حلقات أعدها: حميد العنزي
في حلقة اليوم نستعرض المعالم الحضارية والاقتصادية والامنية للدرعية في تلك الحقبة الزمنية.
المعالم الحضارية
تناول الدكتور محمد بن سعد الشويعر في مقالة له بعنوان «الدرعية عاصمة الدولة السعودية الاولى..» المعالم الحضارية عند ابن بشر التي نوردها في السطور التالية:
المكانة العسكرية
لقد تحدث ابن بشر واطال عن الاستحكامات العسكرية، التي جعلت الدرعية تثبت جدارة قتالية، وصموداً منقطع النظير امام قوات ابراهيم باشا الغازية.. هذه الاستحكامات يترتب عليها التخطيط الدقيق، والانفاق المالي، واليقظة العسكرية، مما يدل على اهتمام بالغ بالاستراتيجية العسكرية، وتنظيم المحاجي، وترتيب قادتها، لأنها بمثابة الوحدات والاستحكامات. فهو يقول بعد تلك الافاضة، وبعد وصفه للقوة المصرية المنتظمة في مسيرها وامداداتها من مصر الى الدرعية، كل اسبوع وشهر حاملة العسكر والطعام والمتاع، وما ينوب تلك العساكر، مشيراً الى تكاليفها الباهظة.
يعبر عن ذلك بنظرته التاريخية المتفحصة فيقول:« فلما علمت اني لم اذكر كل وقفة على حقيقتها، وخفت فيها من الزيادة والنقصان اعرضت عن ذكر الوقعات الا يسيراً، وانما اكثرت من ذكر المحاجي وتسمية اهلها، ومن كان فيها لأن هذه بلدة خربت - الضمير يعود للدرعية وفني اهلها، وبقيت رسومها، وعلاماتها فأردت ان الواقف على تلك الرسوم، ولو بعد حين يعرف اهلها، ويعرف مواضعها وصدقهم في الحروب، وكان في آخر نواحي نجد وقراها، رسوم وعلامات، وهي مساكن اناس سلفوا في العارض، والخرج والوشم، والقصيم وسدير وغير ذلك، ولا يعرف من سكنها، ولافعل اهلها، ولا ما فعل بهم، وذلك من تقصير علمائهم عن ذلك، وعدم التفاتهم إلى هذا الفن، وهذا فيه تعريف بمنهجه.
ويقول ايضاً: ما ترى في كل موضع مع كثرتها حرباً مشتعلة، الا رأيت في الموضع الثاني مثله، ومثله في الآخر. وهذه المعلومات عنده في حرب عام 1233هـ مع ابراهيم باشا.
وقد ذكر في موضع آخر ان عدد قتلى عساكر ابراهيم باشا في معارك الدرعية قرابة 000 ،12، من هذا العدد في الدرعية وحدها 500 ،10 حسب معادلة حسابية وصفها، وكشاهد لهذه القوة، التي اثبتت وجودها ما ذكره الجبرتي «1167-1237هـ»، في تاريخه في اكثر من موضع، في الجزء الرابع، عن القوة الدفاعية في الدرعية، والتحفز الكبير، والاستعدادات التي اتخذت لمجابهة قوات ابراهيم باشا، منذ بدأ حملته وقبلها، حتى انتهت الحرب.
الناحية الاقتصادية
يصف ابن بشر بعض المظاهر التي شاهدها ماثلة امامه، دون ان يقارنها بحالات اخرى، لأنه يرى أن وضعها فريد، وسوقها التجاري والمالي عجيب، حيث اتصلت الدرعية بغيرها في التعامل التجاري، والتداول الاقتصادي، مع ان المواصلات في ذلك الوقت صعبة فيقول:
«وكانت قوة هذه البلد من اقوى البلاد، وقوة اهلها وكثرة رجالها واموالهم لا يحصيه التعداد فلو ذهبت اعدد احوالهم واقبالهم فيها وادبارهم في كتائب الخيل والنجائب العمانية - اجود انواع الابل في الجزيرة العربية.
وما يدخل على اهلها من احمال الاموال في سائر الاجناس، التي لهم مع المسافرين من اهلها، ومن اهل الاقطار، لم يسعه كتاب، ولرأيت العجب العجاب، وكان الداخل في موسمها لا يفقد احداً من اهل الآفاق من اليمن وتهامة، والحجاز وعمان والبحرين، وبادية الشام والعراق، واناس من حاضرتهم الى غير ذلك من اهل الافاق ممن يطول عده، هذا داخل فيها وهذا خارج منها، وهذا مستوطن فيها، وهذا دليل قوي على قوة الحكم، واستتاب الامن، واتساع التجارة والسمعة التي تحقق حسنها في الآفاق، لأن مركز الدرعية المالي والاقتصادي كان جيداً، وهذا مؤشر على المكانة الاقتصادية التي احتلتها الدرعية، حيث اعتبرت سوقاً تجارية قوية المركز، تتصل بغيرها، وتوزع البضائع فيها وفي اسواقها التي اثبتت سمعة حسنة، بحيث تؤثر فيمن يجاورها، او يرتبط بها تجارياً في انواع التعامل شتى ، بل ان مكانتها تجذب غيرها للاشتباك معها في التجارة، تبادلاً وتعاملاً، وتسويقاً واتصالاً..ومعلوم ان رأس المال جبان كما يقال، لا يزدهر الا مع الامن، وهذا ما حرصت السلطة الحاكمة في الدرعية، على توفيره في ظل تطبيق الشريعة الاسلامية والمؤرخ آل عبدالمحسن يورد في كتابه: تذكرة اولي النهى والعرفان توزيعاً للاسواق في الدرعية، وتحديداً لاماكنها فيقول: وفي الدرعية سوق للخيل، وسوق للابل، وسوق للنعام.. ثم يعدد بقية البضائع، ويقول: ان للرجال سوقاً منفصلاً عن سوق النساء.
وابن بشر يأتي في عدة مواضع بأسماء العملات المتداولة، واكثرها ذكراً الريال، وهو المعروف ب :«الفرانسي او ملكة تريزيا، ويذكر من العملات البقشة والاحمر والمحمدي، وغيرها وهذه عملات متداولة في البلاد العربية وتركيا وبريطانيا، وغيرها من الدول التي يتم التعامل معها، لكن لم يحدد ما اذا كان للدولة عملة مستقلة محلية ام لا؟.
لكن من استنتاجنا للقوة الشرائية لهذا الريال، فإنه اكثر منزلة من الجنيه الذهبي ذلك العصر، في مثل قوله عن التسعيرة: ان عشرة اصع من البر تباع بريال.
ويعطي مؤشراً عن الحالة المالية عند سكان الدرعية بنقل بعض الوقائع فيقول: كانت الدور لا تباع فيها الا نادراً، واثمانها سبعة الاف ريال، وخسمة الاف ريال والداني بألفي ريال واقل واكثر، وكل شيء يقدره على هذا التقدير، من الصغير والكبير، وكروة الدكان الواحد بلغت في الشهر الواحد، خمسة واربعين ريالاً، وكروة الدكان الواحد من سائر الدكاكين بريال في اليوم، والنازل بنصف، وذكر لي ان القافلة من الهدم - وهي المنسوجات عامة - اذا اتت اليها، بلغت كروة الدكان في اليوم الواحد اربعة ريالات، واراد رجل منهم ان يوسع بيته ويعمره، فاشترى نخلات تحت هذا البيت يريد قطعها، ويعمر موضعها، كل نخلة بأربعين ريالاً، او خمسين ريالاً، فقطع النخل، وعمر البيت، ولكنه وقع عليه الهدم قبل تمامه.. فهدمه ابراهيم باشا بعد ما تلقى امراً من ابيه محمد علي بهدم الدرعية، وقطع نخيلها، ودفن آبارها.
وذكر لي من اثق به «والحديث لابن بشر» ان رجلاً من اهل الدرعية قال له: اني اردت ميزاباً في بيتي فاشتريت خشبة طولها ثلاثة اذرع، بثلاثة اريل، واجرة نجره وبناه ريال واحد، وكان غلاء الحطب فيها، والخشب الى حد الغاية، حتى قيل ان حمل الحطب بلغ خمسة اريل وستة، والذراع من الخشبة الغليظة بريال. وكل غالب بيوتها مقاصير وقصور، كأن ساكينها لم يكونوا في ابناء ساكن القبور، فإذا وقفت في مكان مرتفع، ونظرت موسمها، وكثرة مافيها من الخلائق، وتزايلهم فيه واقبالهم وادبارهم، ثم سمعت رنتهم فيه، ونجناجهم فيه، اذاً كأنه دوي السيل القوي، اذا انصب من عالي جبل، فسبحان من لا يزول ملكه ولا يضام سلطانه، ولا يرام عزه.
ومن هذا النص يستنتج الدكتور الشويعر النقاط التالية:
- ان اهل الدرعية في يسر وجاه، ومكانة مالية واسعة، واتساع الحركة الاقتصادية وتوافر السيولة النقدية.
- كثرة السكان في الدرعية، والكثرة لا تأتي الا مع الرخاء والامن والعدل، وانهم منفتحون على العالم، بعكس ما يكتبه خصومهم بانغلاقهم.
- ان بيوت الدرعية من نوعية مقاصير وقصور.. والمقاصير عادة تكون في اركان البيوت الكبيرة، مما ينبئ عن الثراء، وكثرة الطبقة الفنية، وارتفاع المستوى في اعمار البيوت.
- ان الدرعية استجلبت العمال والصناع، وانواع البضائع من كل مكان لازدهارها ونموها الذي يستوجب ذلك، ولتوافر سبل المعيشة فيها لنوعيات مختلفة من البشر.
ويعلق على هذه المعلومات المؤرخ آل عبدالمحسن في كتابه: تذكرة اولي النهى والعرفان بقوله: اما ما ذكره الشيخ ابن بشر - رحمه الله - فهو عجيب من جهة العز والرفاهية، وكانت هذه الاشياء المقدرة بهذا التقدير امراً بديعاً، بحيث ان حمل الحطب في ذلك الزمان، وما بعده لا تزيد قيمته على ربع المال في سائر البلدان النجدية، وغالب البيوت في البلاد الاخرى لا تبلغ قيمتها اكثر من ثلاثمائة ريال، فرانسي، اضف الى ذلك كساد الاشياء بعد ذلك، بحيث كان غالب البيوت في مائة ريال، والبيت العادي لا تتجاوز قيمته ثمانين ريالاً.
ثم يذكر مهور النساء بعد ذلك بقوله: فمن النساء من لا يتجاوز مهرها ثلاثة اريل، اما الخشب فحدث في الرخص عنها ولا حرج، فقد يعمر الانسان بيته بعد ذلك، فلا يكلف قيمته الخشب اكثر من سبعة ريالات.
وكأنه يريد ان يقول بهذه المقارنة بأن السيولة النقدية في الدرعية آنذاك بلغت حداً دفع الحالة الاقتصادية للتضخم والازدهار، اذ كان النقد لكثرته ارخص من المواد المعروضة للبيع والشراء، وهذا ما حدا بالناس الى التزاحم على الدرعية لسكناها والانجاز فيها، وهذه الحالة لم تصل اليها كثير من المدن، في دول العالم حتى في عصرنا الحاضر، كما نلاحظ في العصر الحالي ان المدن الكبيرة الميسرة الاعمال والتجارة فيها هي الاغلى في كل شيء.. ثم يقارن ابن بشر هذا الوضع الاقتصادي، بما وصلت اليه البلاد بعد عام فقط، من هذه الحادثة، بعد ان دب الخراب، وهرب الناس، وانعدمت الموارد، مما يدل على ان النماء الاقتصادي قد انهار، والسيولة النقدية قد تقلصت، فانقلبت الحالة من حسن الى سيئ، ومن ازدهار الى اندثار، فيقول: وكانت الاسعار في الغاية من الغلاء في الدرعية وغيرها، وصار الصاع والنصف، والصاعان فيها بريال، وبلغ التمر من الننتين والنصف بريال، وبلغت الشاة للذبح في العارض - وهي منطقة الرياض والدرعية وما حولها - ثمانية اريال.
وفي هذا المجال ينقل المؤرخ ابراهيم آل عبدالمحسن، عن احد المؤرخين المعاصرين للدرعية ابان مجدها، ممن شاهدوا اسواقها التجارية وحركتها الاقتصادية - ولم يسم ذلك المؤرخ - ما نصه: ولقد رأيت موسم الرجال في جانب من السوق، وموسم النساء في جانب آخر، وموسم اللحم في جانب، وما بين ذلك من الذهب والفضة والسلاح، والابل والاغنام، والبيع والشراء، والاخذ والاعطاء وغير ذلك، وهو مدى البصر، ولا تسمع فيه الا كدوي النحل، وقول بعث وشريك، والدكاكين على جانبيه الشرقي والغربي، وفيها من الهدوم - انواع الملابس والسلاح والقماش، ما يعرف ولا يوصف.
فهذه الصورة لم تكن لتبرز بمثل هذا الوضوح، لولا ما تتمتع به هذه المدينة، من مكانة اجتماعية قوية، ومركز اقتصادي واسع الانتشار، خاصة ان النظريات الاقتصادية تقول: ان المال عصب الحياة، وان رأس المال جبان، اذا لم يجد ضماناً من امن، وقوة تحميه هي الدولة واجهزتها - واستقراراً اجتماعياً، فإنه سيهرب من الميدان الى ميادين اخرى.
الحالة المعيشية
والدرعية قد اخذت وضعها بعد ما اصبحت حاضرة لاقوى دولة في الجزيرة العربية، حيث خافها الآخرون لاتساع فتوحات جيوشها.. يروي آل عبدالمحسن في تاريخه بعضاً مما ينبئ عن مستوى الرفاهية، وما وصلوا اليه من ترف فيقول: واما ما كان في الدرعية، فقد بلغنا عن بعض الثقات: انها بلغت الحالة في تقدمها بالترف، بحيث ان من المترفين من يغتسل بالطيب، وان رجلاً دعا صاحباً له، فأكرمه بأن عمل له شراب الشاي على نار عود البخور.
وقال غيره: ان الذي يمشي في دروب الدرعية وازقتها في كل صباح، يجد الروائح العطرية تفوح في كل مكان، حيث تنقلها المياه المتسربة من البيوت، وهذا دليل على محبتهم للطيب ومغالاتهم فيه.
الناحية الصناعية
نرى مؤلف كتاب لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب - وهو مجهول الاسم - الذي يبين من محتوى ما جاء فيه: ان مؤلفه زار نجداً والدرعية، وقت ازدهارها، حيث يتحدث عن عادات اهل نجد، وعن قوة الدرعية، فبعد ان قال: الدرعية هي منشأ آل سعود، ومقر امارتهم حتى اليوم فهي بلدة كبيرة، كثيرة النخل، والفواكه عذابة الماء، وفيها خلق عظيم، وكلهم متمولون، ودار تجارة تقصدها الناس من انحاء الجزيرة العربية، وغير تلك النواحي ايضاً ثم يستعرض القوة السلاحية والعدة الحربية، فيصف الحالة الاجتماعية والمعيشية والعمرانية، فوق ما ذكر ابن بشر في كثير من الحالات، ومن ذلك قوله: لما استمر امر محمد بن عبدالوهاب، استخرج بعقله وخياله سلاح التفق، وعلم الناس صنعته وخواصه، فرغب الناس باستعماله وحمله، فشاع في بلدان نجد جميعها، حتى انه اليوم جلب الى اليمن من نجد، والى اطراف بلد جهينة، وكثير من ارض الحجاز، وصار له شأن عظيم بين الحضر والبداوة، وهو لطيف الصنعة، سريع الرمي، قليل الخطأ، بعيد الرمية، خفيف الحمل.
الى ان يقول: ومع انتشاره في الجزيرة فإن صناعة في نجد اكثر، ثم يقول: والبارود يصنع عندهم كثيراً، وبارودهم اطيب بارود، فلا يحتاج اهل نجد الى جلب البارود لهم من ملك آخر.
ويقول ايضا: واما احوالهم من حيث الصنائع، فإن السيف يصنع عندهم، وغالب ما يصنع اليوم في الدرعية وفي بريدة، وفي بلاد سدير، وهكذا اسنة الرماح يصنعونها والخناجر كذلك. ومن حملة صناعهم الذين يصنعون سروج الخيل، ومنهم من هو نجار الابواب ونحوها، ومنهم من يصنع الذهب والفضة، ومنهم خياطون للعباءة وغيرها من الثياب، ومن بعض صنايع اهل نجد الحياكة، اذ فيهم حياك للعباءة وللكرباس.
وفي هذا دلالة على الاهتمام بالصناعة وتطويرها، والا فإنه معروف منذ عهد الجاهلية ان منطقة العارض والعرض - الرياض وما حولها حتى القويعية - شهرة هذه المنطقة بالحديد استخراجاً من مناجمه وصناعة له، كما ترتب على ذلك الاهتمام بصناعة الاسلحة من سيوف وخناجر وحراب.. وتاريخ بني اسد، وباهلة في هذا العمل مشهور لكل ما يحتاجونه، كما كانت ثرمداء مشهورة بنسيج البرد الجيدة.
الأمن
فبالامن تستقر الاحوال، وينتشر الناس، ويطمئنون على اموالهم، ويزرعون لتوفر المياه المشهور بها وادي حنيفة، وقد تحدث ابن بشر في هذا المضمار واطال، ذلك انه عاصر فترة زمنية ضاع فيها الامن في البلاد بعد سقوط الدرعية وتدميرها، مما دفعه الى ان يبرز هذا الامن الذي حظيت به البلاد، وقاعدتها الدرعية في ظل الدولة السعودية الاولى من عام 1158 الى عام 1233هـ «1743-1818م» ، والتنويه عنه بصور تكاد ان تتكلم بنفسها، لأنه تعبير عن معاناة، فما ضربه من الشواهد الامنية، هي من الكثرة بحيث لا يتسع لها مجالنا هذا، ونكتفي باعطاء نماذج مما دونه عن الامن في عهد الامام عبدالعزيز بن محمد «1133- 1218هـ» رحمه الله - حيث يقول:
وكانت الاقطار والرعية في زمنه آمنة مطمئنة، في عيشة هنية، وهو حقيق بأن يلقب مهدي زمانه لأن الشخص الواحد، يسافر بأمواله العظيمة اي وقت شاء صيفاً وشتاء، يمناً وشاماً، شرقاً وغرباً في نجد والحجاز، واليمن وتهامة، وغير ذلك لا يخشى احداً الا الله، لا سارقاً ولا مكابراً، وكانت جميع بلدان نجد من الشمال الى الجنوب، في ايام الربيع يسيبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي من الابل والخيل، والجياد والبقر والاغنام، وغير ذلك ليس لها راع، ولا مراع بل اذا عطشت، وردت على البلدان، ثم تصدر الى مفاليها، حتى ينقضي الربيع، او يحتاج لها اهلها، لسقي زروعهم ونخيلهم، وربما تلقح وتلد، ولا يدري اهلها الا اذا جاءت وولدها معها.
ثم يقول: وذكر لي شيخي القاضي عثمان بن منصور ان رجالاً من سراق الاعراب، وجدوا عنزاًَ ضالة في رمال نفود السر، المعروف في نجد، وهم جياع، واخبرني انهم اقاموا يومين او ثلاثة، مقوّين - اي لم يأكلوا شيئاً في مدة هذه الايام - فقال بعضهم لبعض: لينزل احدكم على هذه العنز فيذبحها لنأكلها، فكل منهم قال لصاحبه انزل اليها، فلم يستطع احدهم النزول، خوفاً من العاقبة على الفاعل، فألحوا على رجل منهم، فقال: والله لا انزل اليها، ودعوها فإن عبدالعزيز يرعاها، فتركوها وهم في امس الحاجة اليها.
ويقول ابن بشر ايضاً: واخبرني - والضمير يعود على شيخه - انه ظهر مع عمال من حلب الشام، قاصدين الدرعية، وهم اهل ست نجائب - وهي الابل القوية الاصيلة - محملات ريالات زكوات بوادي - جمع بادية - الشام، فإذا جنّهم الليل وارادوا النوم، نبذوا رواحلهم ودراهمهم، يميناً وشمالاً، الا ما يجعلونه وسائد تحت رؤوسهم، وكان بعض العمال اذا جاءوا بالاخماس والزكوات من اقاصي البلاد، يجعلون مزاودهم التي فيها الدراهم اطناباً لخيمتهم، ورباطاً لخيلهم بالليل، لا يخشون سارقاً ولا غيره، وكان في الدرعية ابل كثيرة، وهي ضوال الابل التي توجد ضائعة في البر، والمفازات جمعاً وفرادى، فمن وجدها من باد او حاضر، في جميع اقطار الجزيرة اتى بها الى الدرعية، خوفاً ان تعرف عندهم، ثم تجعل مع تلك الابل وجعل الامام عبدالعزيز عليها رجلاً يقال له: عبيد بن يعيش يحفظها ويجعل فيها رعاة، ويتعاهدها بالسقي والقيام بما ينوبها، فكانت تلك الابل تتوالد وتتناسل، وهي محفوظة فكل من ضاع له شيء من الابل في جميع البادية والحاضرة اتى الى تلك الابل، فإذا عرف ماله، اتى بشاهدين او شاهد ويمينه، ثم يأخذه، وربما وجد الواحد اثنين، وهذا الامر في هذه المملكة شيء وضعه الله تعالى في قلوب من عادى اهلها.
|