الحمدلله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وبعد، فإن الله سبحانه قد مَنَّ على الأمة الأمية، فبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فتعلم المسلمون الأولون الكتاب وتعلموا الحكمة، وتزكت أنفسهم بهدايتهما، وقامت الحياة الاسلامية على اساس العقيدة والشريعة، وانبعثت أمة جديدة في العالم تمتد في ربوعه شرقاً وغرباً، تنشر العلم والخير والنور، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو الى الله، تلك الأمة الموصوفة في القرآن الكريم بأنها خير أمة أخرجت للناس.
وكان الشرع الإسلامي هو قوام تلك الحياة الإسلامية المتميزة، يوجهها وينير سبيلها، وكان مرجع الناس في جميع القضايا والشؤون الفردية والجماعية، يحتكمون إليه في الخصومات، ويفزعون إليه فيما ينوبهم من النوازل والوقائع، ويتلزمون بمقتضى ما يوجبه من حكم وفتوى، وهو النظام الذي تسير عليه الدولة في شؤونها الداخلية، وفي علاقاتها الخارجية سلماً وحرباً، وكان العالم بالشريعة هو الانسان الذي يفزع إليه الجميع، يتعلم منه طالب العلم المتدرج، ويذاكره القرين الحاذق، ويستفتيه العامي الجاهل فيما يعرض له وينزل به، ويستقضيه الخليفة والحاكم، ويستشيره الأمير والوزير، وما ذلك إلا لما تعلَّمه المسلمون من كتاب ربهم وسنّة نبيهم من تعظيم العلم ورفع شأن أهله به، وأنه ميراث النبوة في الأمة، مَنْ تشرف بشيء منه فقد أخذ بحظ وافر من الخير، وما تعلَّموه من الحث على الفقه في الدين، وأنه لن يبلغ أحد ان يعبد الله على بصيرة حتى يكون سائراً على طريق صحيح، يُعرِّفه به أهل العلم الذي ينبغي ان يرجع الناس إليهم فيما تنازعوا فيه من القضايا والأمور، ليفصلوا فيه بما يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله بسبب ما آتاهم الله من أهلية الاستنباط. قال تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون<122>} [التوبة: 122] فعمل الصحابة بتوجيه هذه الآية وما اقتضته من حكم، فكانت منهم طوائف نفرت للتفقه في الدين وملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك، وانصرفت طوائف أخرى، بعضها يجاهد في سبيل الله، وبعضها يقوم بالواجبات الكفائية الأخرى، يكفي بعضهم بعضاً فيها.
وبينت السنة من جهتها ان اشتغال الانسان بطلب الفقه والاقبال على تحصيله من علامات الخير، قال النبي صلى الله عليه وسلم «من يرد الله به خيراً يفقه في الدين»«1» وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه عبدالله بن عباس وهو غلام حَدَث، بدعوة صالحة، أن يفقهه الله في دينه ويعلمه تأويل كتابه، فقال «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»«2»، فاستجاب الله دُعاءه له، فكان من أَبصر الناس في زمانه بالفقه والفتوى، ومن أعلمهم بكتاب الله تعالى.
ومن هذه النصوص القرآنية والنبوية اشتُق اسم «الفقه» ليكون عنواناً على مجموعة الاحكام الشرعية، سواء منها المنصوصة في كلام الشارع او المستنبطة باجتهاد المجتهدين، هذا معناه الواقعي، وإن كان معناه الاصطلاحي النظري مقصوراً على الاحكام المستنبطة بطريق الاجتهاد حيث تختلف الانظار وتتباين الآراء، اما تلك التي تُعرف بنصوص واضحة لا خلاف فيها، فليست من الفقه اصطلاحاً، لأن معرفتها لا تكلف اجتهاداً، ولا تتطلب فقاهة.
وكلمة فقه في اللغة تدل على دقة الفهم، وعمق المعرفة، والغوص على المعاني بذكاء وحصافة.. قال ابن منظور: الفقه: العلم بالشيء والفهمُ له، وغلبَ على علْم الدين لسيادَتِه وشرفه وفَضْلِه على سائر أَنواع العلم، وقال أيضاً: والفِقْهُ: الفِطْنةُ «3»، فمن هنا كان الفقهاءُ من أعقلِ الناس في الأمة وأبصرهم بالخفايا والخبايا، وأرشدهم رأياً، وأخلصهم نصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم على السواء.
ولما كان الفقه والفقيه بهذه المثابة والمنزلة، كان كل بيت من بيوت المسلمين يتمنون ان يخرج منهم عالم يفوز بهذه المزية الشريفة والمرتبة المنيفة، ويرفع شأنهم بهذا النسب المعنوي الكريم، الذي يقرب صاحبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بغير رحم موصولة ولا قرابة محسوبة.
وبقي المسلمون محافظين على العناية بالفقه خاصة، وبعلوم الشريعة عامة، على مر الدهور والعصور، فامتلأت المساجد بحِلَق العلم، فيها تلقين المبادئ وتحفيظ القرآن وإملاء الكتب، ورواية الحديث ودرس الفقه، ثم أنشأ المسلمون مدارس مستقلة لكثرة الطلاب وتفرغهم للعلم، وتسابقوا في عمارتها وأوقفوا عليها الاوقاف، وأجروا الجرايات على طلابها وشيوخها، والمعيدين فيها، وعلى القائمين عليها من النُّظّار والقُوَّام، وتسابق الناس في ذلك، حتى زخرت عواصم الإسلام بكبار المدارس الجامعة وغيرها، كالمدارس النظامية التي أنشأها الوزير السلجوقي نظام الملك ببغداد ونيسابور، ومدارس دمشق التي لاتحصى كثرةً، ومن أشهرها المدرسة العمرية التي أسسها الحنابلة بسفح جبل قاسيون، وظل يتوافد عليها الطلاب من كل بلد مئات السنين، وكمدارس القاهرة، وعلى رأسها الجامع الأزهر، وكجامع الزيتونة بتونس وجامع القرويين بفاس، وجامع قرطبة بالأندلس، وغير ذلك.
ولما دَوّن الناس العلوم الجديدة، وانطلقت حركة التصنيف بعد ذلك في كل مكان في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، كان الفقه الاسلامي من اوائل تلك العلوم تصنيفاً وتأليفاً وتحريراً لأبوابه وموضوعاته، وأقبل الناس على ما ظهر من تلك المصنفات أولاً بأول، ينسخون منها النسخ، ويتدارسونها ويحفظون متونها، ويُروونها لمن بعدهم.
وترجع عناية سلفنا رحمهم الله بالفقه الاسلامي، وشدة إقبالهم عليه، لعدة عوامل، نذكر منها:
1- حرصهم على طاعة الله ورسوله، والعمل بما جاء في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ذلك ان العلم مطلوب في الشرع للعمل به، والتزام مقتضاه في القلب واللسان والجوارح، وضبط السلوك العملي بضوابطه، ومن هذا المنطلق لم يكن يعرف المسلمون الأولون العلم الجدلي النظري الذي يقصد للمناظرات، والتباهي بكثرة الحفظ وسعة الاطلاع، والقدرة على الإفحام، وغير ذلك من الاغراض المذمومة التي جاء الشرع بالنهي عنها والتحذير من سوء عاقبتها، فقال العلامة الشاطبي في «الموافقات»: كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوضٌ في ما لم يدل على استحسانه دليلٌ شرعي، وأعني بالعمل، عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعاً،«4» وقال أيضاً: كل مسألة مرسومة في أصول الفقه، لاينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عوناً في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية«5».
2- تعظيم علوم الشريعة في نفوسهم، وذلك ان الشريعة الاسلامية التي خرج الفقه من مشكاتها، ليست من اختراع العقول البشرية القاصرة، وإنما هي من الوحي الذي أوحاه الله عز وجل الى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وأئتمنه على تبليغه للناس كافة، ومن أجل ذلك عصم قلبه ومنطقه من الزيغ وصانه عن النسيان {وما ينطق عن الهوى <3>} [النجم: 3] {سنقرئك فلا تنسى <6> إلا ما شاء الله.. <7>} [الأعلى: 6 - 7]
ومن هذا المبدأ كان الواحد من حَمَلة العلم إذا سئل عن المسألة، ولم يكن حاضر الجواب فيها، توقف وامتنع عن الفتوى أو أحالها على غيره، خشية ان يقول على الله بغير علم.
ومن هذا المبدأ أيضاً كانت المصادر التي يستنبط منها الفقه مقصورة، أولاً على كتاب الله، وثانياً على سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وثالثاً على ما أجمع عليه العلماء، مما لم يدل كتاب ولا سنة على خلافه، لدلالة الشرع على عصمة كلمة الأمة إذا هي اجتمعت على شيء، ورابعاً على ما يرجع الى هذه الأصول الثلاثة مما يسمى بالقياس، الذي يعني في حقيقته ردَّ الفروع الى اصولها، والجمع بينها بجامع العلة التي اقتضت الحكم في الأصل، لمعرفة حكم الفرع على سبيل الظن الذي يترجح عند المجتهد، فالفقه عندما ننسبه الى الفقهاء، حينما نقول: قال مالك، قال أحمد، قال الشافعي، قال الأوزاعي.. لا ننسبه إليهم على أنهم هم قالوه من تلقاء أنفسهم، بل على أنهم كانوا قد بلغوا أهلية الاجتهاد بما أوتوا من أدواته وحصلوا من شروطه، فأصبحوا بذلك حجة في الفهم عن صاحب الشرع، مأمونين فيما يصدرون من الفتاوى بما يجعل المستفتي يطمئن الى انهم اقرب الى ان يصيبوا حكم الله سبحانه وتعالى بعينه.
ولما كانت الشريعة ربانية في مصدرها، متلقاة عن طريق الوحي، اكتسبت تعظيماً لها في نفوس المؤمنين، ورفعاً لشأن أهلها وحَمَلتها وكتبها التي تحفظها، بل وللمدارس التي تدرس فيها، وخضوعاً لحكمها بكل طواعية وتسليم.
3- التماسك الاجتماعي، وذلك ان المجتمع المسلم كان مترابطاً في شبكة علاقاته، بروابط قوية تحفظ فيه الدين القويم والخلق الكريم، وتصون كيانه من الفساد والانحراف، ومن تلك الروابط: وحدة الثقافة ومصادرها، حيث يتلقى أيُّ مسلم ذات الثقافة التي يتلقاها غيره من سائر المسلمين، وهي الثقافة الاسلامية التي تعتمد في مواردها أساساً على القرآن الكريم وعلومه، وعلى السنة الشريفة بأنواعها: القولية والعملية والتقريرية، وعلى السيرة النبوية والمغازي ووقائع التاريخ الاسلامي الأولى، التي كان الناس يحرصون على تحفيظها لأولادهم غاية الحرص، فكان من شأن هذا الرابط المتمثل بوحدة الثقافة ومصادرها، أن نمى الشعور بتماسك المجتمع المسلم وتلاحمه، وتكوَّن بذلك رأيٌ عام متميز، يحفظ الهوية الثقافية بين الناس، ويقوم على توجيه القرآن الكريم والسنة المطهرة، وإذا كان الرأي العام موحداً في الأمة بوحدة المصادر الثقافية، فإن الناس يتسارعون في استشراف تلك المصادر واستيعاب ما فيها بقدر الاستطاعة، وهذا ما حصل لدى سلف أمتنا بالفعل، في شدة اقبالهم على تعلم العلم والتفقه في دين الله تعالى.
وبالعكس نجد أن الغزو الثقافي الاجنبي لما أخذ يجتاح البلدان الاسلامية في العصور الحديثة، على درجات متفاوتة بين بلد وبلد آخر، وتفاعلت معه فئات كثيرة من المثقفين بصورة سلبية، أحدث تصدعاً في جدار الثقافة الاسلامية، فأصبح الرأي العام الاسلامي من جانبه مضطرب الحبل تدريجياً، حتى دخلت الثقافة الاجنبية الى كثير من البلاد الاسلامية دخولاً رسمياً من خلال المدارس والجامعات والاعلام والسياسة، فزاحمت الثقافة الاسلامية، وشوشت ببريقها الخادع صفاء العقل المسلم، والنفس بطبيعتها تهفو الى ما عند الغير، وتجد لكل جديد لذة تغريها به، ولكل ممنوع فيها إليه رغبةً وتشوفاً، فمن هنا ضعف اهتمام الناس بعلوم الشريعة وفي مقدمتها الفقه الاسلامي.
فإذا أردنا لهذا الفقه ان يعود الى نضارته وتألقه وقوته الأولى، وينبعث في ازدهار جديد، فسبيلنا الى ذلك يتمثل باستكشاف الاسباب والعوامل التي جعلت هذا الفقه ينمو ويزدهر بقوة بين سلفنا رحمهم الله، والتي ألمحنا الى بعض منها، ونظن أنها اهمها، فالحرص على طاعة الله ورسوله ينبغي ان يكون شأنَ كل مسلم وديدنه، والمعيار الذي يحدد به الهدف الذي يسعى الى تحقيقه من اعماله في حياته كلها، وتعظيم الشريعة في النفوس هو القوة الخفية التي تدفع الناس الى تعلمها والعمل بمقتضاها، والتماسك الاجتماعي هو القوة الظاهرة التي توجه الناشئين في طريق واحد، وتدفعهم الى السير فيه بثقة واطمئنان، فإذا استكشفنا هذه العوامل ووعيناها حق الوعي، جاءت الخطوة الثانية في هذا الطريق، وهي نشر هذا الوعي بين صفوف المسلمين بكافة الوسائل التعليمية والاعلامية، واقناع الناس بالحجج التاريخية والواقعية، بضرورة العودة الى العمل بكتاب الله وسنة رسوله، وتطبيق الشريعة الاسلامية على كافة مجالات الحياة وفي جميع المستويات، وان هذا هو المخرج الوحيد من الاوضاع المتردية التي تسيطر على معظم العالم الاسلامي وتفتك بكيانه.
ومن تلك الوسائل التي أشرنا إليها في نشر الوعي بأهمية الشريعة للحياة الاسلامية، نشر فقه الأئمة المجتهدين الذين كانت لهم الحظوة في تدوين مذاهبهم والعمل بها، والاشتغال بتحقيقها وتحريرها وتنقيحها، واستكمالها بالأدلة التي تثبت سند كل مسألة ومأخذها، وبالأصول التي تكشف عن كيفية معرفة الفروع واستنباطها، وبالقواعد التي تجمع النظائر والأشباه في قَرن واحد، وتؤلف بينها بكليات جامعة.
ومن أجلِّ هؤلاء الأئمة الاعلام امام السنة ابو عبدالله احمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي ثم البغدادي، رحمه الله، فهذا الامام نال شهرة عظيمة في الحديث، تميز بها حتى فاق الأقران من أهل زمانه، وكان الفارس المجلى في المعرفة بمتونه ورجاله وعلله، وكان مع ذلك فقيهاً مجتهداً، يسلك في منهجه الفقهي مسلك الأحاديث النبوية وآثار الصحابة وفتاوى كبار التابعين، فلا يقدم عليها رأياً ولا قياساً، ولا يتكلف في تأويلها، حتى أصبح مذهبه خفياً في تلك السنن والآثار، حيث كانت من حفظه على طرف الثمام«6»، فلا يتميز عنها إلا بقوله: وبه أقول، وإليه أذهب، وعليه أعول.. وكان مع ذلك يحتاط لحرمات الشريعة ومحظورات الدين، فيسد الذرائع المفضية إليها، وقد استلهم ذلك من الفقه الكلي لهذا الدين، وما اشتمل عليه من القصد الى رعاية المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها.
فظن من ظن من الناس ان الرجل محدِّث من المحدثين ولا ينخرط في سلك الأئمة المجتهدين، ومنهم من عده في اصحاب الإمام الشافعي، وصنفه في رواة مذهبه القديم، فكان من شأن ذلك ان اغفل بعضهم مذهبه في نقل مسائل الخلاف في العديد من الكتب، ودام ذلك زمناً طويلاً، حتى قيض الله له رجالاً فأشبعوه جمعاً وتحريراً وترتيباً وتخريجاً، إلى ان اصبح من أشهر المذاهب وأغزرها تأليفاً، خاصة في القرن السادس وما تلاه من القرون، كما أوضحت ذلك في الجزء الأول من كتابي «المذهب الحنبلي».
وقد كتب الله لي من فضله ان اطلعت في وقت مبكر من حياتي العلمية على ذخائر هذا المذهب الجليل، فوجدت المكتبة الحنبلية زاخرة كثرةً وتنوعاً في الأصول والفروع، حتى استقر في قناعتي ان استشرافها رَومٌ للمحال وحلم لا يتعدى الخيال، فسنحت بالبال فكرة العناية بأشهرها، والانصراف الى الاشتغال بأكثرها نفعاً واغزرها علماً، كالمغني، والشرح الكبير، والانصاف، وشرح منتهى الارادات، وغير ذلك، فتيسر لي بفضل الله الاشراف على اعادة نشرها، وتحقيقها تحقيقاً علمياً وفق المنهج المتبع، بتصحيحها عن طريق المقابلة بين ما أمكن التوفر عليه من اصولها الخطية، ووضع فروقها بين يدي القارئ، مع تخريج نصوصها الشرعية وشواهدها اللغوية، وضبط الكلمات الغريبة والملتبسة بما يكشف اللبس عنها، مع ما يتمم ذلك من الفهارس المتنوعة الكاشفة لكثير من الاسماء والمصطلحات ورؤوس المسائل الفقهية، وغير ذلك مما يسعف الباحث بحاجته من الكتاب، ويرشده بسرعة الى المعلومات الأولية عن الموضوع الذي يريد البحث فيه أو عنه، ويقدم خدمات احصائية مختلفة الأغراض، هذا بالإضافة الى العناية بالإخراج الفني واختيار الحرف الجيد للطباعة، حيث يجد القارئ راحة وانجذاباً لدى البحث، وهذا كله من توفيق الله وفضله.
وأذكر هنا ان مصنفات الفقه الحنبلي الجامعة تترابط فيما بينها ترابطاً وثيقاً، وتسلك مسلكاً متشابهاً في العرض الفقهي والسبك التعبيري، يتسم بالوضوح في العبارة والاستكثار من الأدلة النقلية، والعناية بالآداب الشرعية والجوانب العقدية، وبعضها توسع أكثر من ذلك، حتى ان القارئ لها يجد نفسه يتنزه في روض فسيح من علوم الشريعة من فقه وأصول وحديث وتفسير وعقيدة.. بما يمتع الذهن ويذكي القريحة، ويخرج الانسان من عناء السرد المتتابع للفقه الخالص الذي قد يرهق النفس ويتعبها.
وهذا ما نجده منطبقاً الى حد بعيد على كتاب «الفروع» لابن مفلح الراميني ثم الدمشقي، الذي وصف بعض الشيوخ كتابه هذا بأنه مكنسة المذهب الحنبلي«7»، في الكثرة والتنوع وايراد الفوائد التي لها صلة بالمسائل الفقهية التي يعرض لها، وهو كتاب غفل عنه البعض، ربما لصعوبة عبارته وشذوذ صاحبه بذلك احياناً عن سَنَن من قبله من الحنابلة، لكن الذي يتمرس به قليلاً سرعان ما يتكيف مع اسلوبه وطريقته، وينشدُّ الى ما حشد فيه المؤلف من المعلومات الغزيرة والمتنوعة، ولا غرابة في ذلك لدى من عرف ترجمة هذا العالم الجليل وخَبَرَ سيرته العلمية التي تميزت بأمرين بارزين:
احدهما: تلمذته لشيخ الاسلام وبحر العلوم تقي الدين ابن تيمية، بزمالة ابن قيم الجوزية الذي شهد له بالفضل والسبق والتقدم في المعرفة بالفقه الحنبلي خاصة، فقال: ما تحت قبة الفلك أعلمَ بمذهب الإمام احمد من ابن مفلح«8»!!
والثاني: توفر مكتبة واسعة بين يديه، تجمعت من الكتب التي اوقفت على المدرسة العمرية الشهيرة التي كانت تضم عشرات الآلاف من المصنفات في مختلف الفنون والعلوم، وكان ابن مفلح شديد الاقبال عليها، لا تكاد تنقطع له نهمة مما فيها من التقاسيم والانواع، فخرج من ذلك بكتب نافعة سائغة للدارسين، واهمها كتاب الاداب الشرعية وكتاب الفروع هذا الذي اشار العلامة المرداوي في وصفه وهو من هو في المعرفة بخباياه وخفاياه الى السبب الذي به تميز عن غيره من الكتب الفقهية الحنبلية، بقوله: ومرجع الاصحاب في هذه الايام اليه وتعويلهم في التصحيح والتحرير عليه، لأنه اطلع على كتب كثيرة ومسائل غزيرة، مع تحرير وتحقيق وإمعان نظر وتدقيق«9» ويمكن ان نستخلص من كلمته هذه امرين مهمين:
الأول: ان كتاب الفروع أغنى عن الكتب التي سبقته، الى حد كبير، وبالفعل فإنه لم يصنف كتاب يساميه او يدانيه حتى اواسط القرن العاشر، فبقي عمدة الحنابلة في الدراسة والتدريس والإفتاء، من زمن ابن مفلح الى ان جاء العلامة تقي الدين محمد ابن احمد الفتوحي المصري الشهير بابن النجار، فوضع كتابه «منتهى الارادات» وشرحه، فانتقل الناس اليه وعولوا عليه، ومع ذلك فغالب استمداده من «الفروع»، كما افاد ابن بدران في «المدخل».
الثاني: ان ابن مفلح يعد مصحح المذهب ومحرره وجامعه، كما قال المرداوي في موضع آخر: فإنه قصد بتصنيفه تصحيح المذهب وتحريره وجمعه«10»، ولكن الجمع الذي قام به ابن مفلح ليس كذلك الجمع الذي نجده في الجامع للخلال «ت311هـ» وفي «زاد المسافر» لتلميذه عبدالعزيز بن جعفر «363هـ»، وفي الجامع للحسن بن حامد «403هـ»، والذي قصد فيه اصحابه الى جمع كتب المسائل المروية عن الإمام احمد وترتيبها وتصنيفها، بل هو جمع ملخص من الكتب التي اجتمعت لديه في عصره من مطولات ومختصرات، ومتون وشروح، ومشتملات على الأدلة ومجردات منها، ومذهبيات وخلافيات..
ومن هنا تبرز مكانة هذا العالم ومنزلته في الفقه الحنبلي، بل في الفقه الاسلامي المقارن، حتى قيل فيه: انه لا يعلم احد في زمنه في المذاهب الأربعة له محفوظات أكثر منه«11»، وصفوة ما يقال في هذا الكتاب: انه من أعز ما زخرت به المكتبة الفقهية الحنبلية، ومن أتقن ما صنف في هذا الفن، قل ان يوجد له نظير، فقد سلك به صاحبه مسلكاً فريداً، ونهج به نهجاً بديعاً، فأجاد فيه الى الغاية، وأودع فيه من الفروع الغريبة ما بهر به العلماء كما قال الحافظ ابن حجر كثرة وتحريراً، واعتنى بالوفاق والخلاف بين الأئمة الأربعة واصحابهم، فصارت فائدته متعدية الى المستفيدين في هذا المجال، كما اهتم فيه بتخريج اختيارات شيخه تقي الدين ابن تيمية، فمهد الطريق بذلك للعلاء ابن اللحام في تأليف كتابه «الاختيارات العلمية».
ونظراً للمكانة الجليلة التي يحتلها هذا الكتاب، فقد عمد اليه محقق المذهب الحنبلي ومصححه ومنقحه، العلامة علاء الدين علي بن سليمان المرداوي، فتتبعه في المسائل التي اطلق فيها الخلاف في النقل عن المذهب الحنبلي، فبين ما هو الصحيح من ذلك، وقيد ما اخل به ابن مفلح من الشروط، وفسر ما ابهم فيه من الاحكام والالفاظ، واستثنى من عمومه ما هو مستثنى على المذهب، ووشى ذلك بالفوائد والتنبيهات التي زينته وكملته، على غرار ما صنع في كتاب «المقنع» بتأليف كتاب «الإنصاف» في بيان الراجح من الخلاف المطلق فيه، ومختصره المسمى «التنقيح المشبه»«12» وقد قدم المرداوي، رحمه الله، في كتبه الثلاثة هذه خدمة جليلة للفقه الحنبلي، لم يسبقه فيها سابق ولا لحقه من بعده لاحق، بما بين من الأقوال الصحيحة، وما كشف من الأغلاط والأوهام الواقعة في المتون الفقهية الحنبلية، على كثرتها وتنوعها في اغراض التصنيف، وكان من نتيجة صنيعه هذا ان مهد الطريق الى اخراج المتون الفقهية الحنبلية التي ظهرت من بعده، في طراز جديد يظهر فيه الفقه الحنبلي مقصوراً على قول واحد، هو الراجح المعتمد، خالياً من حكايات الخلاف من الروايات والوجوه والاختيارات والاحتمالات والتخريجات، التي قد لايبحث عنها إلا المحققون، وهذا ما نجده واضحاً في كتاب «الإقناع» لموسى الحجاوي الدمشقي، و«منتهى الارادات» لابن النجار الفتوحي المصري، وكاد المرداوي بما كان دائباً عليه من الاستقراء ان يستوعب المكتبة الحنبلية بما ذكر من اسماء التصانيف، خاصة في كتابه الانصاف، حتى انه لايعزب عما استودعه فيه من اسامي الكتب ومصنفيها، الا القليل النادر.
فهدينا من قبل بتوفيق من الله الى فكرة الجمع بين المقنع وشرحه: الشرح الكبير، وتصحيحه: الانصاف، لما بين هذه الكتب الثلاثة من الترابط التكاملي والتفسيري، واشرفنا على اخراجها في موسوعة واحدة، مع التحقيق لنصوصها في جميعها، وكذلك تهيأت بعد ذلك فكرة جمع الفروع مع تصحيحه، ليكون الكتاب كامل الفائدة تام النفع، ونظن ان ما بذل من جهود في تحقيق كتاب الفروع، يكون قد حقق الهدف في تقريبه اشواطاً الى الدارسين والباحثين وطلاب العلم، لكي يأخذ مكانه اللائق به من جديد بين مصادر الفقه الاسلامي، بما اشتمل عليه من الجمع لفروع مذهب الامام احمد، مع الاشارة برموز وظيفية الى مواضع الاجماع والوفاق والخلاف مع ائمة المذاهب الثلاثة الاخرى واصحابهم«13».
ومما زاد الكتاب اهمية ومدَّ حبل النفع فيه، ماتوفرنا عليه من حواشٍ نفيسة، علقها العلامة تقي الدين ابو بكر ابن قندس على الكتاب، وقصد بها المواضع المشكلة والمستغلقة منه، فجلى اشكالها وفتح اقفالها، فأفاد بذلك غاية الافادة، وتم ذلك بذكر فوائد وزوائد، فكثر الانتفاع بها، ونالت حظوة بالغة وثناء عطراً لدى من جاء بعد المؤلف من العلماء، حتى قال ابن بدران في وصفها: وبها من التحقيق والفوائد ما لا يوجد في غيرها«14»، ويكفي من شأن هذه الحاشية ان العلامة المرداوي وهو تلميذ مؤلفها قد جعلها معتمدة في الانصاف وتصحيح الفروع، لكن قلَّ الانتفاع بها منذ ان افردها تلميذه الشيخ ابو بكر الجُرَاعي عن اصلها، فلم يفد منها إلا الجهابذة المحققون من امثال المرداوي.
فجمعنا ما تيسر لنا من نسخها الخطية وتم تصحيحها، ثم إلحاقها بهامش الكتاب، مع الربط بين مسائلها وبين محل الغرض الذي ترجع اليه من نصوص كتاب الفروع، برموز مرجعية.
ونسأل الله ان يبلّغ المقصود مما توخيناه من هذا العمل المتتابع في نشر الفقه الحنبلي، الذي يجد مبرراته الواقعية متمثلة بأمرين مهمين:
الأمر الأول:
ان تجديد الفقه الاسلامي الذي نشطت الدعوة اليه في عصرنا الحاضر، وتبلورت فكرته في صيغ مقترحة من بعض الباحثين، ينبغي ان يصار الى تحقيق اهدافه على سنة التكامل في البناء الحضاري الشامل، وهو ان اللاحق ينبغي ان يبني على عمل السابق، ويتمم ما فيه، وان يتجنب الاستئنافية والانطلاق من الفراغ، ومن هنا فالتجديد الفقهي الصحيح لابد ان ينطلق من المعرفة الكاملة بالاعمال الجليلة التي انجزها علماؤنا السابقون، والتي لا يستهين بشأنها إلا جاهل أبعده جهله، أو حاقد متحامل أسَرَه حقده وتحامله ان يذعن للحق او ينصف في الحكم، وما دامت هذه المعرفة شرطاً تمهيدياً في النهوض الجديد بفقهنا الاسلامي، فإن جهود التحقيق المنهجي والدقيق لأمهات مصادره، تعد الجسر الذي يعبر عليه كل من يريد ان يخدم الأمة في هذا المجال.
الأمر الثاني:
ان العلم مقصود للعمل، والعلم لايتم العمل به إلا إذا يسرنا نشره بين الناس، وذللنا السبل الموصلة الى نيله وتحصيله، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ضرورة، وذلك إنما يتمثل في حصول التكامل بين التأليف للكتب الجديدة على المناهج الحديثة المناسبة لعصرنا، وبين اخراج الكتب القديمة ذات الأهمية الكبيرة والنفع الواسع، في ثوب جديد مقبول لدى الناس، بما يبذل فيه من اعمال التحقيق والاخراج، وصناعة المفاتيح الوظيفية المختلفة، التي تقرب البعيد وتذلل الصعب، وتفتح المقفل.
ولابد من لفت الانظار في هذا الصدد، الى ان التطبيق العملي للشريعة الاسلامية في الحياة، والاحتكام اليها، يعد من اهم العوامل الحافزة على اثراء الفقه الاسلامي بكل الوجوه، وتنميته وازدهاره، وهذا ما نجد له مثلاً واقعياً في المملكة العربية السعودية، التي قامت على دعائم الدين والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الفقه الاسلامي فيها مكانته اللائقة، تأليفاً وبحثاً وتعليماً له في المدارس والمعاهد والكليات، وكذلك في حلق المساجد وفي دورات العلوم الشرعية، وفي وسائل الاعلام، ناهيك عما زخرت به المكتبات العامة والخاصة والمراكز العلمية من الكتب المطبوعة والمخطوطة الاصلية منها والمصورة، والوثائق والمواد العلمية المختلفة التي جُهزت بها الجامعات والمؤسسات المستقلة، لخدمة العلوم و الثقافة بصورة عامة، والعلوم الشرعية بصورة مميزة.
ومن وجه آخر يمثل الفقه الحنبلي النسبة الكبرى في استمدادات المملكة التشريعية والتنظيمية، ويحظى بدرجة كبيرة في تكوين مصادر القضاء، كما هو واضح في التوجيهات الخاصة بالمحاكم والقضاة، وكذلك الشأن في المملكة بالنسبة للفتوى، فهذا وذاك كلاهما قد اعطيا دفعاً قوياً ومميزاً للعناية بالفقه الحنبلي من الناحية العملية، وبالتالي فإن هذا المذهب الجليل قد كتب له ان ينبعث من جديد غضاً ناضراًَ في التطبيق الميداني في ارض الوحي ومهد الرسالة.
ويعود الاهتمام في المملكة بنشر الفقه الحنبلي في بدايته ومنطلقه، وكذا نشر تراث السلف بوجه عام، إلى ايام تأسيسها، وبعناية خاصة من الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، رحمه الله، فقد كان حريصاً على نشر التراث الاسلامي، وكان سخي اليد في ذلك، حيث امر بطباعة العديد من امهات كتب السلف وتوزيعها على نفقته الخاصة، كما امر بشراء كميات كبيرة من النسخ لكتب مطبوعة، وتوزيعها على الناس عامة وعلى طلاب العلم خاصة«15»، فهناك العشرات من كتب التفسير والحديث والتاريخ والأدب التي أمر بشراء مجموعات منها لتوزيعها مجاناً«16»، وقد طبعت على نفقته كتب كثيرة لم يذكر عليها اسمه إلا ما جاء على بعض مطبوعات في الهند من أنها: طبعت على نفقة من قصده الثواب من رب الأرباب«17».
وقد دلت الدراسات الخاصة بهذا المجال«18»، على ان اغلب الكتب المطبوعة على نفقة الملك عبدالعزيز، كانت من مؤلفات اعلام السلف ومن سار على نهجهم، من مثل الامام احمد وابن كثير وابن تيمية وابن القيم وابن قدامة.. كما دلت على ان تلك الكتب كانت متنوعة في موضوعاتها، بين العقيدة والتفسير والفقه واللغة العربية وآدابها، والتاريخ الاسلامي، وغير ذلك، بالاضافة الى العناية الخاصة بنشر آثار الشيخ محمد بن عبدالوهاب، رحمه الله، وتلامذته«19»، تعريفاً بهذه الدعوة المباركة وبما لها من فضل على احياء علم السلف ورد الناس الى المعين الصافي من دينهم.
ويشير عدد من المصادر الوثائقية الى ان جهود الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، لم تكن مقصورة على نشر الثقافة الاسلامية الصحيحة في داخل المملكة فحسب، بل امتدت الى كثير من طلبة العلم في مختلف انحاء العالم«20»، ولا غرو ان ذلك مظهر من مظاهر التوجه الذي كان يسلكه الملك عبدالعزيز بهذه الكلمة في خدمة الاسلام، والاسهام في النهضة الشاملة بالأمة، والقيام بأعباء الدعوة الى الله، وتشجيع ابناء المسلمين على طلب العلم، والرغبة في نشر تعاليم الاسلام بين الناس، وفق ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه، ومنهج السلف الصالح من أئمة المسلمين واعلام الهدى، عملاً بقول الله تعالى {الذين ان مكناهم في الارض اقاموا الصلاة واتوا الزكاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور <41>} [الحج: 41] .
ولا تزال المملكة الى يومنا هذا وبفضل الله وتوفيق منه لولاة الأمور تسير في هذا الطريق القويم، وتستنير بضوء هذه السنة الحسنة التي سنها مؤسسها، وتمثل ذلك على الصعيد الداخلي في تنشيط الحركة العلمية، واعطائها الأولوية في خطط التنمية الشاملة، ودعم مؤسساتها التي خطت خطوات قياسية في هذا المجال بالنظر الى التحديات والامكانات والعامل الزمني، وهذا ما يتضح جلياً فيما تم انجازه من جامعات، ومكتبات عامة، ومراكز للبحوث والدراسات، وكذا الهيئات التي يتصل عملها بهذا المجال، والتي عادة ما يشرف عليها ويرعاها اولو الأمر، مسارعة منهم في الخيرات واعطاءً للمثل من انفسهم في ذلك.
ولم يكن هذا الجهد الداخلي ليشغل المملكة او يثني من عزيمتها في الاستجابة لما يمليه عليها دينها من واجب النصح لعموم المسلمين اينما كانوا، والاهتمام بشؤونهم وما يشغلهم من قضايا، وعلى وجه الخصوص اولئك الذين يعيشون بين ظهراني الأمم غير المسلمة، فإنهم ضعفاء بحكم واقعهم لما يشعرون به من الحرمان من المجتمع الذي يناسب عقيدتهم وهويتهم الحضارية، فهم بحاجة دائمة الى اسعاف الضعفاء منهم، والوقوف الى جانبهم في المحن والملمات والنكبات، وبذلك شهدت المملكة، في عهد ابناء الملك عبدالعزيز، ومن يلونهم من كبار المحسنين وأهل الخير والفضل، تطوراً ملحوظاً فيما يقومون به من جهود في هذا المجال، ولم يكن ذلك منهم إلا وضعاً لمشاعر الأخوة الاسلامية والشعور بوحدة الأمة، في موضع التطبيق العملي، وتحمل ما فيها من تبعات وأعباء.
ومن أبرز تلك الجهود القيام بتوزيع الكتب التي تعرف المسلمين بدينهم، وتنشر الثقافة الاسلامية الاصيلة بين صفوفهم، وكذا الدعم المادي للمشاريع والاعمال الخيرية، من بناء المساجد والمراكز والمدارس والمستشفيات، وغير ذلك من المؤسسات التي تخدم الجاليات المسلمة خارج العالم الاسلامي.
هذا الى جانب حمل هموم الدعوة الى الله في مختلف انحاء العالم، امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أولئك هم المفلحون<104>} [آل عمران: 104] ، وقد جندت المملكة لهذه الغاية السامية دعاة راشدين، تعلموا العلم ووطنوا انفسهم على الاستقامة وفق مقتضاه، وقد غذوا بمنهاج سليم يرفض الخرافات والبدع، يستمد اصوله من علم السلف وعملهم وطريقتهم في الدعوة ونشر الاسلام.
وتعد جهود خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حفظه الله وأسبل عليه رداء العافية والصحة نموذجاً حياً في هذا المضمار، ولئن لم تشهد المملكة في عهده إلا المجمع الذي تم انشاؤه في المدينة النبوية لطباعة المصحف الشريف، وترجمة معانيه الى عشرات اللغات وتسجيل تلاوته، وما يتبع من العناية بعلوم القرآن والسنة والسيرة والبحوث والدراسات الاسلامية، لكفى في الدلالة على مدى تمسكه بنهج والده، وتأثره بسيرته الطيبة، في خدمة العلم ودعم جهود الدعوة الى الاسلام بمختلف الوسائل الممكنة، وفي ذلك مفخرة أيُّ مفخرة لهذه المملكة التي تواصَلَ عطاؤُها وعم نفعُها ارجاء العالم.
وإذ نَزُفُّ اليوم الى الناس بشائر اصدار كتاب «الفروع» في ثوبه الجديد، مع ما ينضم اليه من تصحيح المرداوي وحاشية ابن قندس، حتى اصبح المجموع موسوعة جديدة تزدان بها المكتبة الحنبلية بل المكتبة الفقهية، فإنه لا يفوتني ان اسجل الشكر الجزيل لسمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، أمير منطقة الرياض، على ما أولاه من العناية بنفقات توزيع الكتاب ونشره، ليصل الى الناس ويوزع على طلاب العلم حسبة لوجه الله تعالى، فما أن اطلعته على هذا العمل وشرحت له اهميته وفوائده، وما يحتاج اليه من يد سخية كريمة تتكفل بنفقات توزيعه، حتى بادرني في حفاوة وانشراح، بإبداء الاستعداد للتكفل بتلك النفقات، فشكر الله له بذله، وتقبل منه هذه الصدقة الجارية، وجعلها في موازين حسناته، وصحائف اعماله الصالحة، وليست مثل هذه العناية بغريبة في سيرة سمو الأمير سلمان، وهي خصلة من الخير لا زال يقفو فيها أثر أبيه الملك عبدالعزيز رحمه الله، في الاهتمام بالعلم والعلماء، ونشر كتب السلف الصالح.
والشكر موصول الى سائر اولئك المحسنين من اهل الخير، تنويهاً بجهودهم الكريمة وما ضربوه من المثل في البذل والعطاء والإنفاق في وجوه الخير المختلفة، فقد اعتادوا ان يقفوا وراء نشر هذه الكتب الكبيرة، بما جادت به نفوسهم، وبما انفقوا من اموالهم في سبيل طباعتها وتوزيعها على طلاب العلم، ولولا تلك الجهود بعد فضل الله تبارك وتعالى لظل كثير من امهات الكتب في مختلف علوم الشريعة، حبيساً في مستودع المخطوطات، لايجد من يتحمل ما يتطلبه نشره من تكاليف التصحيح والتحقيق والطباعة المناسبة، فشكر الله سعيهم وتقبل منهم صالح اعمالهم وأحسن مثوبتهم.
وهذا كله يتم في ظروف عصيبة، وفي زمن تداعت فيه الأمم على المسلمين كتداعي الأكلة الى قصعتها، ووهن الكثير من ابناء الأمة مع الأسف في مواجهة الحملات المتتابعة عليهم، المستهدفة لهويتهم الحضارية، والتي يمثل فيها الدين ولغته العربية حجر الأساس.
فحقٌ علينا ان نُشيد بهذه الجهود التي ينبغي ان تُذكر، تحدثاً بنعمة الله أولاً، ولتتخذ مثالاً يحتذى ثانياً، وأن تُشكر ليعرف الناس قيمة الخير ويقيموا موازينه بينهم ويقدُروا أهله، كيف لا وما دونت سير السلف الصالح إلا لأجل هذا الغرض، وليأخذ الناس أيضاً من واقع هذه المملكة شواهد حية على استمرار الطائفة المنصورة القائمة على الحق، التي أخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنها لاتزال مبثوثة في سواد الأمة الإسلامية الى قيام الساعة، وأن الله سبحانه و تعالى لايزال يصطفي من عباده فئات يستعملهم في طاعته، ويجندهم لخدمة دينه والدعوة الى كتابه وسنة نبيه، وأن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة، ليتم الله امره ويُظهر دينه الذي ارتضاه للناس وختم به الرسالات، بما أودع فيه من ميزات الخلود والاستمرار والشمولية للأزمنة والأمكنة والناس جميعاً..
وإذن فهذا النموذج الفريد الذي قدمته المملكة العربية السعودية، في الجمع بين العلم والعمل والاحتكام الى الشريعة في شؤون الحياة، يعد حافزاً يحفز الأمة الى استعادة الثقة بالذات والالتفاف الى ميراثها العظيم الذي ورثته من جهود الأسلاف، واستئناف نهضة حضارية شاملة جديدة، تقوم على أسس الفقه الاسلامي بأوسع ما يتضمنه هذا اللقب من الدلالات والمحتويات.
وينبغي ان لا يفهم من هذا التنويه اننا نريد ان ننحبس في نطاق تراثنا نمجده ونتغنى به، كالذي ينادم الأطلال ويسامر الخيال، بل علينا ان نحل مشكلاتنا المعاصرة بحلول معاصرة ومناسبة للزمان الذي نعيش فيه، ومكافئة لحجم المعركة التي نواجهها، لكنها في ذات الوقت حلول تعتمد على العقيدة والفقه الاسلاميين، اللذين يمثلان اساس الحياة الاسلامية وجوهر مقوماتها، والسياج الذي يحفظ للأمة هويتها وتميزها الحضاري، ونحن على ثقة تامة من أن المرونة التي تتميز بها شريعتنا السمحة، تمكننا من معالجة قضايانا بهذا الفقه، مهما بلغت في الصعوبة والتعقيد، كما عالج سلفنا قضاياهم به، من غير ان نشاكس اسباب القوة المادية والتطور التقني، او نتحرج من الاستفادة من نتائج الحضارة الحديثة في جوانبها النافعة، على اعتبار انها تجربة انسانية في اكتشاف مدخرات الكون التي امتن الله على عباده بتسخيرها لهم بقوله {وسخر لكم ما في السموات ومافي الارض جميعاً منه ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون<13>} [الجاثية: 13] ، فنحن وجميع الناس على سواء إزاء هذا الامتنان الرباني، والعقول التي سبقت الى اكتشاف هذه المدخرات هي من نعمة الله على الانسان ايضاً، فكانت بذلك من جملة المسخرات التي سخرها الله للناس جميعاً، بما يصلهم من نفعها في الاكتشاف والمعرفة.
ونعود الى القول بأن الفقه الاسلامي يمتاز بالقدرة على التكيف مع الأوضاع المختلفة التي تتعاقب على الأمة، بل وتكييفها مع مقتضيات العقيدة والشريعة، ببيان الفتوى في جزئيات تلك الاوضاع والنوازل المتجددة، ذلك ان الفقه الاسلامي يشتمل على كليات ثابتة لاتتبدل ولا تتغير، وهي التي ينبغي ان تُكيِّف المستجدات بما تقتضيه في احكامها ومقتضياتها، وعلى جزئيات قد تخضع في البعض منها لعوامل الزمان والمكان، والعرف الذي يعيشه الناس، حيث لم تكن محسومة في حكمها بنص ولا اجماع، وهنالك يتكيف الفقه مع تلك المستجدات تبعاً لما فيها من التغير، وهذا امر لا يحسنه بطبيعة الحال إلا العلماء المجتهدون، ومهما تميز هذا الدين بميزات التوافق مع المعقول والجريان مع رعي المصالح ودفع المفاسد، فإن الفتوى في قضايا الناس، وما يستجد لهم من وقائع وينزل بهم من نوازل، لا توكل إلا الى أهل العلم، لقول الله تعالى: {فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون <43>} [النحل: 43] ، وأهل الذكر هم أهل العلم، فلا يجوز لأحد ان يقول في دين الله بظنه إلا ان يكون ظناً معتبراً شرعاً، وهو الظن الناتج عن اجتهاد صحيح صادر من أهله، ومن هنا تظهر أهمية العلماء في الأمة وشدة حاجتها اليهم باستمرار، وان هذه الحاجة لن تسد إلا بإعداد هؤلاء العلماء من خلال المدارس الشرعية والمعاهد والكليات المتخصصة، وتوجيه الطلاب توجيهاً صحيحاً، والعناية بهم منذ صغرهم إلى ان تؤنس منهم الكفاية والتمام.
***************
الهوامش
1- اخرجه البخاري «71» ومسلم «1037» من حديث معاوية رضي الله عنه.
2- اخرجه البخاري «143» ومسلم «2477» من حديث ابن عباس دون قوله «وعلمه التأويل»، وهو بهذه الزيادة عند احمد وابن حبان والحاكم وقال صحيح الاسناد.
3- لسان العرب «باب الهاء فصل الفاء».
4- الموافقات 46/1 «المقدمة الخامسة» وقوله «من حيث هو مطلوب شرعاً، يعني ان الاعمال التي يعملها الانسان بقلبه او بجوارحه لها حيثيات كثيرة، ونواح متعددة، منها حيثية تعلق الطلب الشرعي بها، وحكمه عليها بالحل والحرمة والوجوب والندب..
5- الموافقات 42/1 ومعنى قوله «عارية» انها دخيلة على صلب هذا العلم، وباقية في حكم المستعارة من العلم الذي نقلت منه سواء كان لغة او علوم قرآن او غير ذلك، والعارية مردودة.
6- يعني سهلاً قريباً، وهو اشارة الى المثل السائر: هو على طرف الثمام، وهو نبت ضعيف سهل التناول يسد به خصاص البيوت، وقالوا: إنه ينبت على قدر قامة المرء، ويضرب هذا المثل في تسهيل الحاجة وقرب النجاح «مجمع الامثال للميداني 4501، 4571».
7- الجوهر المنضد لابن عبدالهادي ص113
8- المقصد الارشد 519/2
9- تصحيح الفروع بهامش الفروع 22/1 23 من طبعة عالم الكتب.
10- الانصاف المطبوع مع المقنع والشرح الكبير 23/1 دار هجر.
11- المقصد الارشد 519/2
12- المذهب الحنبلي 457/2
13- المذهب الحنبلي 375/2
14- المدخل الى مذهب الامام احمد بن حنبل ص440
15- وفيما يتعلق بهذا الموضوع نشرت جريدة «ام القرى» في عددها الصادر في رمضان لعام 1347 1928م ان الملك عبدالعزيز اراد ان ينشر الدعوة الى الدين الخالص في سائر الامصار، فاستشار العلماء في خير الكتب التي ينبغي نشرها بين الناس، ليعمل جهده في توفيرها، فذكرت له الكتب التي تبين حقيقة التوحيد، منها ما هو مطبوع ومنها مالم يطبع، فاشترى من المطبوع مئات الكتب بل الالوف، وما لم يطبع منها امر بطبعه وتوزيعه، حتى بلغت الكتب التي طبعت على نفقة الملك عبدالعزيز نحواً من مائة كتاب، وينظر ايضاً:
1- التعليم في عهد الملك عبدالعزيز، للدكتور محمد بن عبدالله السلمان، ص122 ضمن البحوث المنشورة بمناسبة الاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية.
2- عناية الملك عبدالعزيز بنشر الكتب، للاستاذ عبدالعزيز الرفاعي ص 1 21 ضمن بحوث مؤتمر الملك عبدالعزيز.
16 ينظر:
1- الوجيز في سيرة الملك عبدالعزيز، لخير الدين الزركلي، ص339 ط دار الملايين.
2- اصدق البنود في تاريخ عبدالعزيز ال سعود لعبدالله بن علي الزامل ص382
3- التعليم في عهد الملك عبدالعزيز، د. السلمان ص121
17 الوجيز في سيرة الملك عبدالعزيز ص339
18 ومن تلك الدراسات:
1- الدراسة القيمة التي قام بها الاستاذ عبدالعزيز بن احمد الرفاعي، رحمه الله، واصدرها بعنوان عناية الملك عبدالعزيز بنشر الكتب، وهي من منشورات المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبدالعزيز، الرياض ربيع الاول 1406هـ.
2- الدراسة العلمية الميدانية القيمة التي قام بها الدكتور فهد بن عبدالله السماري، عن مكتبة الملك عبدالعزيز الخاصة، وهي من منشورات دارة الملك عبدالعزيز الرياض 1417هـ.
19- مكتبة الملك عبدالعزيز الخاصة، د. السماري ص13
20- الملك عبدالعزيز والعمل الخيري، د. عمر بن صالح بن سليمان العمري ص202 ضمن البحوث المنشورة بمناسبة الاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية.
|