في التاسع عشر من جمادى الأولى لعام ستة وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة شهدت مدينة الرياض ميلاد مؤسسة الملك فيصل الخيرية، والواقع أن مخاض هذا الميلاد لم يكن عسيراً ابداً إذ سهر عليه ورعاه الأبناء البررة؛ أبناء الفيصل العظيم.
والمتأمل في هذه المؤسسة يجد أنها وُلدت يافعةً وعزيزةً؛ يافعة إذ إنها وُجدت لتحمل على عاتقها مسؤوليات جساماً، وكلها تصب في خدمة الاسلام والمسلمين في كافة أنحاء المعمورة، ونشر الخير للإنسان حيثما كان.
وعزيزة لعدة أسباب: فهي تحمل اسم شخصية مرموقة إنه الفيصل رحمه الله ثم إنها بوركت بمرسوم ملكي كريم يحمل الرقم أ/134 وإن جاز لي أن ابتعد قليلاً عن حقيقة هذا الرقم لكونه توثيقاً للمرسوم الملكي المبارك، فلعلي أرى فيه تكريماً لجهد الأبناء الثمانية؛ فحرف الألف قد يرمز إلى (أبناء الفيصل) وقد تُجمع أعداد الرقم 134 ليكون المجموع ثمانية؛ أي «الأبناء الثمانية» وهذه خاصية تتميز بها هذه المؤسسة الخيِّرة دون غيرها، يحملها ثمانية آمنوا بربهم وبرّوا بوالدهم برّاً عظيماً تجسد فيه قول رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»، ثم هي عزيزة لأنها حظيت بأن يتولى رئاستها العليا الرجل الأول في الدولة؛ بدأ بذلك جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز رحمه الله ، ثم خلفه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز أيده الله ، أي خير خلف لخير سلف تأكيداً لخيرية هذه المؤسسة.
بهذه العزّة انطلقت مؤسسة الملك فيصل الخيرية بسواعد أبيّة قوية، تعمر الأرض وتنشر الخير بكل ألوانه للإنسانية بعامة وللمسلمين بخاصة، ونجحت في ترجمة القول بالعمل، مجسدة في ذلك شخصية الفيصل وما كان يحمله من مبادىء وقيم إنسانية جُبلت على حب الخير وعمل الخير ونشره، وبالطبع لا يتسع المجال هنا للحديث عن إنجازات المؤسسة من مستشفيات، ومراكز صحية، ومستوصفات، وجامعات، وكليات، ومعاهد، ومراكز إسلامية، وجمعيات ومؤسسات خيرية، ومدارس لمختلف مراحل التعليم، ورياض أطفال، وجوامع، ومساجد، ودور أيتام، ومجمعات سكنية، ومنح دراسية بكل أنواعها وفروعها في الداخل والخارج، ومساعدات مالية وعينية؛ مشروعات كبيرة جدا وكثيرة جداً، لا يمكن حصرها في مثل هذه المقالة، أقامتها وجهزتها تجهيزاً كاملا بأحدث المعدات وأكثرها تطوراً، وأشرفت على سير عملها وانتدبت العديد من الخبراء والمختصين لتدريب الكوادر البشرية في البلدان التي انشئت فيها وهي كثيرة جداً عمّت مختلف قارات العالم؛ مصر، فلسطين، المغرب، اليمن، الأردن، باكستان، أفغانستان، إندونيسيا، الفلبين، الهند، بنين، تايلاند، بنغلاديش، كينيا، السنغال، مالي، تنزانيا، غانا، غامبيا، نيجيريا، ساحل العاج، تشاد، موريتانيا، جزر القمر، جنوب إفريقيا، توجو، داغستان، طاشقند، قرتشاي، الشيشان، البوسنة والهرسك، سيراليون، هولندا، سويسرا، بريطانيا، وأمريكا. والجدير بالذكر هنا أن كل دولة من هذه الدول نالت العديد من تلك المشروعات، والكثير منها شهدت المشروعات كلها بكامل مسمياتها أعلاه. بالإضافة الى المشروعات العملاقة التي أنجزت داخل المملكة العربية السعودية ، فما من أحد إلا وسمع بخيرية الفيصل وإنجازاتها في منطقتي الحُرَيْضة والحَبَلة، إنجازات عظيمة أقل ما يقال فيها أنها أخذت بأيدي أهالي المنطقتين وارتقت بهم من حياة البداوة إلى حياة التمدن والعلم والحضارة، وألحقتهم بركب التنمية التي تشهدها الدولة في كل مناحي الحياة، وحولت وديانهم وشعابهم إلى واحات خضراء ومناطق سياحية يرتادها الزائرون من داخل المملكة وخارجها، وغير ذلك هناك الكثير من المشروعات التي أنجزتها المؤسسة في العديد من مدن المملكة وقراها؛ الرياض، جدة، مكة المكرمة، المدينة المنورة، البدائع، أبها، عفيف، قرية ضريا بالقصيم، تربة، فيفا، مشروعات هائلة سَمَتْ بالإنسان نحو العزة والكرامة والرفعة.ولعلي أشير هنا وبإيجاز شديد بقدر ما تسمح به مساحة النشر في جريدتنا الحبيبة (جريدة الجزيرة) الى واحدة من أعظم إنجازات هذه المؤسسة: إنها (جائزة الملك فيصل العالمية) التي أنشئت بداية بثلاثة فروع؛ خدمة الإسلام، والدراسات الإسلامية، والأدب العربي، في شهر شعبان من عام 1397هـ، ثم في عام 1401هـ أضيف إليها فرعا الطب والعلوم، وهكذا تتسع الجائزة وتكبر لتشمل الإنسانية كلها دون تمييز في اللون والجنس واللسان والمعتقد.
وللسبب نفسه ستقتصر الإشارة هنا إلى واحد (فقط) من فروع هذه الجائزة وهو (خدمة الإنسان) أول فروع الجائزة وأهمها بالنسبة لموضوع المقالة؛ لأنه يمثل تجسيداً حقيقياً لأهم بصمات مؤسسة الملك فيصل الخيرية في مجال خدمة الإسلام والمسلمين، فما القيمة المادية للجائزة؟ ومن فاز بها؟
أما القيمة المادية لجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام وكذلك لكل فرع من فروعها فهي عبارة عن:
براءة مكتوبة بالخط الديواني داخل ملف من الجلد الفاخر، تحمل اسم الفائز وملخصاً للإنجازات التي أهلته لنيل الجائزة.
ميدالية ذهبية عيار 24 قيراط تزن 200 جرم لكل فائز.
شيك بمبلغ 000 ،750 ريال سعودي؛ ما يعادل 000 ،200 دولار أمريكي؛ وبذلك يكون إجمالي المبلغ لفروع الجائزة الخمسة (000 ،750 ،3) ثلاثة ملايين وسبعمائة وخمسين ألف ريال سعودي؛ أي ما يعادل (000 ،000 ،1) مليون دولار امريكي.
وأما مَن فاز بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، فقد بلغ عدد الفائزين بهذه الجائزة منذ عامها الأول 1399هـ / 1979م الى العام الحالي 1423هـ / 2003م تسعة وعشرين قياديا وعالما ومؤسسة إسلامية ينتمون الى ست عشرة دولة، هي: الامارات العربية المتحدة، المملكة العربية السعودية، الكويت، مصر، افغانستان، اندونيسيا، باكستان الفلبين، ماليزيا، الهند، جنوب افريقيا، السنغال، النيجر، نيجيريا، البوسنة وفرنسا.
وددت حقيقة لو يتسع المجال لذكر نبذة عن إنجازات هؤلاء الأعلام، ولكني القي الضوء على الجهة التي فازت بها لهذا العام 1423هـ/ 2003م لعل ذلك يكون مثالاً لعظمة الإنجاز، إنها (مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الخيرية) التي انشئت في مدينة الرياض عام 1415هـ / 1995م لتقديم الرعاية الصحية والاجتماعية للمسنين وتأهيل المعوقين والأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، علاوة على مشروعات الإسكان الخيرية وعدد من البرامج التعليمية والصحية الاخرى، ولن أتطرق إلى الحديث عن الرجل الذي أنشأها، واحتضنها ورعى خطواتها وإنجازاتها حتى نيل هذه الجائزة، والمشوار طويل بإذن الله، لأن كلمتي فيه ستكون مجروحة؛ ذلك لأنني نِلتُ من خيراته ما لا يقدر بثمن، وإنما سأقتبس هنا بعض ما جاء في الإعلان عن الفائز بهذه الجائزة على لسان الأستاذ الدكتور عبدالله بن صالح العثيمين؛ أمين عام الجائزة، حيث قال: (مُنحت جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام لعام 1423هـ/ 2003م لمؤسسة سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الخيرية تقديراً لما قامت به هذه المؤسسة العملاقة من عمل خيري وإنساني عظيم انتفع به عدد كبير من المسلمين.. وقد تمكنت المؤسسة خلال فترة زمنية قياسية من إنجاز العديد من البرامج والمشروعات الخيرية داخل المملكة وخارجها ومن ذلك:
1 إنشاء مدينة سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية؛ وهي مؤسسة تأهيلية كبيرة تشتمل على مركز متكامل للفحوص الطبية يتبعه 18 غرفة للعمليات، ومركز للتأهيل الطبي لذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن يشتمل على 400 سرير، ومركز لتنمية الاطفال المعاقين يستوعب 150 طفل في آن واحد، ومركز للتدريب وعدد من العيادات الخارجية.
2 تأسيس مشروعات الإنسان الخيري؛ وهي مشروعات خيرية تنموية متكاملة ومزودة بالمرافق والخدمات التي يحتاج اليها الساكنون وذلك في المنطقة الجنوبية، ومنطقة حائل، ومنطقة تبوك.
3 إنشاء مركز سلطان بن عبدالعزيز للعلوم والتقنية؛ وهو مشروع خيري مقام في المنطقة الشرقية يقرِّب المعارف وينشرها ويشجع الابتكارات العلمية والفنية.
4 إنشاء مركز الأمير سلطان بن عبدالعزيز للنطق والسمع في البحرين؛ الذي أسس بالتعاون مع الجمعية البحرينية لتنمية الطفولة.
5 إنشاء برامج الدراسات الإسلامية في الغرب؛ وتهدف الى التعريف بالإسلام وحضارته، وفي طليعتها مركز الملك عبدالعزيز لدراسة العلوم الإسلامية في جامعة بولونيا الإيطالية، وبرنامج سلطان بن عبدالعزيز للدراسات العربية والاسلامية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي بالولايات المتحدة.
6 الإنفاق على وجوه نشاط خيري كثيرة داخل المملكة العربية السعودية وخارجها.
والحقيقة أن هذه الجائزة سبق أن مُنحت لمؤسستين اثنتين هما: (الجامع الأزهر)؛ (1420هـ/ 2000م)، والهيئة العليا لجمع التبرعات لمسلمي البوسنة والهرسك (1421هـ/ 2001م)، وبهذا تكون جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام قد مُنحت لثلاث مؤسسات إسلامية، ولعل المؤسسة الرابعة تكون جمعية الصلاح الإسلامية التي تتخذ من (دير البلح) في فلسطين الحبيبة مقراً لها، ولها من الإنجازات الشيء الكثير في مجال مد يد العون والدعم لأبناء الشهداء والمرضى والمصابين وتعمل على إقامة أعمال الخير المتعددة من خلال فروعها المنتشرة في قطاع غزة عبر ربع قرن من الزمان، ويقوم عليها رجال مخلصون، أحسبهم كذلك والله حسيبهم سلاحهم الإيمان بالله سبحانه وتعالى ثم مساندة إخوانهم المسلمين في كل مكان، وإني لأرفع هذا النداء إلى صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل؛ مدير عام مؤسسة الملك فيصل الخيرية، ورئيس هيئة جائزة الملك فيصل العالمية، لعل سموه الكريم ينظر في الأمر.
|