على أي إنسان مهتم بمستقبل الولايات المتحدة أن يبدأ في التفكير في الطريقة المحتملة التي ستقوم أمريكا من خلالها بإعادة بناء علاقاتها التي تدهورت مع باقي العالم. فالواضح أن الورطة التي وضعت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا نفسيهما فيها في العراق سوف تكون طويلة ومكلفة.
والحقيقة أن الانتصارالعسكري السريع الذي كان بوش قد وعد به لم يتجسد على الأرض في صورة وجود مستقر. وبدلا من ذلك يبدو الوضع وكأن القوات الأمريكية والبريطانية تعاقب الشعب العراقي بالفعل وستواصل عقابها له وهو ما يعمق مشاعر العداء والكراهية في المجتمع العراقي لسنوات قادمة. لذلك يمكن القول بأنه حتى إذا اعتبرنا أن القوات الأمريكية والبريطانية حققت انتصارا كاسحا على الصعيد العسكري فإن حلم إعادة بناء عراق مستقر وديموقراطي مازال بعيد المنال. وإذا لم يكن تحقيق مثل هذا الهدف في المستقبل القريب فإن فكرة انفراد الولايات المتحدة وبريطانيا بعملية تحقيق مستقبل ديموقراطي في العراق تبدو فكرة سخيفة. فهاتان القوتان في حاجة إلى ضم المزيد من دول العالم في جهود إعادة بناء العراق سياسيا واقتصاديا مثل اليابان وفرنسا وألمانيا والأمم المتحدة بالإضافة إلى التنسيق مع الدول المجاورة للعراق مثل إيران وسوريا. ويجب الاعتراف بأن شن الحرب ضد العراق بدون قرار من الأمم المتحدة كان بمثابة مغامرة كبرى. فالآن يمكن أن تجد القوات الأمريكية والبريطانية نفسها في مواجهة اضطرابات ومظاهرات شعبية في العراق على مدى سنوات قادمة.
وسوف تظهر عواقب هذا الموقف على اقتصاديات أمريكا وبريطانيا وكذلك الاقتصادالعالمي كله. فترى إلى أي مدى سيتدهور الاقتصاد العالمي؟ حسنا يمكن الإجابة على هذا السؤال إذا ما عدنا سنوات إلى الوراء. فعندما قامت إسرائيل بغزو لبنان عام 1982 لم تتمكن إسرائيل من الهروب من الفخ اللبناني الذي دخلته بقدميها وكانت النتيجة هي تدهور الاقتصاد الإسرائيلي بسبب التكاليف الباهظة لنشر القوات الإسرائيلية في الأراضي اللبنانية، وتموين القوات المنتشرة في لبنان لا يقارن بما تحتاج إليه القوات الأمريكية من جهود جبارة للحفاظ على خطوط إمدادها في العراق التي توجد على بعد آلاف الأميال من الولايات المتحدة. وقد أشارت مجلة «بيزنس ويك» الاقتصادية إلى العواقب الاقتصادية للحرب ضدالعراق.
وقالت إن التضخم لم يعد الخطر الذي يهدد الاقتصاد الأمريكي هذه الأيام ولكن التهديد الحقيقي هو تراجع الانتاجية الأمريكية عن معدلاتها التي بلغتها في التسعينيات وهو الأمر الذي سوف يسبب الكثير من المصاعب لأمريكا في مواجهة ظروف العداء وعدم الاستقرار الذي تسببت فيه حربها ضد العراق. كان الكونجرس الأمريكي قد أقر في الثالث من إبريل الحالي موازنة تكميلية لتمويل الحرب قيمتها حوالي ثمانين مليار دولار. ومن بين هذه الميزانية خصصت الإدارة الأمريكية5 ،2 مليار دولار لتمويل مشروعات إعادة بناء ما دمرته الحرب في العراق.
ولكن من الواضح أن تكاليف انتشار القوات الأمريكية في العراق حتى بعد توقف القتال سوف تتجاوز التقديرات السابقة. يقول الخبراء أن الحكومة الأمريكية سوف تمول كل هذه النفقات الجديدة من خلال الاقتراض وهو ما يعني سحب الكثير من الأموال من قطاعات انتاجية وتحويلها إلى قطاعات عسكرية مدمرة، كما أن نفقات نشر القوات الأمريكية في العراق سوف تكون على حساب مخصصات الخدمات الاجتماعية سواء في أمريكا أو المساعدات التي تقدمها للدول الفقيرة. وقد حذر صالح بوكير مدير مؤسسة العمل الأفريقية في واشنطن من أن الآثار السلبية للحرب الأمريكية ضد العراق سوف تصل إلى الدول الإفريقية الفقيرة. فإفريقيا تضم أفقر دول العالم ولذلك فهي حساسة جدا لأي صدمات خارجية. ولكن هل هناك بديل عن إصرار واشنطن على نزعتها الفردية؟ يطالب رئيس الوزراءالبريطاني توني بلير بضرورة وجود دور حيوي للأمم المتحدة في العراق بعد الحرب بما في ذلك إدارة الأمور هناك. ولكن مستشارة الأمن القومي الأمريكي كونداليزا رايس كانت قد حذرت في الرابع من إبريل الحالي من أن الولايات المتحدة وبريطانيا قدما الدماء من أجل تحرير العراق لذلك من الطبيعي أن يلعبا الدور الرئيسي في تحديد مستقبل العراق بعد الحرب.
ومن الواضح أن هذه الرؤية المتطرفة تبدو غير واقعية وغير ضرورية. فحكم العراق ليس مهمة سهلة ولكنه مسألة ستحتاج إلى الكثير من الوقت والنفقات وإلى الكثير من النوايا الطيبة من أعضاء المجتمع الدولي.
(*) كاتبة ومؤلفة خمسة كتب في العلاقات الدولية خدمة كريستيان ساينس مونيتور - خاص بـ«الجزيرة»
|