Monday 28th april,2003 11169العدد الأثنين 26 ,صفر 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

نافذة أوسع نافذة أوسع
د. عبدالرحمن الحبيب

يقول لي صاحبي الشاعر: ضاق رسم الحروف عليَّ وضاق الكلام، لم يعد للشعر معنى إزاء ما يحدث.. فلسطين أُمُّنا وقد سلبت، والآن العراق عنوان تاريخنا ومجدنا، وغداً سورية قلبنا النابض.. فماذا تبقى؟ إن قصائدنا النضالية وعنترياتنا الأدبية ليست إلا ترفاً فكريا.. قد توالت علينا الهزائم والخيبات حتى غدت نصوصنا سماجة متفرجين لا يتقنون سوى الكلام الرخيص.. فالسكوت أولى! قلت له: إن صمت الشاعر خيانة للنص الجمالي، قال: قد فقدت القدرة على الكلام!
قلت لصاحبي: لطالما جادلتك في انغماس شعرك ونصوص غالبية الأدباء الجادين في أتون السياسة والقضايا الإنسانية العامة.. أليس في فضاء الادب متسع لحيز آخر.. للجمال والبهاء والفرح والحب والغناء والتجارب الشخصية وتسجيل التفاصيل المهملة والهموم الإنسانية الخاصة.. بوسع الأدب والفن والشعر أن تنهل من كل ذلك كي نحس أننا جديرون بحياة أفضل وبأن عالمنا متنوع بجماله وقبحه.. كان يقول: لا وقت للبهجة.. لا وقت للمتعة فالغزاة رابضون على الحدود والمتآمرون يجوبون شوارعنا ونحن وحدنا.. وكنت أقول: إن غاية ما يصبو إليه الغزاة أن ننطوي على أحزاننا ونغلق النوافذ عن مباهج الحياة فينتصرون علينا من داخل ذواتنا.. حتى وصل الأمر أن ينتحر شعراء مثلما فعل خليل حاوي إبان غزو إسرائيل للبنان.
لاشك بأن قضايا وطننا العربي وفلسطين والعراق وهموم الأمة تستحق منا الكثير، ولكن ليس في صالح إثراء الشعر والأدب والفن أن تنحصر غالبية الموضوعات في هذه المجالات فقط.. فإثراء وتنوع الأدب العربي هو مجابهة حضارية للخصوم.. وحصول المتعة الفنية هو في ذات الوقت دعم معنوي لنا لمواجهة الأزمات، ليس بالشعر أو الأدب نتعرف على هموم أمتنا ونرتفع بوعينا السياسي فهذه مهمة الكتابة الموضوعية والعلمية من سياسية واجتماعية وتعليمية وثقافية عامة.. الخ. وأنا أزعم أن مهام العمل الأدبي والفني هو الرقي الحضاري من خلال حصول المتعة اللغوية والتصويرية الخيالية والتثاقف الجمالي وترويح النفس المثقلة بالهموم والتعالي على المعاناة والأزمات القاسية.. إنه دعم روحي ومعنوي لمجابهة مكابد الحياة من خصوم وأمراض وعلل داخلية.. فإذا تمكن الخصم من القضاء على الفرح في داخلك يكون قد استحكم حالة الصراع معك، وأصبحت رهينة لمناوراته.
المتعة والمرح ليسا شيئا ثانوياً نلغيه وقت الأزمات المستديمة، بل هما عامل نفسي أساسي لمجابهة الأزمات، فكما وضح لنا مختصو أمراض القلب والعلل النفسية بأن الراحة النفسية والبهجة والضحك والحبور هي مفتاح لصحة الجسد والنفس، كذلك فإن انفتاح الأدب على كل صنوف التجربة الإنسانية ومن ثم تأديته لغرضه الأساسي وهو المتعة الراقية هي مفتاح لنجاح دوره الصحي حضاريا.
لكل مقام مقال.. هكذا قالت العرب.. ليس من مقام الفن مقالة السياسة والعلوم، هذا لا يعني أن الفن خال من الالتزام بالقضايا الإنسانية بقدر ما يعني أن دوره ليس سياسياً مباشرا كما أنه من مقام البحث العلمي الانجراف في السياق الادبي أو السياسي.. ليس من مقام الهندسة الحديث عن اللغة.. ليس من مقام خطيب صلاة الجمعة التعبدية أن يزجنا في خطاب سياسي ذي اجتهاد فردي.
ليس من مقام السياسي أو الداعية إصدار فتاوى دينية.. الخ. هذا ما قلته لصديقي النقابي في إحدى الدول العربية، حين حللت ضيفاً عليهم في نقابتهم الزراعية حيث الحوار النقابي الزراعي والمواقف التي ينبغي أن تتخذ كان جلها عن الانتفاضة في فلسطين! وكان النقيب يفهم ويُعنى بالسياسة أكثر مما تعنيه الزراعة!! وهنا تضيع الزراعة وتضيع التنمية وتضيع فلسطين..
الشاعر الفلسطيني الأشهر محمود درويش قال يوماً: «أنقذونا من هذا الحب»، في إشارة لمبالغة المثقفين العرب في تبجيل كل ما هو ثقافي فلسطيني، حتى غدا النتاج الأدبي الفلسطيني بغثه وسمينه رائعاً لمجرد أنه فلسطيني وانتفى النقد الموضوعي.. فمن يجرؤ على نقد عملٍ فلسطيني سيتهم بالخيانة أو التخاذل، حيث يسيطر العاطفي على الموضوعي.. بينما الفلسطيني يرغب بالنقد كي يمارس إيجابية الاختلاف الطبيعية بين البشر.
وفي زعمي أن الإشكالية الكبرى التي ترهق كثيراً من مثقفينا العرب هو الازدواجية بين العاطفية والواقعية.. بين الذاتية والموضوعية.. بين التخصص والعمومية.. وغالباً ما تنتصر العاطفة والعمومية نظراً لسهولتها.
عندما تنظر للعالم الفسيح من خلال ثقب العاطفة الذاتية فأنت مرتهن لهذه العاطفة بصحيحها وعليلها.. وأنت محاصر بالانفعالات المتقلبة.
عندما ننظر كمثقفين من أدباء وفنانين ونقاد إلى السياسة من خلال ثقب قضية فلسطين نكون أسرى تداعيات هذه الحالة.. فحين نختلف أو نتصارع مع الآخر الغربي فثمة فلسطين.. أمريكا تضرب العراق بسبب هيمنة الصهيونية على قرار البيت الأبيض..
أمريكا تهدد سوريا بسبب موقف الأخيرة من القضية الفلسطينية.. أمريكا تعادي إيران نتيجة اللوبي الصهيوني.. الإدارة الأمريكية تمارس غطرستها على العالم بسبب مستشاريها الصهاينة.. وفي النهاية نصدق أن أمريكا الدولة القارية الأعظم في العالم حبيسة رغبات دولة صغيرة مصطنعة اسمها إسرائيل.. وفي المحصلة فإن كل ما يحدث في هذا العالم هو نتيجة مؤامرة صهيونية أو إن لهذه المؤامرة دور فيها.. فكيف إذن ينام الشاعر أو الأديب أو الفنان إذا لم يفضح هذه العلاقة الغامضة الغريبة بين الصهيونية وقرارات الدول العظمى التي لا هم لها سوى سلب أرضنا الفلسطينية وسلب هويتنا العربية الإسلامية؟
العالم ليس ثقباً ضيقاً ينحصر في أفعال الصهاينة.. العالم فسيح ومتنوع ومعقد يا صاحبي الشاعر.. والعالم ليس سياسة فقط.. والسياسة ليست فلسطين فقط.. وفلسطين ليست حدوداً جغرافية فقط.. إنها بشر وحضارة رائعة متنوعة.. فمن هذا الجمال اصدح بشعرك ولا تكثر من البكاء كي لا يفرح الأعداء.. شارك الفلسطينيين والعراقيين حب الحياة والمرح كي تساندهم.. افتح النوافذ في الجهات الأربع.. افتح نافذة أوسع كي ترى الحياة!

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved