لا تعطينا معاجم لغتنا الخالدة معنى لكلمة «غَطَّى» غير الستر والإخفاء، فهي لا تعني أبداً الإيضاح والبيان، وحينما تأمَّلت المصطلح الشائع «تغطية صحفية» عجبت لاستخدام هذه الكلمة في غير موضعها، وفي معنى مخالفٍ لمعناها، فنحن عندما نسمع أو نقرأ كلمة «تغطية صحفية»، إنما نفهم منها الإيضاح والبيان والكشف لما جرى في لقاءٍ أو مناسبة أو مهرجان أو عملٍ سلميٍّ أو حربي، مع ان معنى الكلمة «الستر والإخفاء»، وهما ضد الكشف والبيان.
وقلت لنفسي وهي تتساءل عن السرِّ في هذا الاستخدام اللغوي المخالف، لعل من وضع هذا المصطلح يقصد ان الصحيفة من خلال الصحفيّ تتتبع جوانب الحدث الذي يحضره كاملاً فلا يدع شيئاً يمكن بيانه للناس إلا أشار إليه فهي تغطية لمساحة الأعمال والأقوال التي تجري في موقع من المواقع وحدثٍ من الأحداث.
ثم تساءلت: من الذي وضع هذا المصطلح الإعلامي، وهل هو مصطلح عربي المنشأ، أم انه ترجمة لمصطلح غربي؟ ولكنني لم أجد جواباً عن سؤال نفسي، ولم أشغل نفسي بالبحث عن جواب لهذه المسألة التي لا تُصنَّف في المسائل المهمة.
ومضت بي الأيام كما تمضي بأهل الدنيا، وحضرت عدداً من المناسبات العامة والخاصة داخل المملكة وخارجها التي تكاد تعشى عيون الحاضرين فيها من لمعان عدسات التصوير العجيبة وأنا شديد المتابعة لحركات المصوّرين في هذه المناسبات لأنَّ فيها من الطرافة ما يمكن أن يخفّف من الإحساس بالملل من طول الجلوس في بعض المناسبات.
أقول: حضرت عدداً من المناسبات وما زلتُ أحضر وأعيش ما يجري فيها من أعمال وأقوال، وكلماتٍ ومواقف فيها من الامتاع أحياناً والطرافة والفائدة، والجدّة، ما يجعلني أقول في نفسي: يا لها من مادّة إعلامية دسمة سيسعد بها القرَّاء أيّما سعادة حينما يرون في الصحف، «تغطية صحفية شاملة لها»، وحينما أطالع الصحف في اليوم التالي أو الذي بعده أجد «تغطية صحفية» في الغالب تميت تلك الرّوح المتألقة التي جرت في تلك المناسبة، وتطوي عن الناس كثيراً من المواقف والأفكار والمعلومات المهمة، وتُعْنى بشكليّات باهتة يموت معها الموضوع، ويخفت بها بريق تلك المناسبة الذي كان وهّاجاً حين إقامتها.
وانقدح في ذهني المعنى الصحيح لكلمة «تغطية صحفية»، وشعرت أن التعارض بين اللفظ والمعنى بدأ يزول، بل أحسست ان كلمة «تغطية» تُستخدم هنا في معناها اللغوي الصحيح، وقلت في نفسي: لعل الذي وضع هذا المصطلح كان يقصد المعنى الصحيح لكلمة «تغطية» وهو الستر والإخفاء وعدم الكشف، وإنما فهم الناس الفهم الآخر الشائع بينهم.
فما دامت الصحافة غالباً تغطّي عن القرّاء جوانب متعدّدة من المناسبة، قد تكون هي الأهم، وتُعْنى بكشف بعض الجوانب انطلاقاً من توجُّهٍ معيَّن تخضع له الصحيفة، أو توجيه معين تستجيب لهو، فإن كلمة «تغطية صحفية» هنا تستخدم في معناها الأصلي ألا وهو: الستر والإخفاء.
أيها القرّاء الكرام ... لا تظنوا كل تغطية صحفية ترونها تعني «الكشف والإيضاح»، أبداً، فهي حسب التجربة تعني التغطية والتعمية وإماتة المناسبة أحياناً بل ربما قلبت لكم ما جرى في المناسبة التي تغطيها رأساً على عقب، وأبرزت لكم ما لا يستحق الإبراز، وأخفت عنكم ما كان جديراً بالإظهار..
إنني لا أشي بالصحافة حينما أخبركم بهذا، وكيف أشي بها وأنا ألقاكم على جزء من مساحتها الواسعة، ولكنني أصحّح مدلول كلمة تشيع بين الناس، وأوضّح معناها الصحيح، حتى يكون الحكم لها أو عليها منصفاً..
ومع ذلك، فنحن نحتاج إلى «كَشْفٍ صحفي» يضيء المناسبات، ويسلّط الضوء على ما يجري فيها ب «شفافية صحفيّة» تنقل الحدث إلى الناس نَقْلاً مفيداً.
إشارة:
واهمٌ من يحسب الميدان سهلاً
إنَّما تقطعه الخيل العِتَاقُ
|
|