ءالشيء الذي يبدو في الحرب واضحاً هو أنك تعرف أن الموت سيكون المنتصر في النهاية، ربما لم نتكلم كثيرا عن المتطوعين العرب، لأنهم بدوا في بعض حالات الحكاية العراقية أشبه بالصفحة الغامضة التي لا يمكن أن تستوقفك كثيرا، ربما لأنك تخشى في قرارة نفسك رؤية حجمها الحقيقي، أو ببساطة رؤية حجم المأساة فيها.. عن قصد، أو عن غير قصد، أهملنا الكلام عنهم، هؤلاء الذين جاءوا إلى بغداد لتحقيق حلم مكسور.. لم يكونوا بالضرورة يدافعون عن نظام الرئيس العراقي الذي بدأت تتضح معالمه الخاصة من خلال المقابر الجماعية وأماكن الموت السرية التي كان فيها المئات من الأبرياء يمرون على الأسلاك الكهربائية الخاصة بالتعذيب، أحيانا لسبب تفوههم بشيء لم يقصدونه.
كانوا يموتون لأجل كلمة، أو ربما لأجل أمنية.. لهذا حين اندلعت الحرب، لم تراهن الولايات المتحدة على أي اختلال في القوى قد يحدثه المتطوعون العرب داخل المعركة، أولا:لأنهم جاءوا من دون أي تدريب حقيقي، وثانيا: لأنهم جاءوا إلى نظام تخلى عن مدينته هربا تاركا إياهم يهيمون على وجوههم في دولة لا يعرفون شوارعها جيدا ولا يتكلمون لغة شعبها جيدا.. بإمكان أي عراقي أن يصادف جزائريا أو مغربيا أو لبنانيا في بغداد ليقول: هذا واحد من المتطوعين.. حتى لو كانوا مجرد مقيم في العراق.
هذا لأن الملابسات الأمريكية جعلت العراقي البسيط يغير رأيه فيهم، مصمما على فكرة أنهم جاءوا إلى العراق دفاعا عن نظام القتل الجماعي والسجون المظلمة القائمة تحت الأرض التي أقامها صدام حسين لسلخ جلود شعبه فيها.. ولكن .. هل تطوعوا بمحض إرادتهم حقا؟ قطعا لا ! لقد رأيت بعضهم، كانوا شبابا، ربما بعضهم لا يتجاوز العشرين، في أوروبا نقول إن العشرين هي أم الأحلام.. لكنهم بلا شك لم يعيشوا الحلم كي يتناولونه في كلماتهم اليومية.. لأنهم كانوا على صغر سنهم ضحية الغرب القاسي، ضحية الأيدلوجيات غير المتساوية، والقيم المحبطة، والانحلال السياسي الذي صنع قتلة في لباس المحررين ! لم تكن الحرب على العراق السبب الوحيد في خروجهم من بيوتهم ومن حياتهم اليومية ليأتوا إليه، ثمة حروب كثيرة، ومآس ساهم في إضفاء شرعيتها المجتمع الغربي البارد وغير المكترث بحياة أو بموت الشعوب الضعيفة .. هؤلاء الشباب شاهدوا الكثير من المآسي في وقت زمني قياسي.. شاهدوا كيف كانت القنابل تحصد الأرواح في أفغانستان لأن الولايات المتحدة كانت تطارد «أسامة بن لادن» على جثث الأطفال والشيوخ والنساء، مثلما شاهدوا كيف يموت طفل فلسطيني بين أحضان والده، دون أن يكون له ذنب في شيء.. مثلما شاهدوا كيف يبكي الرجال أمام صدمة الخراب الذي يصيبهم في الأراضي المحتلة وكيف يفقد الإنسان كرامته أمام دبابة إسرائيلية تدمر منزلا لا يعجبها شكل سكانه.. شاهدوا ذلك كثيرا، يوميا، كل ساعة.. وكانوا يكبرون داخل إحساسهم بالكراهية للغرب المنافق باسم حقوق الإنسان!
حسب الرقم الذي أدلى به وزير الإعلام العراقي السابق «محمد سعيد الصحاف» وبعض المصادر الأمريكية تكلمت عن 8000 متطوع .. المسألة ليس دفاعا عن نظام فاشٍ وقاتل.. بل كانت الدفاع عن جبهة سلام، رفضا للأمركة التي أرادت أن تعطي لنفسها شرعية دولية، كي تحدد للعالم ما عليه فعله.. كم كان عددهم الحقيقي؟ قطعا لا يهم عددهم الحقيقي، لأن الذي يهم هو مصيرهم الآن، وقد انتهت الحرب.. ربما لم يسأل العراقيون عن مصير هؤلاء الذين جاءوا إليهم لحمل السلاح في وجه الأمريكيين، طارق«شاب عربي التقيته شخصيا في بغداد.. كان يبحث عن طريقة ليغادر فيها العاصمة العراقية بعد الحرب، جاء يحلم بالمعركة الحاسمة، لكنه لم يطلق رصاصة واحدة لأنه لم يجد من يطلق عليه النار حين تخلى عنه هو ومن كان معه أفراد من الجيش العراقي.. كان مستعدالتفجير نفسه في وجه العدو كما يقول، ولكن ...أفراد من الحرس الجمهوري قالوا له بالحرف الواحد«لا يستحق رجل كصدام أن يموت المرء لأجله..» اكتشف فظاعة أن يأتي قاطعا مسافة كالتي قطعها ليقال له ذلك.. يقول حزينا ومنهارا:«هل العراق هي صدام حسين فقط؟».. مشكلة العراق اليوم أنها اكتشفت هشاشة الأحلام.. ربما مأساة أي نظام أنه يؤسس ثقافة شمولية، للدفاع عن شخص واحد فقط.. شخص مثل صدام حسين مثلا .. لهذا، انهيار بغداد كان لأن العراقيين رفضوا الموت لأجل صدام حسين، هذا ليس كلامنا، بل كلام العراقيين أنفسهم.
(*) «لومانيتي» الفرنسية
|