* كتبت مقالي الذي نشر في يوم الأحد من الأسبوع الفارط، مساء يوم الاثنين الذي سبق يوم السقوط الكبير في العراق، وبعثت به الى الجريدة في الليلة نفسها، ولعل القارئ الفطن، قد أدرك ذلك من خلال أسلوب الطرح في المقال، الذي جاء وكأن الحكم البائد في العراق، ما زال على حد قول الوزير المسرحي البارع، «محمد سعيد الصحاف»، يقاتل «العلوج» ويقارع «الأوغاد»، ويلاحق ببسالة فلول «الأقزام والأنذال والحمير والجحوش والطراطير والجبناء والأراذل»...! ويتبعهم ب«الديدان والجيف والمطايا والذبابات والحثالات والحقراء والسفلة»....!
* كتبت مقالي سالف الذكر، وخلدت الى «شبه» نوم، ورأيت فيما يرى «شبه النائم»، انه من العار علينا كعرب أبطال شجعان على مر التاريخ، ان نلتحم في معركة مصيرية، مع جيش قوامه من «حيوانات وديدان وحشرات وجيف»، لأن انتصارنا على جيش كهذا، لا يعد شرفاً لنا، وبالمقابل فإن هزيمتنا أمامه، هي فضيحة بكافة المقاييس، فكان من الخير لنا في هذه الحالة، ان نصف أعداءنا بما هم عليه من قوة وشجاعة حتى ولو لم يكونوا كذلك، حتى إذا غلبناهم في هذا النزال معهم، كنا نحن الأشجع والأقوى منهم، وبذلك نستحق التمجيد، أما إذا اندحرنا وهزمنا أمامهم، فهو انحدار وهزيمة مشرفة، أمام عدو يملك من القوة ما هو فوق قدرتنا.
* ومن أجل هذا الأمر، كنت عازماً على البحث عن وسيلة عاجلة، لمخاطبة «معالي» وزير الإعلام السابق في حكومة العراق السابقة، من أجل تنبيهه الى هذا المطب، وتحذيره من هذا المنزلق، لكن ما إن صحوت من نصف نومتي تلك، حتى وجدت أن الجيش الذي ضم مخلوقات غريبة، من حُمُر وحشية مخططة، الى جحوش برية مرقطة، أو ديدان بحرية مزلطة، ومطايا «عربية» منقطة..! هذا الجيش الغريب، سحق الجيوش «المليونية»، التي كان «معالي» الوزير، يتمترس خلفها، من حرس خاص، الى حرس جمهوري، الى فدائيي صدام، وجيش القدس، وميليشيات الحزب، وقوات برية وبحرية وجوية وغيرها ... وان هذه الجيوش الجرارة، وقيادات وأعضاء وعناصر حزبها، مع رئيسها الأعلى، لم تكن في حقيقة الأمر، سوى «نمر» من ورق، كان «يخرخر» في بغداد طيلة ثلث قرن ..! حتى الوزير «محمد سعيد» الذي أعاد إلينا الحنين الى أيام «أحمد سعيد»، في صوت العرب عام 1967م، رمى بحذائه وسلاحه وبدلته العسكرية، على سرير نومه في مكتبه، وركب قدمين حافيين ..!! الى أين ..؟ لا ندري حتى كتابة هذه الأسطر..!
* أما في الليلة التالية، مساء الثلاثاء ليلة الأربعاء، فقد طردت من عينيَّ، كل توق أو ميل لنوم، وتسمرت أمام الفضائيات المتلفزات، ورحت أتابع في صدمة واندهاش، الحال التي آل إليها العراق في بضع ساعات ..! كان مندوبو هذه الفضائيات، ينقلون مرئياتهم من داخل بغداد، وهم يلهثون خلف أرتال من الدبابات والقوات الغازية، وكنت أنا هنا، أصارع في رأسي أرتالاً من الأسئلة وعلامات الاستفهام: ماذا حدث ..؟! أين النظام في هذا البلد..؟! أين رأسه وأطرافه..؟! أين جيشه وعساكره وطائراته وصواريخه..؟! أين دباباته ورشاشاته وقنابله وبنادقه..؟! أين حزبه الذي دوخنا طيلة ثلث قرن، بقوته وجبروته وشجاعته وبطولته..؟! أين صدامه وعديه وقصيه، وأين رمضانه وعزيزه وعزَّته، وأين كيماويه ووطبانه وبرزانه وصَحَّافه ..؟! أين .. أين .. أين ..؟!.
* وفي غمرة هذا السيل الجارف من علامات الاستفهام، جاءتني الإجابة الشافية الكافية عن كافة الأسئلة، عبر الفضاء.
ها هو الشعب العراقي، يرقص فرحاً وغبطة في شوارع بغداد، انه يعبر عن ابتهاجه بكسرة النظام الفاشي الذي طالما عذبه وقهره. وها هو الشعب العراقي بكل طبقاته حتى الحزبية منه، يشن حرباً طالما انتظرها منذ زمن طويل، ليس ضد غزاة بلده من التحالف الأنجلو أمريكي، ولكن ضد «2380» تمثالاً ونصباً لصدام حسين، إنها أصنام من قوت الشعب الجائع، ظلت ثلث قرن، ترتفع في سماء العراق، وهي تدخن السيجار الكوبي..! في أوساط شعب فقير، يبحث عن الخبز النظيف بشق الأنفس.
* إن العراقيين كما رأيناهم، يخوضون حرباً جديدة فريدة، ضد آلاف الجداريات التي غطت المباني العامة والخاصة، بل ضد صور «السيد الرئيس»، التي فاق عددها عدد سكان العراق، بحيث لا تغرب عن أنظارهم ليلاً أو نهاراً، في حركاتهم أو سكناتهم، وفي مقار أعمالهم، وفي دورهم، وفي مطاعمهم ومشاربهم، وظلت هذه الأصنام، وهذه التماثيل والجداريات والصور، تأكل وتشرب مع العراقيين لأكثر من ثلاثة عقود مضت، فقد ذكر «كنعان مكية» في كتابه الموسوم: «النُّصُب التذكارية»، حقائق هذه الحالة المتفردة في العالم، وقال: إن في كل أمانة بلدية في العراق، مديرية خاصة لنصب وجداريات «السيد الرئيس»، ففي أمانة بغداد وحدها أكثر من عشرين موظفاً لهذا الغرض، أما حماية هذه التماثيل والجداريات، من عبث العابثين وسخر الساخرين، فهي مناطة برجال البوليس، وبالحرس الخاص، الذي ينزل أقصى العقوبات، على كل من تسول له نفسه الإساءة لتمثال أو نصب أو صورة للمهيب الركن صدام حسين..!
* لم أشأ أن يفسد علي أحد، متعة مشاهدة سقوط هذه الأصنام والتماثيل والنصب في المدن العراقية، وخاصة عاصمتها بغداد، وبقيت ثلاثة أيام، منقطعاً الى هذه الحفلة الكبيرة المدهشة، لا أهتم بشيء من كل ما يجري حولي، أو ما هو كائن على أرض السواد، بغير هذه المسرحية التي تجري على الساحة العراقية، وأبطالها هم أبناء الشعب العراقي أنفسهم، ففي متابعة مثل هذه المشاهد، فوائد جمة، تبرز مآل الظلمة، وتري نهاية الطغاة، وتعكس النتيجة الحتمية لصبر الصابرين من المقهورين والمظلومين.وما جرى ويجري من تكسير وتحطيم على تماثيل وجداريات طاغية بغداد، يماثل تماماً الذي فعله الألمان، «شرقيون وغربيون» بجدار برلين، عندما حطموه بالمعاول والمطارق، بعد سقوط منظومة الاتحاد السوفيتي في «البروسترويكا» الروسية الشهيرة، على يد آخر رؤسائها، «ميخائيل خورباتشوف»، قبل ثلاث عشرة سنة، وهو تعبير على الفرح والانطلاق، نحو حريات شخصية كانت مقيدة في الجمهوريات السوفيتية، وظلت كذلك في عراق صدام حسين حتى اليوم التاسع من إبريل 2003م.
* وعندما كنت عام 1992م، في زيارة لاسبانيا، فشهدت معرض «اكسبو 92» في «اشبيلية» عاصمة الأندلس، رأيت حِدْفاً من جدار برلين بعد تحطيمه، كان من ضمن معروضات هذا المنتدى العالمي الشهير، وعلى هذا الحِدْف الخرساني الغليظ، كتابات احتجاجية، حفرها الألمان بأظافرهم عبر سبعين سنة من حكم الفصل بين الأهل في برلين..! وقفت على هذه الكسرة الشاهدة، فصورتها وتصورت معها، لأنها تمثل نهاية حقبة ظلمية وظلامية، وبداية أخرى تنويرية في هذا العالم.
* في سنوات خلت، كان أهل العراق يسخرون من «مملكة الأصنام والتماثيل والنصب والصور» هذه، على طريقتهم الخاصة، ومثل هذه النكات التي تحبك بينهم، إنما هي للتصدير فقط، كما روى لي صديق عراقي مهاجر، لأنه لم يكن لها سوق في بلد مثل العراق، يعاقب على مثلها بقطع الألسن والأنوف، وبالكيماوي.
فقبيل العدوان العراقي على دولة الكويت، أدرك شعب العراق بفطرته، عظم العبء الذي يعانيه من صور الركن المهيب..! التي باتت تغطي جُدُر الدور والمتاجر، وتملأ الشوارع، وتزدحم بها مكاتب الموظفين، ولهذا .. لقيت النكتة، طريقها الى ألسنة شعب لم يكن يعرف النكتة إلا نادراً، وربما لا يجد وقتاً لضحكة أو ابتسامة.
* وقصة نكتة «شِي .. يلِمَّها»، أن قروياً عراقياً بسيطاً، نزل مدينة بغداد، فراعته صور الرئيس المهيب الركن، التي يصطدم بها بصره في كل مكان..! فراح الرجل يعبر بسليقته القروية، عن هَمّ المستقبل، والمعاناة التي تنتظر مثله في الأيام القادمة، مع هذا الكم الهائل من الصور..! فهو أخذ يسير في الشوارع مبهوراً مشدوهاً مردداً في ذهول وحيرة: «شي يلمها .. شي يلمها .. شي يلمها»...؟! حتى لفت الأنظار إليه، وشك فيه «قلاوزة» النظام، ورجال مخابرات صاحب هذه الصور، الذين ظنوا ان وراء هذا «المواطن» سراً خطيراً..! فلربما هو يدبر انقلاباً على سيدهم..!
* اقتاد رجال صدام هذا القروي المسكين الى المخفر، وهناك سألوه .. ثم سألوه وسألوه. فقال ببساطة متناهية: «بأنه يفكر بجدية، في صعوبة لمّ كل هذه الصور للسيد الرئيس، ومن ثم شيلها من الشوارع، حتى لا تدوسها الأقدام، إذا ما مات فخامته بعد عمر طويل، وتناثرت صوره على الأرض»..؟!
* لقد سقط أخيراً، صاحب أوسع مملكة للصور الشخصية، والأصنام والتماثيل والنصب والجداريات، وانتهى ذلك «النمر الورقي» الذي كان في بغداد، وبقي «المواطن العراقي»، الذي داس بقدميه، رموز التسلط والجبروت والطغيان في العراق.
* وإذا استطاع «المواطن العراقي» لمّ هذا الكم الهائل من الصور والتماثيل، ومن ثم شيلها الى حيث ألقت..! فمن باستطاعته لمّ شمل العراقيين من جديد، من منافيهم ومهاجرهم، وشيل غذاباتهم، ولثم انكساراتهم، وجبر عثراتهم، وطمس مآسيهم وأحزانهم ..؟!
* لقد بعثر «المهيب الركن» الذي ولّى التراب العراقي، فشل أوصاله، وفرق خلانه، وهَجَّر إنسانه، وأتلف أمواله. ثم أكثر من أعدائه، وأقلل من أصدقائه.. فماذا أبقى..؟
* إنها حماقات فوق الوصف، ارتكبها المهيب الركن، في حق شعب العراق، وفي حق الأمتين العربية والإسلامية، فمن بمقدوره شيلها أو لمها يا ترى..؟!!
fax: 12 73 61 552
|