ما أكثر جعجعة زعماء التحالف، وما أكثر ما يلبّسون ويمنّون.. فقد كثر حديث بوش وبلير وأتباعهما عن أماني ووعود للشعب المسلم العراقي.. بل وللعالم كلّه.. ولاشك أن تلك الكلمات والخطب المتعددة، والتصريحات المتتالية، قد رصدت بالصوت والصورة، وقد كتبت في الصحف الغربيّة والعربيّة وغيرها.. فقد قالا، وقال معهما من يتحدّث باسمهما.. إنما جئنا لمحاربة الإرهاب.. وكان اهتمامنا منصباً على أسلحة الدمار الشامل، حتى لايهدد صدام العالم وجيرانه.. ومحاربة محور الشرّ.
والسؤال بعد هذه التصريحات: هل وجدوا دماراً شاملاً؟ وأسلحة كما هي التصريحات التي اتخذوا مبرراً.. إلى هذا الوقت لم يتضح شيء من ذلك.. فرئيس الفريق الدولي للتفتيش عن هذه الأسلحة، مازال يكرّر عدم عثورهم على شيء من ذلك.. وأن صدام لو كان يملك شيئاً لما تأخر عن استعماله، لكن فاقد الشيء لايعطيه..
هذه قرينة، والقرينة أن عامر حمودي السعدي المستشار العلمي لصدام حسين، بعد أن سلّم نفسه لقوات التحالف، نفى أن يكون عند العراق أسلحة دمار شامل.
ثم إنه قد جاء في خطب وتصريحات: بلير وبوش، الموجهة للشعب العراقي، مايفيد أنها ومن معهما ما جاؤوا إلاّ لتوفير الحياة الكريمة والرخاء للشعب العراقي، مع وعود عديدة ، جاءت وفق كلماتهم، فهل تحقّق للشعب العراقي المسلم، شيء من ذلك؟.. الواقع الذي تفصح عنه وسائل الإعلام: ان الشعب العراقي يعيش في أزمات وخوف.. الماء النظيف انقطع، محطات التحلية ضربت، الكهرباء أوقفت فصاروا في ظلام، وسعيد الحظ من امتلك شمعة، يستضيء بها.. أما الطعام فإن الإعانات والإغاثة قد توقفّت، وما أعيد منها لايكفي.. ناهيك بالمستشفيات ونقص الدواء، وانتشار الإسهال بين الأطفال.
وقد نشرت إحدى الصحف ترجمة لمقال عنوانه: حضارة مزّقَتْ إلى أشلاء عن الإندبندنت الإنجليزية بقلم روبرت فيسك، كلاماً موجعاً مما حل بحضارة العراق، وعما وقع فيه الشعب من ويلات ومشكلات، وعبث بكل شيء، وفوضى وسرقات، حتى ان امرأة في بغداد كما قال: صرخت في وجهه -تظنه أميركياً- قائلة: أنت أمريكي اذهب إلى بلدك، اخرج من هنا، فما الذي تريده هنا.. فأنت غير مرغوب فيك.. لقد كرهنا صدام، واليوم نكره بوش لأنه يدمر بلدنا.. ثم عقب هذا الكاتب الإنجليزي عليها بقوله: لقد أشفقت عليها فلو رأت المتحف الوطني لرأت بنفسها أن تراث بلدها بذاته، بالإضافة إلى مدينتها قد دمّر، وأن العبث والنيران أضاع تاريخ بلادها وحضارته.
وهذه شهادة كاتب وصحفي على زعيم بلده الشريك لبوش، في هذه الحرب.
أما النّهب والسلب، التي تبرز في الإعلام المرئي، والأطفال والنساء وكبار السنّ مابين قتيل ومعوّق، وأشلاء مبعثرة في الشوارع، وتحت أنقاض المساكن المهدّمة، مما ينذر بأوبئة وكوارث بيئيّة، فحدث ولاحرج.. نسأل الله أن يقي الشعب العراقي وشعوب المنطقة وخاصة المملكة ضررها وشرها.
حتى لقد تحدثت إحدى النساء بعفوية طبيعية، في ميكرفون إحدى القنوات قائلة: هذا ماهو تحرير هذا هو الاحتلال، ويقول حارس المتحف: شنّ الأميركيون ضد رجل واحد، فلماذا يتركوننا الآن لهؤلاء المجرمين.
صحيح أنهم أزالوا كابوساً كان جاثماً على صدور الشعب العراقي، بجبروته وتسلطه، إنه صدام حسين وأعوانه، لكنه شرّ أزيل بشرّ، ومصيبة أبدلت بمصائب عبّر عنها رجل طاعن في السن، وزوجته المقاربة له في السنّ، عندما سألهما مندوب قناة الجزيرة عن شعورهما بعدما سقطت بغداد، فكان الجواب من كل منهما: لو كان ما مرّ بنا في بغداد، من انقطاع الكهرباء والماء، وانفلات الأمن والفوضى، بإحدى المدن في أميركا أو أوروبا، لأصلحوه في ساعات قليلة جداً.. أما في العراق فمنذ أيام والشعب يعاني المشكلة ولم يصلحوا لنا ما خرّبوه، وأهم مانريده الماء والكهرباء والطعام والدواء..
إن الشعب العراقي مع ماحلّ به نتيجة هذه الحرب، بدأ يظهر المدركون مخاوفهم من مشكلات يخشون تفاقمها، فالنعرات والضغائن تنذر ببروز الحزازات والأحقاد، ففي كربلاء بدأ الانقسام حول المرجعيات والزعامات الدينيّة، بعد مقتل ابن الزعيم الخوئي: عبدالمجيد الخوئي.
والأكراد مع السنّة في كركوك والموصل، ظهرت بوادر الفتنة، وغير هذا من أمور كانت مخيفة في السابق، أو ساكنة مع شدة القبض، فوجدت ميداناً يتيح لها التنفس.
حتى لقد قال أحد البغداديين: مارأينا من ظاهرة التحرر الذي جاء التحالف ليمنحه للشعب العراقي، إلاّ، مساعدة الغوغائيين، الذين انهالوا على أحد تماثيل صدام، يضربونه بأحذيتهم تعبيراً عما في قلوبهم عليه، وعلى حزب البعث.. وذلك:
بأن اقتربت دبابة منهم، وبواسطة سلسلة سحبت هذا التمثال حتى تهاوى على الأرض من فوق المرتفع الذي نصب عليه، مسكين هذا الشعب العراقي، الذي لم يستطع ضبط الأمن في بلده، ولا إيقاف اللصوص والموجهين عن السرقات في وضح النهار وبمنتهى الجرأة، وحمى الله الضعفاء من تسلّط الأقوياء وغرورهم، ونخشى مع نشوة الانتصار أن يتذرعوا على بلد آخر بحجج مماثلة تبرر وسيلة الاعتداء بحجة البحث عن شيء لاوجود له والقوة لله سبحانه وليست للبشر، فكم من قويّ أضعفه الله، وكم من ضعيف انتصر الله له.
مشاهدات في مقديشو:
ذكر المقريزي في ترجمة، محمد بن اسحاق، قاضي مدينة «لامو» على ساحل بربرا، أنه قدم حاجاً سنة 839هـ ودرس عليه بمكة الفقه الشافعي والفرائض، وأخبره أن القردة غلبت على مقديشو في نحو سنة 800هـ حتى ضايقت الناس في مساكنهم وأسواقهم، وصارت تأخذ من الأواني وغيرها ما شاء الله، فتهجم على الناس في دورهم، وتأخذ ماتجد من آنية الطعام، فقصارى صاحب الدار أن يتبع ذلك ولايزال يتلطّف به حتى يردّ الإناء بعد أكل مافيه، وإذا هجم القرد الدار ورأى امرأة منفردة أو غلاماً منفرداً آذاه.
ومن عادة متملّك «مقدشو» أن يقف أرباب دولته تحت قصره، فإذا تكاملوا فتحت طاقة بأعلى القصر، فيقع أهل الدولة على الأرض يقبّلونها، فإذا قاموا وجدوا الملك قد أشرف عليهم من تلك الطاق، ويأمر وينهي ويصرّف أمور دولته، فكما كان في بعض الأيام وقفوا على العادة، للخدمة، فلما فتحت الطاقة، قبّلوا الأرض على عادتهم، وقاموا فإذا القرد قد جلس على مرتبة الملك، وأشرف عليهم، وهي بأجمعها تمشي من خلفه بتؤدة وترتيب، قال: فيرون أن تسلط القرد عليهم عقوبة من الله تعالى لهم، على معاص وقعوا فيها.
قال: وإن البحر يلقي بساحل مدينة «لامو» العنبر، فيأخذه الملك، وإن البحر ألقى مرة قطعة عنبر بلغت زنتها 1200 رطل.. وشجرة الموز عندهم كثيرة جداً، وهو عدة أنواع، منها نوع تبلغ الموزة في الطول ذراعاً، ويعمل عندهم من الموز دبس يقيم أكثر من سنة ويعقدون منه أيضاً حلوى (درر العقود الفريدة في التراجم 3:346).
|