استطاعت الولايات المتحدة ان تطور نموذجاً جديدا أصبح يشكل محور ارتكاز لسياستها الخارجية لمرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر.. وهو نموذج يعتمد أساساً على تطبيق خطوات إجرائية دقيقة، تتوزع عبر مهمات واضحة وأدوار موزعة لمؤسسات الدفاع والخارجية والاستخبارات والبيت الأبيض .. وتبدأ باتهام نظام سياسي وتنتهي بتغيير نظام حكم .. هذا النموذج بدأ من أفغانستان ونجح .. ثم في العراق ونجح .. وتوجد ارهاصات واضحة ان سوريا ستكون ربما هي الحلقة الثالثة.. وربما ايران الحلقة الرابعة .. وقد تأتي دول عربية وإسلامية أخرى في المسلسل الأمريكي الذي يمثل فيه جنرالات البنتاجون، ويخرجه سيد البيت الأبيض، وتعد شركات الأسلحة والنفط الأمريكية المنتج المنفذ لهذا المسلسل.. أما النفوذ الصهيوني فهو الذي يجني الأرباح ويحظى بالمكاسب في كل هذه الحالات .. ومن المهم التأكيد إلى أن هيكلة كل حلقة من حلقات هذا المسلسل تشبه الحلقة الأخرى.. وتنتهي بانتصار البطل الأمريكي.. كما تعودنا مع الأفلام الأمريكية.
ونحن في العالم العربي والإسلامي لم نقدم أو نؤخر كثيراً من خلال وجودنا كمشاهدين لهذه الحلقات المتتالية .. وربما ان معظم إسهاماتنا في هذا الخصوص تتمثل في مجرد التحليل والتقييم لمجريات المسلسل، دون ان يكون لنا تأثير في تغيير المشهد الدرامي، أو التأثير في أحداث كل حلقة .. ونظل نتابع كل فصل من هذه الفصول، ونصفق أحياناً ونبكي أحياناً أخرى حسب الطبيعة الإخراجية وقدرة الممثلين على إتقان دورهم، وربما نتيجة تلون درجات المشاهدين العرب وانتماءاتهم الفكرية والسياسية.. فقد تبكي شريحة من شرائح المجتمع العربي على موقف معين في هذا المسلسل، بينما تصفق أو تضحك شريحة أخرى .. ونسينا في زخم هذا التحليل ان نقول إن هذا المسلسل يوظف مجموعات جماهيرية كبيرة تعمل ك «كومبارس» لهذا العمل الأمريكي، هم مواطنو تلك الدول التي يتم فيها تمثيل حلقات المسلسل الأميركي... فقد كان الشعب الأفغاني كومبارس الحلقة الخاصة بأفغانستان، وكان الشعب العراقي كومبارس الحلقة الخاصة بالعراق.. وربما تأتي شعوب أخرى لتمثل كومبارس آخر في حلقات جديدة من هذا المسلسل.في رأيي الشخصي ان المد الأمريكي سيستمر وفق النموذج الجديد الذي وضعه اليمين الأمريكي المتطرف وستكون هناك محاولات جادة وحثيثة ومتواصلة لتمثيل وإنتاج حلقات جديدة من هذا المسلسل، فاللعبة الأمريكية مستمرة، وما دامت المؤسسات العسكرية والسياسية والاقتصادية هناك تقطف ثمار هذه النجاحات، فلماذا لا تستمر نتاجات الدمى وتفريخ المصالح وبسط النفوذ في المنطقة العربية والإسلامية؟ ولماذا لا تواصل هذه الدولة لتحقيق مزيد من مصالحها وتأسيس حقبة كونية لها في العالم، تتسيد فيها المصالح الأمريكية فوق أي مصلحة في العالم، وينتشر النفوذ الأمريكي في كل اتجاهات المعمورة، وتصبح الولايات المتحدة قولاً وفعلاً القطب الأوحد الذي تسيطر ويوجه ويوزع الأدوار..
من خلال قراءتنا لمجريات الأحداث التي أسست عليها الولايات المتحدة نموذجها الجديد في السياسة الخارجية، نلاحظ ان هناك عدداً من الخطوات الإجرائية التي يتم تطبيقها مع أي حالة مستهدفة من قبل الولايات المتحدة.. وفي البدايات الأولى، يتم تحديد الدولة أو النظام المستهدف وفق أولويات أمريكية، بدافعية صهيونية، وحالما يتم ذلك تتوالى الخطوات الإجرائية العشر التالية: وقد تكون أقل أو أكثر، ولكن جوهر هذه الخطوات يظل ثابتاً:
1 اختيار التبريرات المناسبة، التي يتم من خلالها وصف تلك الدولة أو ذلك النظام بأنه نظام مارق، أو غير شرعي، أو إرهابي، أو انه يُصدِّر الإرهاب، أو يأوي إرهابيين أو منظمات إرهابية .. أو انه يمتلك أسلحة دمار شامل، أو انه يهدد الأمن والاستقرار العالمي .. الخ من التبريرات على الطريقة الأمريكية.
2 الإيعاز إلى وسائل الإعلام، والمحللين السياسيين، وبعض الساسة والعسكريين القدامى في الولايات المتحدة ان يوغلوا في ربط هذه الدولة بتلك الأوصاف التي وصفتها بها الخارجية أو الدفاع الأمريكي.. ويتم نشر سريع لكثير من هذه التحليلات والموضوعات عن تلك الدولة .. إلى أن تصبح في بؤرة الاهتمام العالمي .. وتصبح في موقف دفاعي ضعيف.
3 توزيع الأدوار السياسية بين عناصر المؤامرة الأمريكية، فمستشار في الدفاع يعطي تصريحاً.. والمتحدث الرسمي للخارجية يلمح إلى خطورة الوضع.. وينبري أحد رؤساء اللجان بالكونجرس إلى الادعاء بوجود علاقة وثيقة بين ذلك النظام والإرهاب العالمي، أو تمويله، وان هذه اللجنة ستعقد جلسة نقاش ومساءلة مع مدير وكالة الاستخبارات أو ممثلي ال «اف بي اي» .. ثم يأتي الرئيس ليقذف بعبارات مبهمة توضح مدى استيائه من الوضع القائم .. ثم تتبارى وسائل الإعلام .. وتبدأ التسريبات الإعلامية لصالح مجهود الحملة من كل حدب وصوب .. وربما تجد هذه صدى من بعض الحكومات الموالية للولايات المتحدة.
4 تبدأ عملية التصعيد، بالتلويح بالمقاطعة الاقتصادية، وتحريك الأساطيل والقوات إلى تلك المنطقة... وتبدأ بشكل مكثف استطلاعات الأقمار الصناعية وتحرك الحشود الاستخباراتية وتجنيد صفوف العملاء.
5 تبدأ كذلك عمليات تزييف للأدلة والشواهد .. وتضليل الرأي العام الأمريكي والعالمي بمواقف، وشواهد، واستدلالات غير حقيقية.. وغير قابلة للتحقق منها على أرض الواقع.. وتصعيد التحركات الداخلية «الكومبارس» الشعبي في تلك الدولة.. وتفتح ملفات قديمة.. وقضايا عفا عليها الزمن.. لتحريك رأي عام داخلي وخارجي.
6 بناء صورة وردية لما يمكن أن يكون عليه الشعب في تلك الدولة من أوضاع اقتصادية وسياسية وثقافية بعد الفتح الأمريكي.. وما سيحظى به الفرد من حقوق وديمقراطيات.. وستكون الكلمة الأولى والأخيرة للمواطن في تلك الدولة..!!
7 حشد تحالف من بعض الدول، وفق لائحة من الفوائد المادية التي ستجنيها من جراء عمليات التغيير المتوقعة في ذلك البلد.
8 هناك إجراء اختياري قد تلجأ إليه الولايات المتحدة، وهو مجلس الأمن .. فإذا تأكدت من إمكانية استصدار قرار من مجلس الأمن فهذا مطلوب لتغليف التحرك الأمريكي بالشرعية كما حدث في أفغانستان، وإذا لم يكن ذلك ممكناً فلدى الولايات المتحدة طرق أخرى .. حيث يمكن ان تبني شرعية تحركها على قرارات سابقة .. أو على مستلزمات أخلاقية .. أو تحت ذريعة حماية المواطن الأمريكي.. أو حماية المنطقة .. أو أي شيء آخر.
9 تحرك القوات الأمريكية وفق خطة عسكرية .. يضعها البنتاجون .. وتصاحبها خطط إعلامية مناسبة لتسريع عمليات التغيير النظامي هناك.
10 بناء نظام سياسي جديد موالي للسياسات الأمريكية.. وتأسيس ما يوصف بأنه ديمقراطية محلية تحرس المصالح الأمريكية بصفة منتظمة .. وبعد اكتمال هذا النموذج الانتقال إلى مكان آخر .. نظام آخر .. دولة أخرى .. وبالخطوات السابقة نفسها.
والسؤال المهم في هذا السياق، هو: هل يمكن لنا ان نوقف هذا الزحف الأمريكي على مقدرات العالم العربي والإسلامي؟ وان نوقف هذا النزف الكبير من الجسد والفكر العربي و الإسلامي؟ وهل يمكن لنا أن نغير من فصول هذا المسلسل؟ وهل لنا بعد ان ابتلعنا غصة أفغانستان وتجرعنا ألم العراق ان نتمكن من وقف المسلسل، وبعثرة أوراق المخطط الأمريكي؟.
هذه أسئلة جوهرية تستحق منا أن نقف أمامها، لأنها تمثل أسئلة لمرحلة حاسمة ومنعطفاً جديداً؟ فماذا يمكن أن نعمل؟.
الجواب .. بكل تأكيد نعم .. ولكن بظروف واشتراطات معينة، ضمن رؤية استراتيجية عربية/ إسلامية.
(*)رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال - أستاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود
|