ازدانت زوايا صحفية بأقواس النصر بعد سقوط بغداد واختفاء الرئيس، الذي زرع الخوف والجوع في أرض السواد، وهللت بقدوم بشائر النصر النهائي على ذلك الزعيم الذي مهما تعددت أسماؤه وتبدلت هيئاته، لم تتغير طبائعه في فرض رؤية أحادية ذات منافع ذاتية، وغير قابلة للتفاوض، أو التشكيك في قدراتها السحرية بينما توشحت زوايا أخرى بالحزن، تندب حظها العاثر في العيش طويلا، وكشاهد حي على سنين النكبة والنكسة وغيرها من أيام العرب الخوالي في العصر الحديث، وتأسف على اندثار الأمل ولو في انتصار هامشي على عدو مستكبر، لا يتوقف عن نقل قنابله الذكية إلى المنطقة.
وتختلف الآراء في كيفية التعامل مع الهجمة الأمريكية الشرسة على المنطقة، فالبعض يجد في استمرار نشر دعوات التحريض، وبث الخطابات الحماسية، الأسلوب الذي سيطيل أمد المعركة، وسيجند قائمة من الاستشهاديين ضد قوافل الاستعمار القادمة بينما تهاجم الزوايا المنتصرة ثقافة العنف الصوتية عبر الميكروفونات، لأنها غير مجدية، وليست قادرة على قيادة المعركة الحضارية في القرن الجديد، فالعرب لن يستطيعوا الانتصار في رحلة الصراع مع الغرب باستخدام ميكروفونات مصنوعة فيه، ولن يتمكنوا من الخروج من مأزقهم الحضاري دون الإيمان بضرورة التواصل معه، كما لا بد من مصافحة القوة، فهي التي تحكم، وهي واقع لا يمكن الهروب من قبضته، ولن يأتي النصر بالصراخ، وتحريض رجل الشارع المهمش في مهمة إدارة الأزمة طوال العقود الماضية، ولا مفر من نهج الكفاح من أجل بناء الإنسان من خلال وسائل العلم والتقنية، والعمل على استقلاله وتنمية وعيه بحقوقه، ومنحه القدرة القانونية على استيفائها من الغير، وبذل الجهد في بناء القوة الذاتية المتسلحة بحرية التعبير وحقوق الإنسان واحترام إرادته ، فهي العدل الذي سيعطي كل ذي حق حقه، وقبل كل شيء هي قانون الطبيعة الأسمى، ومحاولة الالتفاف عليها تعني تغليب فرص الضعف والهزيمة والتخلف ثم السقوط.
وتهديدات القوة الأمريكية لدول الشرق الأوسط عبر «ميكروفونات» الإعلام العربي، لم تتوقف منذ أطلق الرئيس بوش تعويذة الحرب الجديدة «إذا لم تكن معي فأنت ضدي»، ومنذ أعلن مساعدوه جهراً شروط الديموقراطية وحقوق الإنسان كصيغة مشروعة ومقبولة للعهد الجديد في الشرق الأوسط، وهو شعار تختبئ في طياته أهداف غير معلنة بشكل مباشر، ولكنها بينة لمن يتابع أدبيات المعارضة الأمريكية والأوروبية لسياسة واشنطن الحالية.
والأمريكيون يعلمون جيداً أن خيار الديموقراطية صعب للغاية على دول المنطقة، وأن تطبيقها كقناة لتمرير اختيارات الشعوب سيوفر الغطاء الشرعي لاستقلال القرار السياسي من تأثيراتهم على المتفرد بالقرار، وهو ما لا تحبذه واشنطن، ولكن السؤال الذي يبحث عن إجابة، هو ما الذي تريده شعوب المنطقة، وهل المواطن في تلك البلاد لا يزال يشعر بالريبة وعدم الطمأنينة من تفسيراتها المتعددة، ويخاف من نتائجها، أو أنه لا يزال ينتظر نظراً لتدينه، اجتهاداً من علماء الشريعة، يجيز له التعامل معها أو مقاطعتها والعلم ضد دمجها مع النظام السياسي المتبع حالياً في الشرق العربي..
وظاهرة تشتت ذهنية الإنسان العربي، وهزالة مواقفه السياسية يشير إلى ركاكة ثوابته المعلنة، ففي اليوم الأخير قبل سقوط بغداد، كان ذلك الإنسان المغلوب على أمره، ينشد بفداء الروح للزعيم الأوحد، وفي اليوم التالي بعد سقوطه، مزق صوره وحطم أصنامه.. وهذا الإنسان المتردد وغير المدرك لأهمية ثباته على موقف محدد من قضاياه، هو حسب وجهة نظري، أحد أسباب الأزمة العربية، وهناك من يرجع أهم أسباب الممانعة للديموقراطية، للهوية الثقافية، التي ربما ساهمت تأويلات خاطئة في تطبيعها، لكنها بالتأكيد ليست مكمن الخلل الرئيسي، فقصة معركة العرب مع منتجات الحضارة ليست وليدة اليوم، والوضع العربي السياسي تنقل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن حكم الإسلام إلى علمانية واشتراكية العسكر، ومن حكم شيخ القبيلة إلى ليبرالية وبرجوازية الأقلية، ومع ذلك لم يتطور الوضع، ولم يطالب ذلك الإنسان بالحل الديموقراطي، ولم يؤمن به، ولم يكترث بحقوقه، وقد يكون وراء ممانعته أحياناً تأويلات واجتهادات ترفض تلك المبادئ المستوردة من الغرب، وفي أحيان أخرى عدم إدراك لأهمية المشاركة.. ومن يروج لنظرية إيمان شعوب المنطقة بالديموقراطية، غابت عنه جزء من الحقيقة، فالرأي الشعبي يتلقى تعاليم وأقوال واجتهادات تحذر من حكم الأكثرية أو تقلل من أهمية المشاركة في إدارة شؤون البلدية أو السياسية، وتلقن أن الشورى ليست الديموقراطية، وأن «الإسلام هو دين الشورى، والله عز وجل يقول: {وامرهم شورى بينهم} [الشورى: 38] ، والشورى تشبه الديموقراطية في شيء وتخالفها في شيء، فهي تشبه الديموقراطية في اشتراك الناس في الحكم، ولكنها تختلف عن الديموقراطية في أنها تقصر الرأي المسموع على العليم دون الجهول، والعارف دون العابث، إذ ليس كل أحد أهلاً أن يستشار، ولا رأي لجاهل في الإسلام، فبينما تتجه الديموقراطية إلى الاهتمام بالكم، تتجه الشورى إلى الاهتمام بالكيف، وأقرب تسمية يمكن أن تعرف بها الشورى في الإسلام أنها «ديموقراطية العلماء والخبراء وأهل المعرفة والاختصاص»، وهذا المعنى حسب رأي بعض علماء الدين، يؤيده القرآن الكريم في عدة مواضع، مما يزيده قدسية عند رجل الشارع، فالأمر يتم بسؤال أهل العلم {فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون} *الأنبياء: 7* ، ويخبر أن سواد الناس ليسوا دائما على صواب {ولكن اكثر الناس لا يعلمون} سورة الأنبياء الآية 7، {وان تطع اكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله} *الأنعام: 116* .
هذا.. الاجتهاد أو التبرير الديني لرفض خيار الديموقراطية، كان لمفتي أحد البلاد العربية التي يحكمها «حزب علماني اشتراكي»، أفتى به عند سؤاله عن حكم تطبيق الديموقراطية في ذلك البلد، وهذا يدل على مدى عمق الهوة بين الخطاب الديني والتطور السياسي، فالتأصيل الديني استدعته رغبة ساسة العلمانية العسكرية لتبرير رفض الديموقراطية، مما يؤكد أن استدعاء التفسيرات الدينية لإقصاء الخيار الديمقراطي لا يقتصر على البلاد التي تحكم بالشريعة الإسلامية، بل تستخدمها دوائر الحكم العلماني العسكري للتشكيك في جواز التعامل معه.. مما يزيد الأمر تعقيداً، ويقلل من حصر أزمة الإنسان العربي في الموروث الثقافي فقط، ويدفعنا إلى توجيه نداء للبحث في خصائص سوسيولوجيا التركيبة العشائرية، وفي بنية هرم القوة والطاعة في العائلة العربية،.. أو حتى في بيولوجيا الإنسان العربي، وذلك لتفسير ظاهرة ممانعته لفطرة التطور الطبيعي..!
وأرى أن المهمة التي بدأها عالم الاجتماع العراقي المعروف علي الوردي، لم تصل تأثيراتها بعد إلى مستوى إصلاح سيكولوجية العقل العربي المزدوجة، ويجدر بالذكر أن جميع نسخ كتابه «وعاظ السلاطين» سحبت من المكتبات العامة وأسواق الكتب في العراق، بأمر من الرئيس العراقي، كما منع تداوله في المؤسسات وبين الأشخاص بشكل علني، وتحول إلى منشور سري يتداوله القراء العراقيون، ويرى البعض أن سبب منع الكتاب، إشارته لفساد الوضع السياسي في العراق قبل سقوطه الأخير، ومقارنته بين حاشية مستشاريه ووعاظ السلاطين في الأزمنة السالفة، فالواعظون الذين قصدهم الوردي كانوا لا يكترثون لو كان المغني مثلاً يغني للخليفة فتهتز على نغماته بطون الجواري، ولكنهم يصبون جام غضبهم، إذا رأوا صعلوكاً يغني لنفسه أو لأهل قريته من الفقراء والمساكين، كذلك.. كان حال مثقفي سلطة الرئيس الذي وقع بين مطرقة الغازي وسندان الشعب المقهور..
|