لا أعتقد أن (جحافل) قوات التحالف الأنجلو أمريكي في نيتها ولا في صالحها أن تبقى على أرض العراق أمداً بعيداً، بعد أن حققت واحداً من أهم أهدافها (المعلنة) ممثلاً في إسقاط صدام ونظامه (الفاشي) والبدء في إقامة نظام (ديموقراطي) بديل. وبالنسبة لأسلحة الدمار الشامل كان من المفترض أن يعود المفتشون الدوليون لاستكمال مهمتهم في العراق، وقد أعلنت أمريكا عن إرسال وفد من لدنها قوامه ألف خبير للكشف عن تلك الأسلحة في العراق، خاصة أنها تمتلك بالترغيب والترهيب الآن زمام المبادرة لاستقطاب أدلاء عراقيين من أصحاب العلاقة بإنتاج وتخزين أسلحة الدمار الشامل إن وجدت وهو الأمر الذي أعلنه مؤخراً وعوَّل عليه كثيراً وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد.
ويبقى هاجس أمريكا الأول بعد أحداث سبتمبر وهو مقاومة الإرهاب، والسؤال: بعد ما دُكَّت الأرض دكَّا، وهُدِّمت البنى التحتية والفوقية والعسكرية، هل بقي في العراق ما يدعو للقلق؟! اللهم إلا إذا سارت تلك القوات في الاتجاه الخاطئ بالبقاء في العراق، فسوف تقوم بالقطع حركة مقاومة مشروعة ضدها، ربما يصنفها التحالف على حساب الإرهاب على نحو ما توسم به زوراً وبهتاناً حركة المقاومة الفلسطينية العنيدة للاحتلال الإسرائيلي!
فما الذي يدعو التحالف بعد كل ذلك إلى الإبقاء على قواته في العراق، وبماذا يمكن أن يبرر استمرار وجودها أمام العالم أجمع، بل أمام الشعبين الأمريكي والإنجليزي بالتحديد؟!
أضف إلى ذلك أن القوى العالمية الحديثة تدرك جميعها أن الاحتلال العسكري نظام قد عفا عليه الزمن، علاوة على أنه مكلف إلى الحد الذي قد لا يكفي كل دخل بترول العراق لتغطية نفقات بقائه، وأنه يصدم العاطفة الوطنية لدى الجماهير بما يجعلها تقلق المحتل وتهدد وجوده دائماً، يؤكِّد ذلك ما تراه وتسمعه قوات التحالف الآن من جماهير الشارع العراقي التي ترفض استمرار وجودها، فمئات الألوف في بغداد تظاهروا الجمعة الماضية معلنين شعار (وحدة وحدة إسلامية.. لا شيعة ولا سنية)، ومطالبين قوات التحالف بالرحيل، وقبلها بيومين خرج أكثر من عشرين ألفاً من أتباع الحوزة العلمية بالنجف في مظاهرة بمدينة الناصرية رافعين شعار «لا لصدام.. ولا لأمريكا»، وفي البصرة والموصل ومدن العراق الأخرى لا تزال المظاهرات مشتعلة على نفس الشاكلة.
ويزيد من شعور النفور العراقي من قوات التحالف أنه علاوة على إحساسهم بالمرارة الشديدة لما فقدوه ومن فقدوه في هذه الحرب الضروس، فإنهم يرون الارتباك الذي كان بالأمس يتسبب في سقوط ضحايا من فريقي الحلفاء فيما بينهم بالنيران الصديقة، يرونه اليوم ممثلاً في حالات ذعر يصل بتلك القوات إلى حد إطلاق الرصاص على المدنيين لأقل ريبة دون انتظار للتحقق والتدقيق، وهي حالات وإن كانت قليلة لكنها تشغل الرأي العام الداخلي والخارجي أيضاً!
وكأني بالشعب العراقي الشقيق هبَّ اليوم يتمثل قول القائل «اشتدي يا أزمة تنفرجي»، هذا الشعب الذي تحمَّل على مدى ربع القرن طاغية عاث في الأرض فساداً، قد أفاق اليوم بعد رحيله، وأدرك وهذه من فوائد الحرب أنه في محنة تهدد تاريخه وحضارته، بل ربما وجوده، وأن المواجهة الحقيقية لتلك المحنة تكمن في الوحدة الوطنية، وإعادة تنظيم الصفوف والمضي قدماً بالوطن نحو مرحلة جديدة من العدل والاستقرار، والاستثمار الأمثل لطاقاته، والتعاون البناء الواجب مع دول الجوار وفض الإشكاليات الناجمة عن أخطاء الماضي.
هذا ما أعتقده وأرجو ألا أكون واهماً تيارا يسري الآن في عراق العروبة، وهذا الشعب إذ يشكر التحالف على إنجاز المهمة التاريخية التي خلصهم فيها من حاكم جائر مستبد وإن كان العراق قد دفع ثمناً غالياً لذلك فإنه يؤكد أيضا على عسكر التحالف أن يعودوا من حيث أتوا راشدين، ذلك أن الشعب لن يرضى استبدال الاحتلال الداخلي الذي كان يمثِّله صدام وطغمته بالاحتلال الخارجي من قوات التحالف!
لقد أتتك الرياح يا عراق كثيراً بما لا تشتهي.. فهل تأتيك رياح اليوم بما تشتهي!!
|