الوعي الاجتماعي هو نتاج عملية متوالية من المتغيرات والتراكمات، وكل مجتمع ينتج شكل وجوده الاجتماعي، أي ينتج هويته أو وعيه لذاته.
وهذا الوعي هو بالأحرى نسيج من عناصر تراثية وأخرى واقعية وثالثة مستمدة من التواصل مع شعوب أخرى، وهو وظيفة ثلاثية الأبعاد، تنطوي على بعد يستدعيه الصراع الاجتماعي وتعارض المصالح، وآخر معرفي وثالث نفسي، وتتحدد من خلال تناغمها تلك العلاقة المنسجمة بين الشكل والمضمون، كما ترتبط درجة استقلال أي من مجالات الحياة الاجتماعية بعلاقة طردية مع تقدم المجتمع واستقراره واستقلال مجاله السياسي، ففي المجتمعات المتأخرة والمضطربة والتابعة، تتداخل مجالات الحياة الاجتماعية، وينتج عن ذلك نوع من وعي أيديولوجي ملتبس ينتج ويسوغ اجتماع الرأي والسلطة، ويساهم فيه البعد المعرفي بفعالية في تحوير الواقع وتأويل التاريخ.. بينما يشكل الوعي في المجتمعات المتقدمة ترمومتراً لفرض حالة من التوازن بين الفئات المتصارعة، الذي يؤدي تنافسها إلى الوصول إلى مجتمع يحكمه قانون فيزياء الأواني المستطرقة.. وهو وضع تصل فيه القوى المتنافسة إلى مستوى موحد، وقد يختلف كل منهم في سعة القاعدة والرصيد الاجتماعي.. ولكن تضمن مؤسسات وتشريعات قضائية ومدنية استواء حالة التوازن واستقرار ونفاد أحكامها.... ولكن الحالة الصحراوية في العالم العربي أسقطت صحة نظرية تراكم الوعي وتتابع مراحل تطوره، فدرجة التجاذب أو التنافر بين مجتمعي الحضارة والبداوة تحدد عمر الاستقرار أو هدنته، وتؤدي عوامل الرخاء وتوفر فرص العيش والحياة الدور الرئيسي في تحديد مدته الزمنية، والتحدي الذي لم يستطع العربي الانتصار عليه، كان في عجزه عن تجاوز تلك الدورة العصبية التي تبدأ وتنتهي حين تسيطر ثقافة البداوة.. والبداوة وضع ثقافي يميزه صفات محددة، منها السلبي كالعصبية والغزو ومنها الإيجابي كالمروءة، وحالة التغالب موجودة في جميع هذه الصفات الثلاث، فالفرد البدوي يريد أن يغلب بقوة قبيلته أولاً، بحدة شخصيته وبمروءته أي بتفضله على الغير بصفات الكرم والعطاء..، ولا تكفيه الشجاعة والنجدة والشهامة في الحرب لينال المكانة العالية، فهو يعشق أن يكون «وهاباً» بقدر ما يكون نهاباً.. وما قلل من فرص نجاح مشاريع التوطين العديدة، هيمنة تلك القيم البدوية التي نشأت على رفض الاستكانة للقيم الحضرية، وزرعها منذ الصغر، والتشجيع على مقاومتها في عقر دارها، وذلك من خلال الترفع عن مهن الحرف اليدوية والزراعية، وغيرها من وسائل الاستقرار في القرية أو المدينة، و ربط احترافهم بالذل والمهانة والضعف والهزيمة أمام القيم البدوية المتعالية على العمل والالتزام.ويصعب على المرء، الاقتناع بمقولة أن تلك القيم لها جذور أولية وأصيلة، وغير قابلة على التحول والانصهار ضمن بوتقة قيم المدينة، والمؤكد أن الدافع الأهم لاستمرار حيويتها، هو فقر الحياة الطبيعية إلى الثروات المائية التي من الممكن أن تفي باحتياجاتهم المعيشية في مجتمع يتكاثر بصورة متسارعة، وأيضاً فشل مشاريع التوطين وبرامج التنمية لتلبية حاجات تلك الفئة الخارجة عن القيم المتحضرة،التي تظل العامل الرئيسي الذي ساعد على بعثها من جديد، والسر الكامن وراء المحافظة على جذورها العصبية في معركة صراع البقاء في الصحراء العربية..
وتجد حركة التمرد المتوحشة في بعض التأويلات والاجتهادات الدينية، مصدر قوة وتشريع لخروجها، ولصراعها مع القيم المتحضرة أو المركزية الحاكمة، التي لم تزل غير قادرة على هزيمة أسباب توحش تلك القيم في عقر دارها، وقد كانت حركة الخوارج ظاهرة عربية عسكرية، ومثالاً على ثقافة التمرد، التي صاغت التأويل الديني لتبرير غزواتها، وإيجاد منزلة خاصة لها في المجتمع، وظل نهجها الجهادي مثلاً لأولئك الذين يبحثون عن المجد والسلطة من خلال التمرد والخروج على المجتمع..
وتساهم العوامل الموضوعية مثل الفقر والجهل والتوحش في تصاعد ذلك المد الصحراوي، وقد يصل بها سوء الحال إلى العمل على سن رماحها وإعادة الروح لعصبيتها و«مروءتها» الصحراوية، إذا لم تتوافر بدائل اقتصادية كفيلة بإخماد لهيب التمرد..، وقد تشكل القناعة ببعض الاجتهادات الدينية الدافع الرئيسي للخروج، فهي تأويلات تضفي قدسية على التمرد عن المجتمع المتحضر.. ومن السذاجة أن نحصر ظاهرة التمرد في دافع التأويل الديني فقط، فجذورها ممتدة في عمق تاريخ الصحراء العربية وغير العربية، ولسنا هنا بصدد استعراض ما تطرق إليه بعض دارسي ثقافة الصحراء العربية، ولكنها مجرد دعوة لمحاولة فهم أدوار ذلك التجاذب والتنافر في حالتي الاستقرار والفوضى، ورصد حركة المد والجزر بين البداوة والحضارة في مجتمعات الجزيرة العربية، وخلاصة القول، إن تلك القيم تتداخل بنسب متفاوتة في التكوين الثقافي لإنسان الجزيرة العربي، ولا تعني بالضرورة، ارتباطها الدائم بالعوامل الموضوعية، فهناك من التقاليد المتوارثة في مجتمع المدينة ومحيط العائلة وبيئة العمل، ما يزيد من تصاعد نفوذها وجذورها في الجسد الاجتماعي..وتختلف سبل كيفية التعامل مع صعود شعبيتها، ولكن التاريخ علمنا أن تفعيل تكنوقراط فكر الدولة السياسي ومثقفيها للهجوم على مبادئها الدينية المتأولة، ولفك شفرات أيدولوجيتها المنشقة، لا يجدي نفعاً في تثبيط شدة حدة تمردها.. فقد اختلفت تأويل أيدولوجياتها في الماضي، وتنافرت وتناقضت أحياناً مضامينها، ولم يتبدل توقيت دوراتها الزمنية في الخروج أو الارتداد إلى قيم الصحراء، ويزيد من الأمور سوءاً وربما تحريضاً، تجنيد أحد جنودها القدامى للهجوم على مواقعها من الداخل، وذلك كمحاولة لفضح مناهج تفكيرها وتفنيد النصوص التي تتكئ عليها.
ولا تجد دورات الصراع المتوقف عن التطور بين البداوة والحضارة، أو خصوصية ذلك التنافر ثم الانفصال الذي يتميز به المجتمع العربي في صحراء الجزيرة لخلق حالة من التوازن، أرضية أو تطبيقات في أطروحة الجدلية التاريخية، فهي ظاهرة مد وجزر بين الحضارة والبداوة، تغذيها صحراء الجفاف بتقاليد عمرها الذي يتجاوز قروناً وقروناً من الصراع بين مستويين، يفصلهما عوازل من القيم، يتجاوز أحياناً علوها ارتفاع سور الصين العظيم، وهو الحاجز المادي الذي أنشأته الصين لوضع مشابه للحالة العربية في قديم الزمان، وذلك من أجل صد هجمات بدو التتار والمغول على سهولها المتحضرة والمستكينة لقيم المدينة..، وبالرغم من ارتفاع أسوار الحصن، إلا أنه لم يمنعهم من تجاوزه لخرق قوانين الطبيعة الحضرية، وإعادة الحياة إلى دائرة الصراع المتجمد، والمتوقف عن التطور، ولكن المناهج الحديثة التي طبقت في الشرق الآسيوي من خلال العمل على إعادة البناء الحضاري للقيم، ساهمت في صنع المعجزة، وأذابت تلك القيم المتوحشة في محيط النهضة المدنية الصاعدة، وكم يحتاج واقعنا الذي لا يزال يعيش في حدود خطر العودة للجذور، إلى فرض تلك القوانين الحديثة لإذابة جذورها في المجتمعات الحضرية، وعدم الاكتفاء بسياسة العطاء لكبح تمردها، فهو بكل تأكيد حل «مسكن»، وغير مجدٍ، ولا يؤدي إلى إحداث التغيير الضروري في هذه المرحلة، ولن تحدث طفرة الخروج من حلقة الجمود، دون فرض سياسة التعليم الإلزامي، ونشر المعاهد المهنية والتقنية وتأسيس الجامعات التي تقدم التعليم العالي «مجاناً»، والتخطيط لإنشاء نماذج الشركات الوطنية العملاقة التي توفر فرص العمل، وتخلق ثقافته وقيمه المتحضرة والمنتجة، والقادرة على صنع نتائج مؤثرة لقضية البطالة، والاستفادة من تجارب وطنية سابقة نجحت من خلال تقاليد العمل المتواصل والمنتج في نزع القيم السلبية كالعصبية والتمرد والغزو من سلوك الإنسان العربي، فما أحدثته أنظمة ومشاريع شركة أرامكو في المنطقة الشرقية من تغيرات اجتماعية وجذرية في صميم تلك القيم، خير دليل على أننا نملك القدرة والتجربة إذا توافرت الإرادة على إحداث مثل ذلك التغيير الإيجابي في بقية أطراف بلادنا المترامية..
|