يقال: مصائب قوم عند قوم فوائد. المصائب جمع مصيبة، ولكن هل تكفي كلمة المصيبة لوصف ما حل بالعراق وأهل العراق بل ما حل بالأمة العربية بل ما حل بالعالم؟.. ربما تكون كلمة كارثة هي التعبير الأقوى لما حل بالعراق ثم يتدرج هذا الوصف ليصبح مصيبة على العالم العربي لتتدرج في حدتها لنصفها بالأزمة بالنسبة لبقية العالم.
إن ما حدث في العراق بل ما فرض على العراق من حرب وما فرض عليه من غزو كان شغل العالم الشاغل منذ الخامس عشر من مارس 2003م. وربما كتب عنه عشرات الآلاف من الصفحات في الصحف المقروءة ناهيك عما كتب على صفحات الإنترنت وقيل عنه ملايين الكلمات في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ولا يزال الحديث مستمرا. وبالتأكيد سيتناقص هذا الزخم الإعلامي مع تناقص وتيرة الأحداث وهذا أمر طبيعي.
الحرب هذه كارثية في اعتقادي من منظور الإطار السياسي العالمي حيث رسخت هذه الحرب المفهوم الميكافلي الذي يقول بأن الغاية تبرر الوسيلة. إن غاية الولايات المتحدة وبريطانيا على الأقل المكشوفة منها هي أولاً نزع أسلحة الدمار الشامل والهدف الثاني إطاحة النظام العراقي وذلك لتحرير الشعب العراقي. وقد تغيرت هذه الأولويات وصار الهدف الأول إطاحة النظام العراقي ثم البحث عن أسلحة الدمار الشامل. أما تحرير الشعب العراقي فيستغير ترتيبه وربما يأتي فترة لا يكون له تصنيف البتة عند الأمريكيين. إذاً الوسيلة لنزع أسلحة الدمار الشامل هي إطاحة النظام وهذا مخالف لكل مواثيق الأمم المتحدة. وعندما أصبح النظام هدفاً وفي نفس الوقت وسيلة كانت الوسيلة لإطاحة النظام هي غزو العراق والتي عارضها العالم في معظمه باستثناء الساسة البريطانيين والأمريكيين وحرفوا هذا الغزو وقالوا بدلاً عن ذلك أنه تحرير.
تغيير الألفاظ لم ولن يغير من الحقيقة وهي أن ما تقوم به بريطانيا وأمريكا من حرب لتغيير النظام هو غزو وانتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة كما انتهك العراق هذا الميثاق عام 1990م. إن النظام العراقي كان يرغب تغيير النظام في الكويت وخلق نظام موال له هناك إلا أن الهدف أيضاً تغير مع تطور المواقف المعارضة لهذا الغزو، مما حدا بذلك النظام إلى إعلان الكويت المحافظة التاسعة عشرة أي جزء من العراق. وها هي أمريكا ترغب في تغيير النظام وإيجاد نظام موال لها ولسياساتها وتوجهاتها في الشرق الأوسط وستبقى القوات الأمريكية في العراق لمدة قد لا تكون قصيرة وهي تقول بأنها ستبقى طالما هناك مبرر وضرورة. وستجد الكثير من المبررات. إذاً هذه انتكاسة في السياسة العالمية وضربة للأمم المتحدة التي يتضمن ميثاقها نصا صريحا يحظر الاعتداء على أي دولة من دول الأمم التحدة وتغيير نظامها عن طريق الحرب ما لم تكن تلك الدولة في حالة دفاع عن النفس.
الولايات المتحدة تبعد آلاف الأميال عن العراق وليس للعراق من الوسائل ما يمكنه من نقل أو إطلاق أسلحة الدمار الشامل عليها حتى لو افترض أنه يملكها. الشيء الواضح والأكيد هو أن الولايات المتحدة لا تدافع عن الشعب الأمريكي من خطر أسلحة الدمار الشامل ولا عن جيران العراق من عرب وعجم وإنما عن الكيان الصهيوني الذي يمتلك ترسانة من أسلحة الدمار الشامل ولكي تؤكد للعالم أن ما لم تستطع أن تحققه عن طريق الأمم المتحدة تستطيع تحقيقه بقوة السلاح.
إن تفرد الولايات المتحدة وبريطانيا بقرار غزو العراق بعيداً عن الأمم المتحدة يعتبر ضربة قاصمة للأمم المتحدة ولدورها في حفظ الأمن والسلام في العالم. كما أن الولايات المتحدة وبريطانيا ما فتئتا تستخدمان نفوذهما وضغوطهما على الأمم المتحدة في كل ما يخص الكيان الصهيوني وفي مسألة الحرب على العراق.
بعد نجاح المفاوضات بين العراق والأمم المتحدة على قبول العراق عودة المفتشين إلى العراق أصرت الولايات المتحدة وبريطانيا على استصدار قرار من الأمم المتحدة وعملتا على صياغته جملة جملة وكلمة كلمة لكي تضمنا وجود ثغرات تمكنهما من شن الحرب على العراق. صدر قرار 1441 من مجلس الأمن الذي يقرر عودة المفتشين دون شروط والتزام العراق بالتعاون الكامل بعد أن تدخلت فرنسا في إجراء بعض التعديلات الطفيفة إلا أن القرار تضمن فقرة تقول إن العراق في حالة خرقه لهذا القرار مادياً فإن عليه أن يتحمل العواقب الوخيمة. إن هذه العبارة هي ما تمسكت به الولايات المتحدة وبريطانيا ومنذ عودة المفتشين وهي تدعي بأن العراق انتهك هذا القرار.
أحست أمريكا وبريطانيا أن التفتيش يؤتي ثماره ويسير في غير ما ترغبان وأن تقارير بلكس والبرادعي فيها توازن وتشير إلى امكانية نزع أسلحة العراق بالكامل وبطرق سلمية. وقف العالم كله في مساندة الأمم المتحدة وعلى استمرار فرق التفتيش وتدعيم دور هذه الفرق وإعطائهم مزيدا من الوقت ولم يرق ذلك لأمريكا وبريطانيا. نية الحرب بلا شك كانت مبيتة وكانت بريطانيا وأمريكا في سباق مع الزمن وذلك رغبة في بدء الحرب قبل الصيف لكي تستفيدا من المناخ البارد والمائل للاعتدال فما كان منهما إلا محاولة استصدار قرار من الأمم المتحدة يجيز استخدام القوة ضد العراق لأنه لم يلتزم حسب قولهما بالقرار 1441. وبدأتا حملتهما بضغوط على الأمم المتحدة بالقول بأن رغبتهما في استصدار قرار ثان هو نوع من المجاملة للأمم المتحدة ونوع من الإرضاء للمعارضين للحرب وفي نفس الوقت لإعطاء غطاء شرعي من الأمم المتحدة. لم تنجح أمريكا وبريطانيا في الحصول أولاً على العدد المطلوب من الأعضاء الخمسة عشر في مجلس الأمن لتبني القرار وهو تسعة وعند ذلك قرر بوش وبلير الاجتماع في جزر الآزور والإعلان بأنهما ليسا في حاجة لقرار جديد وأن قرار 1441 يخولهما القيام بحرب ضد العراق لنزع أسلحته وإزاحة نظامه.
بعد دخول القوات الأمريكية والبريطانية أرض العراق واستباحتها ثبت الانهيار السياسي العالمي وغابت المواقف السياسية من الدول ذات الامكانات والقدرات لاتخاذ مواقف سياسية تجاه هذا الغزو. لأول مرة ربما منذ 50 عاما لا نرى دولاً مثل روسيا وفرنسا والصين تدعو إلى وقف لإطلاق النار والرجوع إلى الحوار. الغريب أن ما كان ينادي به من قبل هذه الدول أو على الأقل بعضها هو التمني لأمريكا وبريطانيا بالانتصار السريع والقول بأنه من الصعب إيقاف الحرب الآن والعودة للأمم المتحدة.
الأمم المتحدة نفسها ضعفت وخنعت ولم يظهر الأمين العام ويشجب هذه الحرب ويدعو لانعقاد مجلس الأمن بل بالعكس فقد سحب المفتشين ومراقبي الحدود مع الكويت وتمسك بالصمت.
أعلنت أمريكا وبريطانيا أن الأمم المتحدة سيكون لها دور ما بعد تدمير العراق وهذا الدور لن يكون رئيسياً كما قالت الولايات المتحدة بل ستحدده أمريكا وبريطانيا وهذا يعني إلغاء دور الأمم المتحدة أو على الأقل تهميش هذا الدور.
غزو أمريكا وبريطانيا للعراق يعني قانونا جديدا للتعامل بين الدول وتشريع غزو الدول لبعضها لأي سبب من الأسباب عندما تمتلك هذه الدولة أو تلك القوة التي تمكنها من ذلك وهذا يعني العودة لشريعة الغاب.
بعد دخول القوات الأمريكية والبريطانية بغداد علت صيحات الساسة الأمريكيين والبريطانيين التحذيرية لكل من سوريا وإيران وكوريا وغيرها بأنه يجب التعلم من الدرس الذي تلقاه العراق ومحاولة استيعاب ذلك الدرس جيدا. ولعل الكيان الصهيوني أول من حذر الشعب الفلسطيني وهدده أن مصير قيادته والشعب الفلسطيني هو مصير العراق.
مكسب ودرس آخر هو أن هذه الحرب أظهرت دور وأهمية الإعلام كسلاح فعال في الحرب وأنه يخيف كما تخيف بقية الأسلحة الحربية الأخرى، ولذلك عملت أمريكا وبريطانيا إلى تعطيل دور هذا السلاح أو لنقل السعي إلى تطويعه وتوجيهه بما يخدم مصالحها والسعي بكل الوسائل إلى التضليل وتبديل الحقائق بل السعي إلى الحجر الإعلامي إن جاز التعبير من خلال التنقيط الإعلامي على الإعلاميين في قاعدة السيلية في قطر واصطحاب القليل من الإعلاميين إلى الجبهة وأخذهم لما ترغب القوات في إظهاره.
الغريب في الأمر أن الحرية الإعلامية في الولايات المتحدة وبريطانيا تراجعت والدليل فصل بعض المراسلين والمحررين الذين قالوا شيئاً من الحقيقة عن واقع الحرب كما أن القوات الأمريكية والبريطانية تعمدت ضرب مواقع إعلامية عربية وأجنبية في بغداد لأنها كانت تظهر ما يحدث للمدنيين وقال بروكس: نحن لسنا مسؤولين عن الإعلاميين الذين ليسوا مع قواتنا بمعنى أن من حقهم ضرب الإعلاميين الآخرين في أي مكان. إن ضرب مكاتب الجزيرة وأبو ظبي والإعلاميين في فندق فلسطين وضرب فريق فرنسي لهو دليل على انتهاك حرية الإعلام التي كانت تدعيها بريطانيا وأمريكا. ولكن هذه الحرب أظهرت كم هو الإعلام العربي قادر ومنافس للإعلام العالمي الآخر وكم هو قادر على أن يكون مصدرا لوسائل كثيرة من الإعلام الغربي يستقي منه المعلومات وكم هو قادر على مواكبة الأحداث. ولعل ذلك يسجل ولادة لإعلام عربي قوي.
لا شك أن لأمريكا أهدافا عديدة من وراء هذه الحرب ومن غزوها للعراق. بعضها ظاهر وبعضها سيظهر مع مرور الأيام. إن الولايات المتحدة وبريطانيا بحاجة إلى تحفيز قدراتهما العسكرية وتحريك شركات التصنيع العسكري ولإثبات قطبيتهما وقوتهما وقدرتهما على الدخول في حرب ليس فقط كسبها وإنما حسمها بسرعة.
ولكي يكون الغزو سريعا وحاسما ومرضيا للشعب الأمريكي الذي لا يرغب في إطالة الحرب استعمل الأمريكيون كل أنواع التقنيات وكل أنواع الأسلحة ما عدا القنابل النووية والجرثومية والهيدروجينية والكيميائية، ولكنهم استخدموا أنواعا تقليدية شديدة الفتك وهكذا طبقوا القول بأن الغاية تبرر الوسيلة.
لقد قال الجنرال رتشارد ماير رئيس القوات الأمريكية المشتركة «إن أي شيء في ترسانتنا من أسلحة سنستخدمه حسب التطور في مجريات الحرب» وأن رسالته هذه تعني أن أمريكا ستسعى إلى تطوير أسلحتها التقليدية من خلال هذه الحرب. وهذا يعني أن أرض العراق ستكون مجالاً بل كانت مجالاً لتجريب الأسلحة الأمريكية والبريطانية وقد بدأ هذا التجريب منذ عام 1991م.
لقد طور الأمريكيون قنبلة وجربوها الشهر الماضي أي في 11/3/2003م في قاعدة أمريكية في غربي الولايات المتحدة الأمريكية. وينوون استخدامها في هذه الحرب حيث ان التقارير تفيد بأن القوات الأمريكية في الخليج تسلمت عددا من هذه القنابل زنة الواحدة منها 210000 رطل أي قرابة 9000 كج.
وقد جربوها في فيتنام لإزالة مساحة من الغابات لكي تكون مهبطا للطائرات الهليكوبتر وكانت تسمى في فيتنام «كوماندو فولت - Commando Vault» وكانت أصغر ولكنها طورت واستخدمت في أفغانستان تحت مسمى «ديزي كتر - Daisy Cutter» وكانت زنتها 15000 رطل.
لقد كان استخدامها في أفغانستان غير استخدامها في فيتنام حيث استخدمت ضد الأفراد في أفغانستان لأنها تغطي مساحة كبيرة يتراوح قطر تغطيتها ما بين 300 إلى 900 قدم كما استخدمت لإثارة الرعب والخوف في صفوف المقاتلين بسبب ضخامة انفجارها وبسبب المساحة التي يمكن أن تغطيها وما تحدثه من أثر على الأرض.
عندما جربت هذه القنبلة في الشهر الماضي في قاعدة أمريكية تم تحذير السكان في منطقة التجربة وأن عليهم أن يتخذوا كافة الاحتياطات لأن لها صوتا مروعا يمكن أن يتسبب في إيذاء السكان.
إن هذه القنبلة المطورة أطلقوا عليها «أم كل القنابل The MOAB Mother of all Bomb».
ولا شك أن قوتها التدميرية هائلة وربما تشبه في تدميرها تدمير قنبلة نووية صغيرة. ومن القنابل الأخرى التي يقال إنها استخدمت في حرب غزو العراق هي قنبلة طورتها العسكرية البريطانية وهي قنبلة قادرة على إبطال مفعول الأسلحة الكيماوية داخل مخازنها من خلال الإشعاعات التي تطلقها.
ولا ننسى التجارب على القنابل العنقودية التي جربتها العسكرية الغازية على مدن العراق والتي ذهب ضحيتها الآلاف وهي نوع جديد من القنابل العنقودية شبه المحرمة دوليا.
ولا ننسى صواريخ التوم هوك التي أطلقت والتي أخطأ بعضها هدفه وبعضها سقط في أماكن بعيدة عن أهدافه.
كل ذلك تجارب استفادت منها العسكرية الأمريكية والبريطانية من خلال تجارب فعلية وليست تجارب اختبارية.
القنابل الذكية والغبية جربتها الولايات المتحدة وبريطانيا ولم يبق إلا القنابل النووية التي هددوا باستعمالها في حالة استعصاء الأمر.
أثبت هذا الغزو أن لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة وأن العلاقات بين الدول هي مرهونة بالمصالح أولاً وقبل كل شيء وأن المبادئ الأخلاقية قد تغيب وقد يتم تغييبها بشكل متعمد كما حصل في هذه الحرب حيث ان الولايات المتحدة ومن منطلق القوة ومن الرغبة في السيطرة على العالم والتفرد بالقطبية تخلت عن كثير من حقوق الإنسان وتخلت عن كثير من مبادئ الديمقراطية وقمعت الحريات وكان ذلك من خلال إنشاء وزارة الداخلية وصدور قرار بزيادة أعداد المباحث بحيث ربما يصبح لكل عشرة أشخاص في الولايات المتحدة شخص يراقبهم من المباحث.
أثبتت هذه الحرب أن الولايات المتحدة وبريطانيا تسعيان بالفعل إلى تحرير العراق، ولكن ليس من النظام العراقي كما تدعيان وإنما من قدرات ومقدرات العراق وإغراقه في الديون والدليل على ذلك واضح.
إن القوات العسكرية الأمريكية والبريطانية تعرف مواقع الوزارات والمؤسسات التعليمية في العراق ولم تكلف نفسها بحراسة هذه المراكز والحفاظ على الأمن رغم أن اتفاقيات جنيف تلزم المحتل بذلك. إن ما حصل من نهب وسلب بالذات للمراكز الحكومية وبالذات الجامعات العراقية يشكل وصمة عار في جبين الغزاة وجبين الخونة من العراقيين الذين يبدو أن بعضهم دفع به من الغوغائيين وعديمي الضمير لتخريب الجامعات التي تبني العقول وكأن الولايات المتحدة حاقدة على العلماء والمهندسين الذين خرجتهم هذه الجامعات وهي تود من وراء ذلك أن يبدأ العراقيون من الصفر.إن المسألة ليست مسألة حقد على رموز النظام العراقي الذين كانوا يستخدمون هذه الوزارات بل يبدو الأمر متعمداً وأن القوات الأمريكية تغض الطرف عما يجري وإلا كيف نفسر ما يجري عندما يتركون الوزارات والبنك المركزي والبنك العقاري تحترق ويبقون على وزارة البترول فإن ذلك يثير علامات استفهام كثيرة.
ربما يود الأمريكيون البقاء في العراق حتى تبنى هذه الوزارات من جديد وعلى الطريقة التي يريدونها!!.
لقد سلب متحف بغداد وربما تكون محاولة لمسخ تاريخ حضارة العراق.
لقد كانت مؤلمة وموجعة تلك الصرخات التي أطلقها ربما مدير جامعة الموصل من على سطح الجامعة وهو يناشد بوش وبلير أولاً ثم الدول العربية والإسلامية ثانياً إنقاذ الجامعة والموصل.
إنها من أصعب لحظات الحياة أن تستنجد بأعدائك ومن غزوا أرضك لينقذوا الموصل وجامعة الموصل من النهب. إنني لا ألومه، إنه رأى ذلك الصرح العلمي الذي يبدو أنه عمل فيه سنين طويلة ينهبه أناس من بني جلدته ولذلك لم يوجه النداء إليهم لأنهم خذلوه وعلى كل حال ليست هذه طبيعة الشعب العراقي.
|