حتى قبل أن يبدأ عمله في العراق، كان ل«جاي غارنر» حقه في موقع عبر الإنترنت يحمل اسمه، هذا الموقع بالذات أسسه بعض سكان سان فرانسيسكو، للإعلان للرأي العالم الأمريكي والدولي أن تنصيب هذا الجنرال السابق على رأس «مكتب التعمير والإشراف الإنساني» المكلف بإدارة العراق، ما هو إلا فضيحة أمريكية بعينها!
«جون سميث» الإعلامي في جريدة «سان فرانسيسكو ديلي» كتب يوم الإعلان عن اسم «حاكم العراق الإداري الجديد» قائلا: كيف يمكن أن تتورط الولايات الأمريكية في كارثة كهذه في العراق؟! «طبعا كارثة.. لأن «جاي غارنر» لا علاقة له سوى بالصواريخ والتسليح وتطوير القنابل العنقودية.. وأنه جاء مفروضا على العراقيين من القوة العظمى، كيف حدث ذلك ؟
قبل الرد على «كيف؟» يجب أن نرد على سؤال مهم وهو: من هو جاي غارنر؟ ولد «جاي غارنر» في أبريل من سنة 1991م من أم يهودية وأب أمريكي ايرلندي الأصل.. قيل إنه كان من الضباط القلائل في الجيش الذي كان يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والأمريكية معا.. وأن هذه الازدواجية خلقت له مشاكل مع رؤسائه، كان على وشك التخلي عن الجيش لولا أنه اختار وهو بعد لم يتجاوز الخمس والعشرين سنة، أن يعيش إسرائيليا بجنسية أمريكية.. كان ذلك ربما أصوب ما فعله «يقول في حوار معه للبي بي سي» السنة الماضية.. لأنه باختياره أن يكون أمريكيا في نظر الآخرين خفف قليلا من نظرة التحقير الذي كان يوجهها له مسؤوله المباشر، بأن الجندي يجب أن يكون ملتزما للبلد الذي رباه ومنحه السمعة والأمان..!
اسم «جاي غارنر» ظهر بشكل ملفت للنظر سنة 1991.م، حين عمل منسقا رئيسيا للمنظمين الذين قادوا عملية «بروفيد كومفورت» التي قادتها الولايات الأمريكية وبريطانيا، فرنسا، وتركيا، تحت سقف الأمم المتحدة، لتقديم المساعدة للأكراد الذين أعلنوا حالة من العصيان المدني بعد حرب الخليج الثانية، والذين انضموا بشكل حركته الإدارة الأمريكية إلى الغضب الذي اجتاح مدينة البصرة وقتها، والذي صدته بعنف آلية القمع للنظام العراقي..
«بروفيد كومفورت» كانت تسعى إلى تأمين المساعدات للملايين الفارين من كردستان العراقية، وفي الوقت نفسه كانت قد أرسلت أطنان من المناشير لسكان الشمال والجنوب كي يثورا على النظام العراقي، مانحة إياهم «حق الدعم» لهم كأفراد وأحزاب معارضة سرية.. لكنهم حين ثاروا لم يجدوا الدعم، إذ سرعان ما تخلى عنهم أولئك الذين أكدوا لهم أن الإعانة والرفاهية لا يمكن فصلهما عن القرار السياسي بالثورة (حمل السلاح) ضد نظام صدام حسين..
كانت النهاية مأساوية في الشمال والجنوب، بحيث استطاع صدام حسين محاصرة دائرة العصيان المدني وتقليص فعاليتها ثم إلغاء دورها نهائيا، أمام مرأى من «جاي غارنر» والذين حمل ومن معه شعار «الحرية المشروعة»!!
الإدارة الأمريكية لم تعتبر »«غارنر» مخفقا في مهمته، بل على العكس تماما، منحته وسام الاستحقاق، وعينته قائدا عاما لهيئة التسليح.. تعيين «جاي غارنر» كان بمثابة الهدية الرسمية إلى إسرائيل التي استفادت في عهده من صفقات عسكرية في مجال التسليح.. كان يميل إلى إسرائيل ليس لكونه من أم يهودية، بل لأنه يشعر بالالتزام نحو البلد الذي عايش «محرقة» الحكم النازي، بحكم صلته الوثيقة بجمعية «الذاكرة Memory» التي ساهمت بشكل مباشر في جمع أموال اليهود الذين ماتوا في «المحرقة الألمانية» من البنوك السويسرية التي قبل عشر سنوات من ذلك التاريخ كانت تعتبر الحديث عن «أرصدة اليهود الميتين» أمرا مرفوضا، قبل أن يصل «هنري نونياك» ( يهودي الأصل) إلى إدارة أهم فرع بنكي في لوزان السويسرية.. في سنة 1997.
حصل «جاي غارنر» على تقاعده، وقد كان عمره 58 سنة.. ثم اختير رئيسا لمؤسسة تصنع المعدات الإلكترونية الموجهة إلى الطائرات والصواريخ«SY Technology» التي صار اسمها فيما بعد «SY Coleman».
وفي سنة 2002، عمل » جاي غارنر» على تطوير صواريخ » الباتريوت»، ( كسب أرباحا طائلة من صناعة الصواريخ التي أسقطت على مدينة بغداد) قال «ميديا بنيمين» المسؤول عن شبكة «Global Exchange» قبل أن يضيف: «كيف يمكن الثقة في شخص كهذا لإدارة العراق؟» الأمر الثاني الذي ترى فيه قوى السلام أن «غارنر» انتهكه، هو أنه في سنة2000، قام الجنرال المتقاعد بزيارة إلى إسرائيل، بتنظيم من المؤسسة اليهودية للشؤون الأمنية الدولية «Jinsa» الذي يشرف عليه مركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن، ليس هذا فقط، بل أن «غارنر» أمضى مع عدد من المسؤولين العسكريين الإسرائيليين وثيقة لإدانة الانتفاضة الفلسطينية معتبرا أن المقاومة الفلسطينية ما هي إلا إرهاب مسلح، داعيا الولايات الأمريكية إلى دعم إسرائيل لإنهاء خطر «الإرهاب الفلسطيني ضدها !» من وجهة نظر عربية وإسلامية، ليس هنالك شك أن إدارة «جاي غارنر» لشؤون العراق أمرا مزعجا إن لم يكن مرفوضا، فجاي غارنر لم يفوت أدنى فرصة لمساندة إسرائيل في إبادتها للفلسطينيين، وبالتالي هو نفسه يعترف أنه إسرائيلي مخلص..
يقول «أبراهام هوبر» المسؤول عن هيئة العلاقات الأمريكية الإسلامية وهي مؤسسة مناهضة للتطرف اليهودي في الولايات الأمريكية، الصواريخ وإسرائيل اجتمعا في حياة «جاي غارنر»، إبان حرب الخليج الثانية.
ساهم «غارنر» في تسليم صفقة صواريخ «باتريوت» مجانية إلى الدولة العبرية، لحمايتها من صواريخ «سكود» العراقية، كما أنه أدار نظام الحماية الأرضية المتخصصة في التصدي للصواريخ.. كان واحدا من المتخصصين في تطوير القنابل العنقودية، التي أحدثت ثورة في التسليح في الولايات الأمريكية، معلنة عن بداية عهد جديد من المسميات التي صاغها الكونجرس في إطار الصواريخ «الذكية» و «أم القنابل» والقنابل العنقودية الجديدة..
يعد الجنرال «جاي غارنر» من المقربين لديك تشيني سكرتير الدفاع إبان حرب الخليج الثانية، ومن «دونالد رامسفيلد» الرقم واحد في البانتاجون حاليا، لهذا فإن أكبر تهمة وجهت إليه اليوم من جهات كثيرة داخل الولايات الأمريكية وفي أوروبا «التي رفضت الحرب» على العراق هي: «جاي غارنر» متهم بازدواجية في اللعب، كونه عسكرياً من الدرجة الأولى، ومتورطاً في حروب كثيرة، لا يصلح اليوم بأي حال من الأحوال أن يكون مسؤولا عن تعمير دولة ساهمت الصواريخ التي طورها في دمارها..!».
«*»(اللوموند)
|