ثلاثون عاماً غابت أو غيبت بغداد عن دورها العربي عامة وعن الواقع الثقافي بشكل خاص مع أنها مدينة مرشحة من بين بقية المدن العربية عاصمة للإبداعات في الفكر والفنون كونها ممتلكة لكل ما يخدم نجاح أي نتاج إنساني بروح معاصرة متجددة بقيم أصيلة ومرجعية غنية بكل العناصر وبكل المقومات وفي مقدمتها الإنسان وبيئته الحضارية وما ورثه من نتاج علماء وشعراء ومفكرين عبر حقبات متداولة لحضارات عظيمة إلا أن هذا الإبداع والفكر كان عبر ثلاثين عاماً مسخراً لخدمة النظام وأهدافه التي لم يعد للبغداديين خاصة أو العراقيين بشكل عام الرغبة في الحديث عنها رافضين أن تحسب من عمر وتاريخ وطنهم وما أحدثه هذا التسييس من تغيير كبير في ملامح واقع ذلك النتاج بكل قنواته الثقافية في الأدب والفنون مخالف لما كان يتمتع به العراقيون من خصوصية وتميز من بين إبداعات أقرانهم العرب والذي كان يحسب له ألف حساب عند المنافسة والحضور فالمبدع العراقي له سمته ووهجه ورونقه وقدراته العظيمة في توظيف ملكات إبداعه وصياغة ما يأتي منها بشكل متفرد لا يمكن ان يلامس ما ينتجه أي مبدع آخر أو يشابهه في مختلف مجالات الثقافة من شعر ورواية وموسيقى وفنون تشكيلية ومسرحية.
وإذا كان المبدع العراقي قد كبل وسخر لأهداف سياسية بشكل مقنن ومقولب تسببت في إبعاده عن حظيرة الإبداع العربي وعن صدقه مع نفسه أولا ومن ثم مع عطائه فان الواقع الثقافي العربي أيضا كان اشد ألما لهذه الجناية وهذا القيد الذي احدث فجوة كبيرة أدت إلى الابتعاد بين الطرفين مع أن هناك اجتهادات كبيرة ومضنية من المبدعين ممن لم يرضوا بتلك القيود وتلك القوانين والشروط فهاجروا وعاشوا خارج وطنهم في بلادهم العربية أو في غربة بلاد الدنيا الواسعة يحاولون قدر استطاعتهم استمرار مد جسور التواصل والمشاركة رغم أنها تأتي في مساحة من الخوف والترقب مع من يتعاونون معه في أي محفل إبداعي حاملين معهم وبإبداعهم روح ورائحة الوطن وأتذكر هنا معرضا أقامته الرئاسة العامة لرعاية الشباب في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات بالرياض لنخبة من الفنانين العراقيين من اللاجئين المقيمين في مخيم رفحاء لعام 1991م إبان حرب الخليج الأولى وما تم له من إعداد كبير وتشريف على أعلى مستوى من قبل الراحل صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد «رحمه الله» كشف فيه منابع الإلهام من تعاقب حضارات الرافدين إضافة إلى وجود العديد من المثقفين على طول خارطة الوطن العربي سوف يكون لهم مساحة وموطأ قدم في إعادة بناء وطنهم مكملين بتواجدهم القادم الحلقة المفقودة في عقد الثقافة العربية مساهمين في إيجاد الصيغة الموحدة بكل معطيات الفكر والإبداع العربي أمام إعصار ورياح التغيير مع ان الصدمة التي تمثلت في نهب وإحراق المتاحف والمكتبات لا يمكن نسيانها أو إغفالها إلا أن في قدرة العراقيين على للمة الجراح والوقوف بشموخ واعتزاز اتكاء على إرثهم العظيم عزاء لنا.
|