منذ ان انفرطت حبات عقد اتحاد الجمهوريات السوفيتية في مطلع التسعينيات لم يهتم سكان العالم بالجغرافيا والخرائط كما هم مهتمون بها الآن، فالزلزال السوفيتي اعاد رسم خريطة العالم من جديد وألقى ملايين البشر بأطالسهم وخرائطهم الحائطية في سلة المهملات باحثين عن أطالس حديثة في مكتبات انتعشت مبيعاتها للحدث الجلل الذي اصاب العالم من اقصاه. إلى أقصاه واذا كنا في النصف الثاني من عقد التسعينيات قد انصرفنا عن متابعة الحبائل المتداخلة لاعادة رسم خريطة جديدة لفلسطين بتمني ظهور دولة فلسطينية إلى جانب الدولة العبرية «هل انتهت احلام تمني ظهور خريطة فلسطينية من النهر إلى البحر؟» فان سكان العالم الأورو أمريكي التفتوا اكثر إلى النيران التي نشبت في خريطة البلقان واعادت رسم أطلس جنوب اوروبا في ظل حروب التطهير العرقي التي طالت المسلمين في شبه جزيرة البلقان المكتوية بالتناحر على الدوام.
ومعروف للمتابعين كيف ان الأمريكيين يعانون من قصور في معرفة الخرائط لدرجة ان بعض استطلاعات الرأي الأمريكية اظهرت ان نسبة كبيرة من طلاب المرحلة الثانوية يعتقدون ان اوروبا جزء من قارة أمريكا الشمالية وان العراق دولة تقع على مقربة من البحر الكاريبي القريب من بلادهم.
لكن من الواضح ان السنوات العشر الاخيرة قد شهدت تحسنا كبيرا في الخريطة الذهنية للشرق الاوسط لدى الأمريكيين ومنذ عهد بوش الاب وبالتحديد مع تنامي عرض وسائل الاعلام لخرائط العراق ومصر وسوريا وإيران ودول الخليج كمناطق «ساخنة» وكانت حرب العراق الأخيرة سوقا رائجا لعرض خرائط متباينة النوع بين العسكرية، والاثنية، والدينية وغيرها.
والآن انتهت الحرب، وتوقف معها البث اليومي لخرائط العمليات العسكرية، وإن لم يتوقف تداول خرائط اخرى في مخيلة العامة حول مستقبل العراق.
ويبدو أن السعى الأمريكي للسيطرة على العراق قد ينتهى إلى رسم احدى الخرائط الثلاث التالية:
1 - تقسيم العراق إلى دولتين كردية في الشمال وعربية في الجنوب ويعتمد هذا التخيل على الوعود التي قطعها الأمريكيون على انفسهم تجاه الاكراد بمنحهم مستقبلاً مستقلاً عن العرب «العدوانيين» وهذا النوع من التقسيم يعتمد على الاختلافات العرقية في العراق، وعلى وجود مقومات قيام الدولة الكردية في الشمال وهي: الهوية القومية التي تجمع الاكراد حول حلم «كردستان»، وعدد سكاني يفوق الستة ملايين نسمة داخل حدود العراق الشمالية، والاهم امتلاك الاراضي الكردية لنسبة معتبرة من انتاج واحتياطي النفط العراقي وبالتالى فالدولة الكردية لا ينقصها سوى من يحتضنها ويخرج بها إلى النور، وستحقق هذه الدولة الكردية هدفين رئيسيين: الأول: تشجيع اكراد إيران وسوريا على بلوغ نفس الانجاز وقد تصبح دولة كردستان العراق نواة لاقتطاع اجزاء من إيران وسوريا وهي اهداف غالية للولايات المتحدة.
والثاني ان العراق الجديد المطروح منه كردستان ونفطه سيصبح عراقا «مستأنساً» خاصة للجيران الجنب في الجنوب أو الجيران البعيدين وعلى رأسهم إسرائيل وثمة عيب واحد في هذا الخيار وهي القلاقل التي سيسببها قيام دولة كردستان بالنسبة لاكراد تركيا القابضين على الجمر في علاقتهم بالسلطة المركزية في انقرة والتي سجلت موقفا تاريخيا برفض السماح للقوات الأمريكية بعبور اراضيها من الشمال العراقي واعترضت على الموقف المتنامي للثورات المسلحة الكردية في شمال العراق.
2 - تقسيم العراق على اساس عرقي- مذهبي ويستدرك هذا الخيار ما اغفله السيناريو الاول بمطالب الشيعة باقامة كيان مستقل. ولهذا الخيار مزايا كبرى اهمها تفتيت العراق إلى دويلات صغيرة يتوقع ان تكون متناحرة واستمرار الولايات المتحدة في المتاجرة بالتخويف في المنطقة التي ستصبح منطقة مشتعلة تتقاتل فيها ثلاث دول على الحدود والثروات.
الا ان الخوف من ان تتآلف الدولة الشيعية بشكل أو بآخر مع إيران بمثابة اكبر عيوب هذا السيناريو.
ولابد لنا الا نعتبر ان مثل هذا الخيار أمريكي صرف فقد اعتبرت وسائل الاعلام الروسية على سبيل المثال الغزو الأمريكي للعراق نوعاً من انواع الحرب« بالوكالة» نيابة عن إسرائيل.
فلقد نشرت برافدا الروسية هذا الاسبوع ان اهداف الغزو الحالي وهي تقسيم العراق خطة إسرائيلية قديمة قدمت إلى الادارة الأمريكية منذ عقدين من الزمان عقب اختتام مؤتمر المنظمات الصهيونية في فبراير واقترح المؤتمر الصهيوني تقسيم العراق إلى ثلاث دول الأولى حول البصرة والثانية حول بغداد والثالثة حول الموصل.
ولم تمض على المؤتمر سوى عشر سنوات حتى كانت القوات الأمريكية تحارب على ارض العراق وتفرض عليه حصارا وتشجع الحركات الانفصالية في الجنوب والشمال «بعد حماقة غزو الكويت».
وبأكثر قليلا من عشر سنوات اخرى تاتي الولابات المتحدة «لتحرير» العراق وتدخل بغداد وكل شيء يسير حسب الخطط الموضوعة.
3 - السيناريو الثالث يفترض الاحتفاظ بوحدة «شكلية» للعراق دون انفصال شيعي أو كردي «مراعاة لتركيا وتفويتا للفرصة على إيران» ومنح المناطق الشيعية والكردية صلاحيات واسعة كالفيدرالية أو الحكم الذاتي.
اما الأهم فهو اقامة مجموعة من القواعد العسكرية على ارض العراق تصبح بمثابة نقاط ارتكاز وتجعل إيران وسوريا ودول الخليج على مرمى حجر من تهديد النيران الأمريكية. وتتوزع القواعد العسكرية «اعلنت النيويورك تايمز عن نية البنتاجون في اقامة هذه القواعد فعليا بتاريخ 20/4/2003» في أربع مناطق كالتالي:
1 - قاعدة الحرير في الشمال الكردي وتحقق تواجداً أمريكياً على الحدود الإيرانية وتقوى شوكة الاكراد الذين يفهمون جيدا قواعد اللعبة وسيستفيدون من التحالف الامريكي لتحقيق مصالح قومية.
2- قاعدة بغداد «في مطار صدام الدولي سابقاً» وتحقق للولايات المتحدة ضمان الحكومة التي «تفصّلها» على مقاس رغباتها «ووداعاً لأوهام ديموقراطية العراق وحرية اختيار حكومته».
3 - قاعدة الناصرية ووقع الاختيار على الناصرية بعد تجارب المعارك التي شهدتها الايام الاولى من الحرب بعدما كانت البصرة هي المرشحة السابقة.
وتقع الناصرية في قلب التوجهات الشيعية للانفصال وتمثل نقطة ارتكاز رئيسية في السيطرة على الجغرافية العسكرية لعراق ما بعد الحرب.
4 - قواعد عسكرية في غرب العراق والتي ستحل محل قواعد جوية عراقية قديمة مثل قاعدة H1 وH2 و H3 وتحقق هذه القواعد اهم وظيفة للأمن «الاقليمي» وهو ضمان امن إسرائيل في أي ظرف من ظروف قيام عراق جديد قوي في المستقبل والحيلولة دون ان تسول له نفسه ثانية ويطلق من هذه المنطقة صواريخ سكود على تل ابيب.
واذا اخذنا في الاعتبار الملابسات الاقليمية والدولية فان اقرب السيناريوهات للتحقيق هو السيناريو الثالث الذي يؤكد المفهوم الحديث للسيطرة وهو الامبريالة من دون احتلال ولا ننسى ان وضع القواعد العسكرية بهذا الشكل ليس امرا مستحدثا على التاريخ العسكري للولايات المتحدة التي لها عشرات من هذه القواعد سواء قائمة بالفعل او تحت الانشاء كتلك التي توجد في الشرق الاقصى«اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان» وفي جنوب شرق آسيا «اندونيسيا والفلبين» وفي آسيا الوسطى «قرغيزيا وطاجيكستان» وفي القوقاز «جورجيا وأذربيجان» وفي تركيا، وفي الخليج العربي، وفي البحر الاحمر، والبحر المتوسط، وجنوب البحر العربي. ويبقى السؤال الاصعب هل سيعلق شعب العراق خريطته الجديدة المرصعة بالقواعد الأمريكية على جدران بيوته كما علقوا من قبل صور صدام حسين رغما عنهم؟ ام سيشهد العراق تاريخا جديداً قادرا على تغيير الجغرافيا ومسخ خرائطها من جديد؟ ان حدث هذا
فعلينا ان نستعد لرؤية فلسطين جديدة في العراق بمآسيها وآلامها وضبابية مستقبلها.
د.عاطف معتمد عبد الحميد
|