقه ليغني:
(أيها الساخر في زورقه
لجة البحر وفي البحر خطوره
حاذر الأمواج ان هاجت فما
تهتدي للدرب في الريح الجسوره
وامض للشط بقلب ثابت
عابراً ما كنت تستعصي عبوره)
وددت لو استعاض عن القلب الثابت بالعزم الثابت.. لعله الأنسب.
وفي ابحاره يسرح به الخيال مجدفاً داخل ذاته يستحثه.. ويوطن لديه عزيمته كي لا يجرفه الموج وتتلقفه حيتان البحر. ويرسو على الشط.. ونرسو معه أمام محطة جديدة تأخذنا إلى غيابة الجب: أو غيابه لا أدري:
(كل شيء يسير في العمر ضدي
بتحَدً.. فهل أطيق التحدي؟!
لي في العيش قصة سوف أروي
كل فصل في سفرها المتردي)
نحن في سماع ما يرويه شاعرنا النعمي منصتون.. وقلقون عليه.. سرد لنا بعضاً من مسيرة عمره، كان وحيداً يوم أن خاض لج الحياة بخطوات طائشة تعرت معها أوراق أغصانه وتساقطت لولا بقايا من شجاعة.. وبقايا من أمل:
(فتهادى لولا بقايا رداء
حفظته من قصف برق ورعد
وبريق مشعشع بالأماني
أرضعته أم بأحضان مهد)
يبدو أن أغصان أحلامه أورقت من جديد على دفء الأمل، وماء الحياة..حمداً لله على أن أعاده معافى إلينا في شعره ومشاعره.. ونفس طويل أغرق فيه الوصف، واستغرق فيه التجربة.. وهكذا يكفي.. ولكن.. الأحلام الجميلة لا تدوم لأحد.. ومنهم شاعرنا الذى فاجأنا للمرة الثانية بانكسار مجاديف حلمه:
(شقوة الليل، ومأساة النهار
هو ما بينهما رهن اندحار)
من هو (هو) انه غامض.. بل ضبابي التعريف.. ليت أن شاعرنا تخلص منه بكلمة واحدة تعفينا من السؤال.. هذه الكلمة «كل ما بينهما رهن اندحار»
ويمضي رأسمالنا ظلال يومه وليله.. اليوم ينقضي دون شعور به، وحين يلح الليل يتمنى عليه اطفاء ناره التي تكويه..
فإذا بأشباح الليل تطارده.. فلا نهاره آمن.. ولا ليله سكن.. قصة الحائرين بين خيارين غامضين غير قادرين على جلاء الحيرة..
رغم كل هذا التذبذب بين ما يريد (وما لا يريد تزحمه تأملاته من جديد على ضوء مصباح باهت يتراقص في عتمة الظلام:-
(في الليل، يا لليل لما اعتكر
وليس من نجم يرى. أو قمر
كم هاتف يسري، وكم عالم
يجري، وكم بينهما من صور)
يصف الليل بالحضن الرؤوم الذي يرتمي فيه من أحب الله.. وركن إلى طاعته مستثمراً هدوءه وبعده عن صخب المادة وتعب النهار.. القصيدة كجل قصائد
ديوانه طويلة.. يغلب عليها المباشرة.. والتقريرية.. داخلها مقطوعة وعظية تفتقر إلى الرومانسية وايقاعاتها الرتمية والجمالية..
للوهلة الأولى أحسب شاعرنا غاضباً ورافضاً.. هكذا أوحى لنا عنوانه «لا يا فالحه».. ربما لم تعجبه حركاتها وراح يعاتبها.. ويحاورها لأنها امرأة غامضة تثير هواجس النفس ووساوسها قال عنها:-
(تقول قولاً دون أدنى حياً
في لهجة سيئة فاضحه
زوجي الذي سلمته خافقي
عن طيبة في رغبة جامحه
يغتالني بالصمت في يومه
وليله في صورة واضحة)
لماذا لم تقل في صورة فاضحة.. كي ندرك المعنى ونعرف السبب لتلك الشكوى؟! وتسرد تلك الأنثى الثائرة على شاعرنا بعضاً من معاناتها.. وكيف ينظر
إليها شريك حياتها..
(فكلما حدثته عن منى
قلبي. وعن آماله الطامحة
يزوغ عن عمد.. لأبقى له
طابخة، غاسلة، ماسحه)
أما أحاسيسها كزوجة فقد اغتالها بصدوده، وتساءل شاعرنا لماذا؟ وكيف؟ وماذا تعمل؟ ويأتي جوابه:-
(عودي إلى زوجك، كوني له
حمامة في روضة صادحه
عودي إلى الباحث عن همسه
دافئة من زوجة صالحه)
البناء الدرامي للقصة الشعرية يكتنفه الخلل التحليلي.. بل ان العظة لعودتها إليه غير مفهومة لأنها لديه وتعاني منه مر الشكوى.
وكان الأجدر بشاعرنا إن هو وقف على الحقيقة مجردة دون لبس مطالبة الزوج المهمل الذي ارتأى في زوجته مجرد خادمة أن يخاف الله.. ويحفظ لها حق الزوجية دون صغار واحتقار، فالزوجة شريكة حياة، الرباط بينهما مقدس ما لم تخترقه خيانة أواستهانة بأمانة من حقها أو من حقه..
شاعرنا متيم بالليل.. وشخوص الليل.. ربما لأن الليل معشوق الشعراء دون سواه.. فيه يستوحون أشعارهم.. وفيه أيضاً يبوحون بأسرارهم أكثر من نهارهم.. حتى في الزمن الضائع:-
(تسأله ليلاً لماذا الضجر
والهم، والغم، وفيم الكدر
هب أن شيئاً جدَّ قاس على
قلبك في درب طويل السفر
فنزَّ منه الجرح، اذ غاب في
طياته سهم عميق الأثر)
بعض أسئلتها له.. ثم راحت تذكره.. وتتذكره:
(أنت الذي يهتز مهما عتا
خطب، ولا من كاع خوف الخطر)
الاهتزاز هنا نقيض الاعتزاز إذا كان المقصود به مدحاً واظنه كذلك.. ثم كلمة «كاع» نشاز في لفظها ومعناها.
وإذا كان المقصود أيضاَ اشادة ببطولته فلتكن مفردة (هاب) خوف الخطر.. هذا البعض من الكثير الذي قالته لزوجها.. منتظرة منه على أحر من جمر رده عليها.. وكان الرد:-
(يا أم أولادي التي ساندت
شريكها رغم قيود الأُسَر
وشاركته في الأسى والرضا
وعاونته في الصفا والكدر)
غيض من فيض اعترافاته لها بالجميل.. وتبقى المفاجأة المنكرة من ذلك الزوج الجاحد للجميل:-
(حسبك بعد الآن أن تدركي
بأن حلم الأمنيات انكسر
وأن دنيا الشعر ليست كما
عهدتها عبر زمان.. غبر)
ما دخل الشعر قديمه أو حديثه في علاقة حياة مشتركة بين زوجه وام اولاده.. عملية اقحام غير مفهومة ولا مهضومة.. بل ان حبكة البناء الشعري مضطربة في سردها ونقلها تحتاج إلى صياغة تخدم الفكرة.. وتروضها لصالح العمل معنى ومغنى.. كي يأتي سامياً في تصوره وتصويره للتجربة الواقعية..
وللتسامي صفات سوف يدلنا عليها شاعرنا علي النعمي من خلال استقرائنا لديوانه «جراح قلب»
(التسامي لمن أراد التسامي
مطر، وردة، فروع، بشام)
هكذا حدد لنا أربع صفات لتساميه.. واحدة منها «بشام» لم أفهمها.. وأخريات هي الجذور بعيدة الغور المثالية.. السلوك. المظهر. العطاء والسلام، حفظ الجميل، خفض الجناح، الفضيلة، الوفاء، التفاني، حسن أخلاق، رفق، كسب حلال، حسنى، عفو، فضل، حشد من المفردات حشرها إلى درجة التيه في ممراتها بشكل انشائي، وعظي ينتهي إلى هذين البيتين:
(قمم المجد ما تدنت لقزم
انما السفح قمة الاقزام
انه يقبل الزحام، ولكن
قمم المجد فوق أي زحام)
تجاوزنا ثلاثة أرباع الدرب أو كدنا ونحن ندلج في سيرنا بين قلب موجوع، وقلب مفجوع.. وقلب نازف، وآخر خائف.. القلوب كلها في جادتنا مضطربة ونحن لا نكاد نلوي على شيء إلا في حدود ما به تسمح مساحة الرحلة.. لهذا فإن تجاوزنا للكثير من محطات الديوان لا يعني التقليل من قيمتها.. وسأحاول ان انتزع منها الأفضل والأكثر اشراقاً:
«سناء الشهيدة» لعله يعني بها سناء محيدلي شهيدة الجنوب اللبناني:
(في خيالي تمور الف قصيده
وبقلبي تثور ألف تفيده
وعلى هامتي تطاول مجد
يعربي إلى حدود بعيده
حين قالت سناء قولتها الحق
والغت كل الفروق البليده
حين قالت: لا تندبوني ولكن
زغردوا فرحة لأني سعيده)
لعل هذه القصيدة التي صاغها عن عشق وعن انفعال لا افتعال فيه من أجمل قصائده شعرية وأكثرها امتاعا واشباعاً..
اختهما بقوله:
(لك عهد ان الجنوب سيبقى
وطن المجد يا سناء الشهيده)
وقد بقي جنوب لبنان حراً كريماً بفضل دماء شهداء ورجال مقاومته.. وتلاحم ابنائه في وجه الاحتلال وعملائهم.
ما بين الخطوة والاغفاءة موقف غاضب محتد لا أعرف سببه.. ولا من يشير إليه غضبه إلا أنه غضب يثير العجب وربما الاعجاب..
(بعد قهر عانى كثيراً بلاءه
يجهل الطب والطبيب شفاءه
ولأمر في نفسه مستكن
قاء هُجراً كالقطة الموّاءه
ما لعلان في المحافل يحظى
بمكان عال.. فكيف أجاءه)
أجاءه مفردة مبتسرة.. في مقدور شاعرنا الغالي أن يعيد إلى شطره شيئاً من توازن لو انه اورده على النحو التالي:
(بمكان عال، لم الحظه جاءه؟)
ويبدو أن مرجل الغضب، وخط الهجاء في تصاعد:
(أيها العاثر المجاهر بالحقد
انكساراً حسب الضعيف انحناءه
خفف الوط، فالطريق طويل
ولكم تخدع القميء القماءه؟!)
لا مكان هنا لعلامة الاستفهام ولا حتى التعجب لأنها توصيف لحالةمجردة من كل غموض..
وأخيراً مع الطفولة في مقطوعته الأخيرة لعلها مسك الختام لرحلته الشعرية:
(كانت لنا زمن الطفولة فرصة
نلقى بها الدنيا بوجه باسم
نأتي، ونذهب وادعين تخالنا
سرب الحمام يرف حول قشاعم
نبني قصوراً، ثم نهدم جانباً
منها.. ونمرح في حبور دائم)
القصور التي نبنيها من الرمال ونحن أطفال نهدها ولا نبقي لها أثراً كي نعيدها من جديد.. بهذا المعنى حسناً لوجاء شطره ما قبل الأخير على النحو التالي:
(نبني قصوراً ثم نهدم ما انبنى).. ربما يكون أكثر واقعية.. رغم أن هدم البعض صحيح إلا أن هدم الكل أصح.
ويسترسل شاعرنا النعمي في نقل صور حياته الطفولية مع اقرانه الصغار مسترجعاً تلك الذكريات متمنياً لو أنها عادت من جديد وما هي بعائدة لا في احلامها.. ولا في براءتها..
صغيرين نرعى البهم يا ليت اننا
إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم
كلنا نتمنى العودة.. ولكن الشاعر يقطع علينا خط الرجعة:
ألا ليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما فعل المشيب
وبعد أيها الصديق العزيز قضيت معك بعض وقت ممتع فيه ما أعجبني وفيه ما أثار لدي شيئاً من التعجب لايماني انك تملك القدرة على التصويب اذا ما حاولت.. وتملك المقدرة على صياغة الفكرة إذا ما انفعلت.. وحسبي انك في خط سيرك الشعري ستزودنا بزاد نلتهمه بعقولنا قبل أفواهنا لأنه جيد وحلو المذاق.