Tuesday 22nd april,2003 11163العدد الثلاثاء 20 ,صفر 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

لقد يُسِّرت المصائب للاتعاظ فهل من متعظ..؟ 2-2 لقد يُسِّرت المصائب للاتعاظ فهل من متعظ..؟ 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل

ولو أن أحدنا استعاد الرضخة «الحزيرانية»، وما تمخضت عنه من ذلة وهوان وخوف، لعرف أن ما تعايشه الأمة اليوم، لا يختلف عما سلف، ولكن لكل حدث أسلوبه وطرائق أدائه. والهزائم الموجعة محسوبة على الأنظمة الثورية المجازفة، وليست على إمكانيات الأمة، ومثلما منيت الخطة العسكرية الأمريكية ببوادر الفشل، دون أن تهزم القوة، فقد منيت الأنظمة العربية بسلسلة من الهزائم، ولما تتح للأمة ممارسة امكانياتها. ولو أن المنظومة العربية: قادة وشعوباً وعت الدروس، وفكرت في أمرها، وقدرت واقعها، لما آلت أمورها إلى ما هي عليه الآن. وبدهيَّا أنه ليس من صالح القوى المستبدة، ولا الأنظمة المتسلطة أن تعي الأمة ما هي عليه، لأنها لو وعت، لوضعت المصالح والأنظمة أمام مسؤولياتها. والواقع العربي بلغ الدرك الأسفل من الضعة، ومن ذا الذي يجيل نظره في القنوات، ثم لا يتميز من الغيظ على من فعل مثل هذه الفعلة النكراء بالإنسان والحضارة والمدنية. وهل أحد يستطيع الصبر واحتمال الأذى الذي يستبطن إخواننا في «العراق» منذ ثلاثين عاماً أو تزيد، وفي «فلسطين» منذ سبعين عاماً أو تزيد، وفي «الجزائر» و«السودان» و«الصومال» مما تتناقله وسائل الإعلام، ولما تزل سوح القتال تلتهب بالسلاح الغربي المتطور في كل الحروب التي مرت بها المنطقة.
ففي «نكسة حزيران» ظاهرت أمريكا إسرائيل، وأمدتها بالعتاد والعدد والخطط والتأييد في المحافل الدولية، وجلست غير بعيد ترقب الأحداث. وكانت «مصر» قد خرجت منهكة من «اليمن»، فيما كان العالم العربي مقطع الأوصال، تسكنه الريبة، وينتابه الخوف من الأقربين، وكان على دول المواجهة أن تختار الوقت المناسب للحرب، فلا تفرض عليهم، ولا يقادون إليها، وهم لم يعدوا للحرب عدتها، ولما لم يكن العالم العربي مهيئاً لأي مواجهة فضلاً عن المواجهة العسكرية، فقد لعب الأذكياء الماكرون الدور التحريضي، واستدرجوا الثوريين العُزَّل إلى حافة الهاوية، وساند ذلك إعلام فضائحي مخادع، شحن النفوس، وهيج العواطف، وألهب الأحاسيس، وأعمى الناس عن الواقع المرير. وفي ظل هذا التوتر، وقعت الواقعة، وجاءت الطامة، وتلقى العرب من المحيط إلى الخليج ضربة قاضية، عاش في عذاباتها الواعون حالة من اليأس والإحباط والذهول.
وكان يجب أن تكون «النكسة» بداية جديدة لحياة حافلة بالتلاحم أو التعاذر، وإعداد القوة بكل متطلباتها، والبعد عن المجازفات والخطابات الغوغائية، وتجنب الدخول في الحرب الباردة غير أنهم لم يدركوا، بحيث عاد الثوريون إلى ما كانوا عليه من قبل، حرب كلامية تقوم على الوعيد والتهديد والتخوين والاتهام بالعمالة، والتحريض على هدم العروش، وتصدير المبادئ والأحزاب، مع تسخين للحدود، وتكريس للطائفيات والقوميات والعرقيات المتعددة، وتمكين لمحاور الشر لاختراق الثغور، وكسب الدثور، مما حوَّل مقدرات الأمة إلى وقود لصراع القوى العالمية، ولما تكن كنور الله الذي يوقد من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، بل كانت أشتاتاً تمارس الحرب الباردة بالإنابة عن الشرق أو الغرب، وكل زعيم يدعي أنه الناهض بما ينفع الناس. ومرت الأيام، ونسي العالم العربي نكسة لا يمكن تصورها، ولا يمكن احتمالها، وعادت الأمور إلى مجاريها، وبدأت مخاضات حروب أدهى وأمر. كانت حرب الخليج الأولى مدعومة بخطاب قومي، ثم جاء احتلال «الكويت» ضربة للخطاب القومي، انهارت معه القومية العربية. وحين دحر المعتدي، ظل مع المتواطئين معه في المشهد السياسي دون أقنعة، وظل الشارع العربي يتخبط في دياجي التناقضات، ولما نزل حتى الآن في فوضى مستحكمة من الرؤى والتصورات، ويكفي تدافع المجاهدين، وعودة الناجين منهم يتلاومون.
ومثلما أخفق العرب في «حزيران» حين دخولها دون استعداد، ودون تخطيط، دخلوا تالياتها مرة ثانية وثالثة ورابعة، وفي كل حرب يخرجون مثخني الجراح، مثقلي الكواهل بالديون والعداوات والشكوك والالتزامات التي تضع مصادر ثروتهم بأيدي غيرهم. والحرب لا تبقي ولا تذر، والكاسب فيها خاسر، ومن استخف بها أذاقته سوء العذاب. وأمريكا التي تملك مقاليد الدنيا، انجلقت في أتونها أكثر من مرة، وخرجت منها خاسرة، تضمد جراحها، وتعالج ذيولها. وها هي قد انجرفت في ضوائقها، دون رصيد معنوي، ولا دعم شرعي على كل الصعد، ودون أن يكون لها موقف مشرف من القضية الأم «قضية فلسطين». وحين تحركت أساطيلها، لم يسبقها استرضاء ولا تهدئة للأوضاع، ولا طمأنة للمتضررين، بل راح كبار المسؤولين فيها، ممن يطلق عليهم «الصقور»، يهددون، ويتوعدون، ويبعثون برسائل ملغومة، مما يشي بأن العراق يعد الخطوة الأولى في رحلة التأديب والاحتواء. وجاءت التصريحات المتلاحقة محيلة إلى أصولية دينية، جندت أمريكا نفسها للقضاء عليها، وذلك من المقت الكبير، فهي تحارب الأصوليات، ثم تنطلق منها.
وأمريكا التي أخفقت في السمعة، أخفقت في تقديرها لتداعيات الحرب، كما أخفقت من قبل في تقديرها للوضع القائم في العراق، بحيث بنت معلوماتها على توقعات المعارضة العراقية. وأحسب أن الحمم التي تلقيها على رؤوس الآمنين العزل الأبرياء، تنال من سمعتها ومكانتها أضعاف ما تناله من مقدرات العراق وأناسيه. لقد كرهها العالم، ونزع ثقته منها، ولم يعد يثق بمواقفها، وكم ستلاقي من «اللاءات» التي لم تسمعها من قبل، وليست تداعيات ما بعد الحرب بأحسن حال مما قبلها ولا مما في أثنائها، والوجود العسكري مؤذن بخلق حالة من الإرهاب الشرس، الذي لا يمكن السيطرة عليه.
وكيف تتأتى السيطرة، وهي قد جاءت بخطة عسكرية لم تراع فيها كره الشعب العربي للاستعمار، فضلاً عن الاحتلال، ثم هي قد تبنت خطاباً إعلامياً لم تراع فيه ردود الفعل العربي والإسلامي والعالمي، وهي قد ركنت إلى القوة العسكرية مجهضة القوة القانونية. والحرب التي يتابعها العالم خطوة خطوة خارجة على الشرعية، ومهمشة للشركاء الأقوياء، ومثيرة لكوامن النفوس، التي ستؤثر الموت على الحياة، ومثل هذه التداعيات تحتاج إلى مدكر يقرؤها بإمعان، وهو ما لم تفعله أمريكا، ولم يفعله العرب. وبدء العمليات كشف عن إخفاقات ذريعة، هزت هيبة أمريكا، وأفقدتها المصداقية، ولم يعد الأمر بيدها. والمضي في الحرب غير المتكافئة له ثمن باهظ، والتراجع من منتصف الطريق له ثمن باهظ، على حد قول الشاعر المحب:
وقع السهام ونزعهن أليم
ومثلما أخفقت أمريكا في بعض تقديراتها، أخفقت حكومة العراق البائدة في كل تقديرها وممارساتها، وماضيها لا ينطوي على إية إيجابية. والذين يكرهون الحكم في العراق، وينقمون على تصرفاته القمعية، ويودون زواله، يكرهون أن تكون نهايته على يد قوى خارجية، تستمرئ التدخل السافر في شؤون الآخرين.
فقد يرضى المعذبون بالبقاء تحت طائلة العذاب المستطير، لعلمهم أن إنقاذهم بهذه الطريقة، سيقودهم إلى ما هو أسوأ، وبوادر الفتنة تبشر بعذاب أليم.
وحكومة العراق التي كانت قاب قوسين أو أدنى من كسب الرأي العام العالمي، لم تحسن التصرف، فلقد ساءت مظهراً ومخبراً، ومما يزيد الطين بلة أن الخطاب العراقي في المؤتمرات المعقودة لإنقاذ الموقف المتأزم، وفي اللقاءات الحرجة خطاب بذيء متعالٍ، لا يحيل إلى أخطائه الفادحة، وإنما يمارس الإسقاط بكل وقاحة، ثم إنه لا يواجه الطرف اللصيق بالتي هي أحسن. وعلينا أن نذكر بموقفين سيئين، صدما الإنسان العربي الناصح المتحفز لمناصرة الشعب العراقي، والساعي لتخليصه من ويلات الحروب التي تعاقبت عليه، وأتت على الماديات والمعنويات على يد حكومة ظالمة، عرضته لفتن عمياء، وخاضت به ثلاث حروب مدمرة، شردت كفاءات، وقضت على مثمنات.
الموقف الأول: مهاجمة وفد الكويت في مؤتمر وزراء الخارجية، ومبادرة الإمارات الإنسانية بأسخف الكلمات، وأحط العبارات، الأمر الذي هيأ الشعب الكويتي لاستقبال الأساطيل الغربية استقبال الفاتحين، أملاً في أن يقطع دابر الفتنة، ويقطع الألسنة البذيئة.
والموقف الثاني: النيل من وزير خارجية المملكة الأمير «سعود الفيصل» ومن سفيرها الأمير «بندر بن سلطان». جاءت هذه البذاءات الصبيانية، والحرب على أشدها، والعراق أحوج ما يكون إلى جمع الكلمة، ولم الشمل، وإتاحة الفرصة للمساعي السلمية، التي يقودها وزراء الخارجية العرب.
وها قد سقطت الحكومية، وتفرق شملها، وعاشت البلاد فراغاً دستورياً، أشاع الفوضى، وهيأ فرص السلب والنهب والقتل، ولو أطيع لقصير أمر لحقنت الدماء، وسلمت المقدرات، وأسقط في يد دولة جاءت بكل قواتها، محددة مطالبها، ولو أن عصابة الشر في العراق عندما استحكمت الأمور، فوضت الأمر «للجامعة العربية»، لكان بالإمكان تلافي حرب مدمرة. وإذ يكون الصمت العربي مؤلماً، يكون القول في صالح القضية محفوفاً بالمخاطر، وتلك حالة ليست استثنائية، فالأمة العربية تعيش حالة من التوتر والمجازفات وتبادل الاتهامات.
والذهنية العربية يشكلها خطاب هائج مائج، لن يؤدي إلى صالحها ويتنازعها إعلام متناقض، إلى حد لا يمكن معه الاستقرار على رأي محدد مقبول.
والسياقات التي رصدها المتابعون هي الأخرى تزيد الأمور تعقيداً. ومع كل ذلك: هل من مدكر؟ الشيء الذي لا يمكن أن يطاق تعرض الخليج العربي لحروب ثلاث طاحنة، لم يكن شيء منها لصالحه، وهي وإن أخلت في توازن القوى، فإنها تركت هوة سحيقة من الشك والارتياد والتفرق الذي لا يمكن تلافيه من خلال الامكانيات المتاحة.
والذين يودون تقصي الأمور، والتدرج معها، عليهم أن يسبقوا أحداث الحروب الخليجية إلى الأيام الأخيرة ل«الشاه» وسقوطه، والسنوات الأولى للثورة الإيرانية، واحتدام مشاعرها، وخطابها المتعالي القائم على المفاضلة والتصدير، والدور الأمريكي في كثير من أحداث الشرق الأوسط، وشرق آسيا وإفريقيا، واقترابها جميعاً من الفشل. والمكسب الوحيد الذي حققته اللعب الكونية سقوط «الاتحاد السوفيتي»، وهو في نظري سقوط سبق وقته، وأربك أمريكا نفسها، ولم يمكنها من النهوض بواجبها بوصفها تمثل القطب الواحد.
لقد انعكس أثره السيئ على العالم العربي والإسلامي، بوصفه النائب الغبي، لتصفية حسابات عالمية، أثناء ما يسمى ب«الجهاد الأفغاني»، كما انعكس الأثر ذاته على أمريكا، فهي التي تقنعت وراء الجهاد الإسلامي، وهي التي دعمته، وهي التي كمنت في داخله، متصورة أنها الكاسب الوحيد، ولكن الرياح هبت باتجاه معاكس فكانت أحداث «الحادي عشر من سبتمبر» نتيجة طبيعية لهذه المكائد. وحين هبت أمريكا لملاحقة من تصورتهم الجناة، لقيت في مواجهتها أفدح الخسائر المادية والمعنوية، ولا أحسبها قادرة في الزمن القريب على استرجاع صحتها الاقتصادية وسمعتها وهيبتها. وذهول الصدمة: صدمة سقوط الاتحاد السوفيتي، وصدمة «الحادي عشر من سبتمبر» حولها إلى دولة نامية سيئة السمعة، تلاحق الإعلاميين، وتداهم الآمنين، وتتعدى على الحريات المكفولة بالدستور الأمريكي. وسقوط الدول يبدأ من أول طلقة طائشة غير محسوبة، ولأن العالم العربي والإسلامي غير قادرين على سد الفراغ الذي تركه المعادل فإن سقوط القوى لن يكون في صالح الأمتين العربية والإسلامية، وأمنياتنا ليست في تفكك أمريكا وسقوطها وإنما هي في وعيها للحق والعدل، وفي استفادة الأمة العربية من النكسات.
وتصور أمريكا أنها لكي تحكم قبضتها لا بد أن يكون لها وجود عسكري في كل موقع مؤذن بانهيارات عالمية، ستحول العالم إلى بؤر من الفتن، فالناس اليوم غيرهم بالأمس، والإعلام الذي يلاحق الحدث بالصوت والصورة في كل مكان، أعطى الإنسان المغيب من قبل فرصة للتأمل وتصور الموقف الإنساني، هذا التفكير العسكري أجهضة التفكير الدبلوماسي، وبدل أن تكتفي أمريكا بتبادل الكلمات الهادئفة مع حلفائها وأصدقائها أصبحت بحاجة إلى تبادل القذائف مع الشعوب التي لن تقبل بوجودها، وفشل الممارسة السياسية تدفع الفاشل إلى ممارسة الحل العسكري، وعندها يبدأ العد التنازلي. وليس أدل على ذلك من انهيار السمعة والاقتصاد، وامتلاك القدرة على مواجهة أمريكا عبر المظاهرات والمقالات، وهو ما لم يكن مألوفاً من قبل.
هذه المآلات الموجعة آيات ونذر، أحسبها كافية لجمع الكلمة العربية، والقبول بالتنازلات، والاشتغال في المساحات المشتركة، وإعادة النظر في كل الظواهر، لتوفير التجانس، وتهيئة الأجواء، لتفاعل إيجابي، يحل الثقة محل الشك، والأمن محل الخوف. ولن تجتمع كلمة الأمة إلا بالرجوع إلى مصدر العز والتمكين «الكتاب» و«السنة».

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved