*بغداد - أندي نيلسون (*)
قبل أن تخمد نيران ودخان الحرب الأمريكية ضد العاصمة العراقية بغداد بدأ كبار الضباط العراقيين يحاولون استيعاب هزيمتهم وتحليلها ومحاولة معرفة موطن الخطأ.
وعن يوم سقوط بغداد الموافق التاسع من إبريل يقول الضابط العراقي صالح عبدالله مهدي الجبوري وكله شعور بالخجل والعار أنه أمر سائقه بنقله إلى منزله في مدينة تكريت.
ويضيف أنه بمجرد دخوله المنزل خلع ملابسه العسكرية وراح في نوم عميق حيث ظل هناك لمدة خمسة أيام. ويضيف أنه كان يشعر بصدمة كبيرة.
ويؤكد ثلاثة من ضباط الجيش العراقي كانوا قد شاركوا في معارك في مناطق مختلفة من العراق أنهم لم يتوقعوا أبدا الانتصار في هذه الحرب في مواجهة التفوق العسكري والتكنولوجي الهائل للقوات الأمريكية.
ولكنهم يؤكدون أيضا أن القيادة العراقية ارتكبت مجموعة من الأخطاء القاتلة في إدارة المعركة مثل نشر المليشيات المسلحة بدلا من وحدات الجيش النظامية على سبيل المثال بالإضافة إلى تأثيرالحرب النفسية التي شنتها أمريكا عليهم.
وعلى الرغم من نبرة الغضب في صوت هؤلاء الرجال إلا أنهم يمكن أن يكونوا نموذجا للضباط المحترفين الذين يمكن أن يمثلوا طليعة الجيش العراقي الذي سيتم تأسيسه بمساعدة الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب.
كما أن هؤلاء الرجال يعرفون تماما من يتحمل مسؤولية هذه الهزيمة. إنه صدام حسين وولداه قصي وعدي الذين كانوا يتخذون كل القرارات العسكرية الرئيسية.
يقول العقيد العراقي الذي اختار اسما مستعارا له هو «أسعد» يقول انهم اعتادوا على مثل هذه الأخطاء منذ الحرب ضد إيران والحرب ضد الكويت. وكل خطة من خطط صدام حسين كانت كارثة. كما أن الجيش العراقي لم يتعاف أبدا من التدمير الذي لحق به في حرب الخليج الثانية عام1991.
تفوق تقني
ولذلك لم يكن في استطاعة هذا الجيش خوض حرب جديدة فالحرب لم تعد مجرد نظريات تم تعليمها في الكلية الحربية ولكن الأمر أصبح مرتبطا بالتفوق التقني الهائل ونحن كنا ندرك ذلك.
ويضيف العقيد أسعد أن الجيش العراقي كان يدرك تماما منذ أول طلقة أطلقتها القوات البريطانية في جنوب العراق أنه سوف يخسر الحرب.
أما الرائد عبد الله مهدي الجبوري وكان يقود إحدى كتائب الفرقة الثانية المشاة العراقية فيقول انه رغم يقينه بأن الهزيمة حتمية إلا أنه كان يتوقع أن تستمر الحرب فترة أطول من هذه الفترة.
وأضاف أنهم أصيبوا بالذهول عندما سقطت بغداد بهذه السهولة والسرعة.
وقال انه لو لم يكونوا مسلمين لفعلوا كما يفعل اليابانيون عادة وانتحروا. ولكن الإسلام يحرم الانتحار.
وقد بدأت الحرب بالنسبة للرائد جبوري ورجاله قبل سقوط بغداد بستة عشر يوما عندما صدرت له الأوامر بالانسحاب من منطقة كيفري في شمال العراق والانضمام إلى القوات المدافعة عن العاصمة.
واستفادت فرقة جبوري من العواصف الترابية أثناء انتقالها إلى محيط بغداد حيث تمت العملية بأقل قدر من الخسائر على الرغم من الضربات الجوية الأمريكية الكثيفة لهم أثناء الطريق. ولكن عندما وصلوا إلى منطقة تمركزهم حول بغداد اكتشفوا حجم القوة الجوية الأمريكية الحقيقية.
وخلال الأسبوع الأول من إبريل يقول الجبوري ان وحدته التي تصل قوتها إلى أربعة آلاف مقاتل فقدت 800 مقاتل بسبب الضربات الجوية الأمريكية الكثيفة. ولكن من تبقى من الرجال ظل صامدا وتمكنوا من صد هجوم إحدى وحدات مشاة البحرية الأمريكية «المارينز».
ويواصل الضابط العراقي حديثه قائلا إن المشاة الأمريكيين كانوا يخافون من مواجهتنا على الأرض ولكن كان لديهم دعم جوي قريب جدا وهو ما شجعهم على القتال. ولو كانت القوات العراقية لديها أي غطاء جوي أو صاروخي لخاف الأمريكيون من مجرد التفكير في دخول العراق وليس بغداد ذاتها.
ولكن في اليومين التاليين أي السابع والثامن من إبريل أدى القصف الجوي الأمريكي إلى قتل ستمائة مقاتل آخرين من فرقة الجبوري. ورغم ذلك اضطرت القوات الأمريكية إلى التراجع لمسافة 12 ميلا. ولكن للأسف كانت اللعبة قد انتهت وطلبت منهم قيادة الفرقة العودة إلى مراكزهم الأساسية في شمال العراق. ولم تصدر لهم اي أوامر باستخدام أسلحة كيماوية. كما أن نصف من تبقى من الفرقة تشرد في الصحراء أو خلعوا ملابسهم العسكرية وعادوا إلى منازلهم لحماية عائلاتهم.
وحتى جبوري نفسه عاد إلى منزله بعد أن تغلبت غريزة البقاء لديه على واجبه المهني كضابط منضبط.
سقوط بغداد
ويقول الجبوري انه بعد أن سقطت بغداد بهذه السرعة أصبنا بصدمة كبيرة ولم نعد نعرف ما الذي يجب عمله ولم نكن قادرين على تحديد ما إذا كان ما سنفعله صواب أم خطأ.
وفي هذه اللحظة قال قائد الفرقة انه متعاطف جدا مع الجنود في هذا الموقف العصيب وسمح لهم بالعودة إلى بيوتهم. وقد انتشرت فكرة العودة إلى البيوت بسرعة كبيرة بين القوات العراقية حتى وصلت إلى الوحدة التي يقودها العقيد «سعد» الذي اختار هذا الاسم المستعار للإشارة إلى نفسه.
كانت وحدته تتمركز في مدينة العمارة جنوب العراق وبالقرب من الحدود الإيرانية.
في الثالث من إبريل سمع العقيد سعد أن القوات الأمريكية وصلت إلى بغداد.
وفي اليوم التالي تم قطع خطوط الإمدادات والتموين عن وحدته. وبدأ الجنود يتساءلون لماذا يستخدمون احتياطي الغذاء. وفي الرابع من إبريل بدأ الاحتياطي ينفد. وفي الوقت الذي كانت أنباء المقاومة الشرسة من جانب رجال القبائل وفدائيي صدام للقوات الأمريكية والبريطانية في الجنوب تثير حماسة القوات العراقية فإن القادة العسكريين كانوا يدركون أن هذه المقاومة لن تصمد طويلا. فالفدائي يضرب الأمريكي ويعود للحصول على العشرة ملايين دينار عراقي المكافأة من القيادة العراقية. ولكن الجندي النظامي هو الوحيد الذي كان قادرا على ضرب الأمريكي والتقدم للأمام. كما أن هذه المليشيات غير قادرة على الضغط الهجومي ولا الارتداد السريع. ولذلك فإن هذه المليشيات المسلحة لم تتمكن من إعادة الانتشار قبل أن تصل القوات الأمريكية إلى أبواب بغداد.
ويؤكد الضباط العراقيون أن تكرار ظهور الرئيس العراقي صدام حسين في التلفزيون خلال هذه الأيام كان مثيرا للغضب أيضا.
يقول العقيد سعد أن صدام أشاد بالفرق المقاتلة في الجنوب مرة واحدة لكنه ظل يشيد في كل مرة بفدائيي صدام وأعضاء حزب البعث والمليشيات ونسي الإشادة بالجيش العراقي. وقد أدى هذا إلى إصابة القادة العراقيين بالإحباط.
ويواصل سعد حديثه قائلا إن القوات العراقية كانت في أمس الحاجة إلى المساندة والتشجيع لكن صدام حسين منح تشجيعه ومساندته لمجموعات معينة.
أما الخطأ الثاني الذي ارتكبته القيادة العراقية فيتمثل في تحريك وحدات الحرس الجمهوري التي كانت متمركزة في جنوب بغداد نحو الجنوب وهو ما جعلها هدفا سهلا للطائرات الأمريكية في كربلاء والكوت والحلة.
يقول الرائد جبوري إن هذه الوحدات كانت هدفا سهلا للمقاتلات الأمريكية التي هاجمتها أثناء تحركها مما أدى إلى مقتل الكثير من رجالها.
ويضيف أن الطريقة التي خاض بها العراقيون الحرب كانت تهدف إلى إيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف القوات الغازية حتى يزيد ضغط الرأي العام البريطاني والأمريكي على حكومتي البلدين لوقف العمليات العسكرية. ولكن ما حدث هو أن الضغط وقع على القوات العراقية التي كانت هدفا لضربات منتظمة من جانب الطيران الأمريكي والبريطاني حتى قبل أن تبدأ الحرب فعليا ومنذ الخريف الماضي.
ويقول سعد ان وحدته لم تتعرض كثيرا للرسائل الطائرة التي كانت الطائرات المعادية تسقطها لأن المخابرات الحربية العراقية والأمن كانت تقوم بجمع هذه المنشورات أولاً بأول ولذلك فإن الجنود كانوا يرون هذه المنشورات وهي تتساقط عليهم ولكنه لم يكن مسموحا لهم بقراءتها.
الجيش العراقي كان يضم الكثير من أعضاء حزب البعث الذين يحكمون القبضة عليه ويقومون بجمع هذه الأوراق بسرعة وقبل ان تصل إلى أيدي الجنود. كما كان من الصعب على الجنود العراقيين في أغلب الأحوال الاستماع إلى الإذاعة التي كانت تبثها القوات الأمريكية وتطالب هؤلاء الجنود بعدم القتال وتبلغهم بتعليمات الاستسلام. وكان السبب في ذلك هو أن الجنود لم يكن لديهم أجهزة راديو.
ولكن العقيد سعد يقول أن رسائل البريد الإلكتروني والفاكس التي كان الأمريكيون يرسلونها إلى القادة العراقيين كان لها تأثير كبير على الرغم من قطع خطوط الاتصالات قبل بدء الحرب بعشرة أيام كاملة.
ويضيف أن هذه الوسيلة كان لها تأثير قوي. فإذا ما تلقى أحد الضباط هذه الرسالة وقام بتوصيلها إلى قائده فإنه يدرك ببساطة حجم التفوق التكنولوجي للأمريكيين.
ولكن الصورة في الجنوب العراقي كانت معقدة بعد عبور آلاف العراقيين المنفيين الموالين للزعيم المعارض محمد باقر حكيم وهي قوات غير نظامية معروفة باسم فيلق بدر. وقد أجبرت هذه القوات وحدات الجيش العراقي الموالية لصدام حسين على الانسحاب من مدينة العمارة. ويضيف العقيد سعد أن الضربات التي جاءت من الخلف من جانب هذه القوات كانت قوية.
وفي السادس من إبريل قام مقاتلو فيلق بدر بقتل كل جندي عراقي يرتدي الملابس العسكرية في مدينة العمارة.
وفي الثامن من إبريل أصدرت القوات الأمريكية تحذيرا يطالب القوات الموجودة في المدينة بالتخلي عن أسلحتها في خلال 48 ساعة. وفي لحظات اختفى كل مقاتلي بدر من المدينة قبل أن تدخلها القوات الأمريكية.
وفي هذه الأثناء استغل العقيد سعد والضابطان اللذان كانا معه الفرصة وانطلقا إلى العاصمة بغداد التي لم يعد بها وزارة للدفاع.
ونعود إلى الرائد جبوري ليقول انه فقد أكثر من مائتي مقاتل من رجاله وهي خسارة كبيرة لكن خسارة الوطن أكبر وأشد وطأة.
ونصل إلى ضابط ثالث صغير في السن وهو الذي اختار أسم «أسعد» كاسم مستعار له ليقول انه كان يحارب أقوى جيش في العالم. وهذا الجيش طلب منا الاستسلام حتى لا تتعرض بلادنا للدمار.
ويضيف أنه ناقم على الأمريكيين ولكن إذا ما نفذ الأمريكيون وعودهم بحماية سيادة العراق واحترامها فإن فكرته عنهم قد تتغير.
(*) خدمة كريستيان ساينس مونيتور - خاص ب«الجزيرة»
|