تحاول المجتمعات التحصن في ملاذها الآمن، حيث الافراط بالنزوع نحو الماضي، هذا المجال الذي لايتجسد بوصفه الذاكرة الجمعية للجماعة البشرية فحسب، بقدر ما يتمثل فيه مقدار الوجود والحيوية، الذي يميز هذه الجماعة عن الاخرى، واذا ما كان الماضي يندرج في مضمون الأهمية المباشرة التي يمكن ان يجنيها المؤرخ، بحساب المادة التي تكون العمد الرئيس في وظيفته، فإن الأمر يتخذ بعداً آخر، تتمثل فيه المزايا والتوجهات التي يحظى بها كل مجتمع، حتى لتكون دالته وسمته المميزة، وإذا كان الاقتراب بالملاحظة من المجتمعات الجديدة، فإن الجدّة هذه لاتعني الخلاص من الماضي، حتى وان ظهرت المبادرة للرفض من قبل بعض الافراد،، فإن الوعي الجمعي يكون في لحمة واحدة، لايمكن خرقها في تجسيد العلاقة بين الجماعة وماضيها.
لايتوقف الأمر على الرفض او القبول إزاء الماضي، فالمسألة تتعلق بقضية الوعي الذي يميز الجماعة، وتجاذبات القيم والانماط السائدة فيها، ومهما تنوعت واختلفت التمثلات بالماضي، فإن هذه الذاكرة المحملة بتراث الجماعة الاخلاقي والجمالي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، تكون المادة الرئيسة للمؤرخ، في سبيل اقتفاء طبيعة الاحساس بهذا الماضي وطبيعة التحولات السائدة فيه.
يبرزالماضي بوصفه المؤثر الأشد وضوحاً في ترسيم الحاضر الذي يعيشه المجتمع، لكن هذا البروز في الكثير من الاحيان يشكل نقطة تقاطع مع غايات واهداف الطموح نحو التجديد، فالايمان المطلق بهذا الماضي يكون بمثابة العبء الشديد في حالة الركون إليه واعتباره الموئل الذي لايمكن الاستغناء عنه. إن تقاطعاً فجاً سيظهر على صعيد الواقع، يكون فيه الاستغراق في السكونية والانغلاق في نموذج محدد، يساهم وبشكل مباشر في تكريس الواحدية والضمور والتكلس، وعليه فان الاصل هنا يقوم على هذه الفواصل التي تفسح الطريق امام التحسسات بإزاء الرؤية المتطلعة الى التجديد، من دون الخضوع لأوهام الانغماس المطلق في ماضوية او تجديدية. انه التماهي باطلاق مع النظام الاجتماعي السائد من دون الانزلاق في تصادمات، تجعل من مسار الخطو يعيش حالات وليس حالة واحدة من المعيقات والحواجز. ومن هذا الانطلاق الذي يرتبط بالوعي العميق باهمية ادراك التحولات، تبرز مكونات ماهو قابل للبقاء وماهو آيل للاهمال، في تفاعل قوامه التركيز على مجال المرونة التي لاتتوقف بشكل قطعي عند قابلية المكونات التاريخية، فما هو غير مهم قد تبرز اهميته في وقت لاحق.
في أصول الحاضر
يفرض صراع الانماط بقسماته على الواقع الاجتماعي، حتى ليبرز مجال التقبيل بهذا القادم الجديد، ومدى النظرة السائدة حوله: هل هو يمثل نطاق تهديد، ام هو مجال حفز وتحريك للواقع، واذا كانت المرونة قد ترسخت وعملت على تحديد مجالات تأثيرها، باعتبار تحديد انطقة قابلة للحفز والتحريك واخرى جامدة راكدة تعاني من التصلب فإن الامر هنا يستدعي الالتفاف مباشرة، الى ان ثمة مجتمعات موغلة في التقليدية و الانغماس الشديد في العلاقات السابقة والقديمة، قد بادرت الى ابراز الكثير من مجال المرونة، من اجل استقبال الجديد والتفاعل معه بشكل مباشر، من دون ان يؤثر هذا الجديد على الانماط السائدة داخل تلك المجتمعات.
ويبقى السؤال فاغراً فاه حول هذا الانقطاع وانعدام المساواة في استقبال الجديد من قبل المجتمع، فالوسائل والادوات ذات النفع المباشر يكون تقبلها وارداً او حتى قابلة للتداول الحر، فيما يتوقف النظام القيمي والافكار في اشد حالات التصلب والحذر، لكن اشارة كهذه لايمكن الوثوق بها بشكل نهائي، فكثيراً ماتبرز الكثير من نقاط الرفض بازاء الجديد الذي يزحف نحو المجتمعات.يتخذ الماضي صفة الضبط والتنظيم داخل المجتمع، حتى ليكون بمثابة الاصل الذي يتم من خلاله تحديد مجال الحاضر، ولاتتوقف هذه النظرة عند مستوى المجتمعات من حيث تقدمها او تأخرها، بل تكون الفاعليات الحاصلة داخل المجتمع، بمثابة القياس المباشر لمستوى الوعي بالماضي الذي يكون اصلاً للنظرة الى الحاضر، فعلى المستوى العملي يكشف التعامل مع قانون الاراضي العثماني، جملة من التداخلات التي لم يتوقف تأثيرها عند الفترة الزمنية التي تم صدوره فيها «النصف الثاني من القرن التاسع عشر»، بل ان خيوط التأثير تصل هذه اللحظة الراهنة، من حيث توزيع الاملاك والتي اثمرت عن ابراز فئة اجتماعية، تحصلت على امتيازات خاصة، قيض لها السيطرة على موارد واقتصاديات فئات واسعة من المجتمع، مما عكس لديها طبيعة ومستوى النظرة الى الفئات الاخرى، نتيجة للاحتكام الى الفوارق الاقتصادية التي توسعت شقتها على المدى الزمني الطويل، حتى صار مجال الماضي بمثابة الرصيد الذي يعزز مكانة فئة ويعمد الى تكريس تبعية فئة اخرى، وحتى في حال نهاية هذه المبررات على صعيد الحاضر، فإنها تبقى تؤدي تأثيرها في ترسيم معالم نمط الحاضر ووعيه.
الاستقبال القدري
يلعب الماضي دوره الواضح في الحاضر، ولا يتوقف الامر على ملامح تكوين الذات المجتمعي، بل يتخطاه الى الظهور في صلب ملامح التجديد، لاسيما المظهرية والذوقية منها، فعلى سبيل المثال تتعرض التصميمات المستوردة والمستجلبة تحت مسمى التجديد، الى الكثير من ملامح بقايا الماضي، حيث تكون التدخلات المباشرة من قبل افراد الى وضع علامات واشارات، تفصح عن مدى التقاطع والتداخل الفج، حتى لتجد الكثير من العربات الحديثة وقد غدت عبارة عن لافتات اعلانية، لمقولات وادعية وتعويذات فيما يكون تصميم المنازل المستمد من طرز غربية موغلة في الحداثة، الى هجوم ذوقي تقليدي، يتم من خلال التعامل مع اللون، او حتى سوء الاستخدام، كأن تتعرض فيلا حديثة بتصميم باذخ، الى زحف قطعان من الاغنام والماشية وجعلها ترعى عند مدخل البناية الفاره، ليكون التناقض في اشده.
ويتبدى سوء الاستخدام في هذا التوقف المريع، بطبيعة الاداء والوظيفة الحقيقية للكثير من المؤسسات والاجهزة، والتي يتم تكريسها لصالح وظائف اخرى شديدة البعد عن الوظيفة الاصلية، فيما يغيب ملمح الادامة السنوية، ويكون الاعتماد على هذا الاستقبال القدري لكل ما هو تحت اليد من وسائل متاحة، إنه النمط المناسب الذي يفرزه الماضي في صلب الحاضر، والذي يمكن ان يشي عن ملمح التوافق والتفاهم مع مكونات التجديد الزاحفة بكل قواها.
انه الصراع الذي يفصح عن فسحة من المفاوضات مع هذا الآتي الجديد، ولكن برؤى محدودة يسودها التقطيع والفهم المبتسر، فهم يقوم على خصوصية فريدة قوامها الاستغراق في هذا الماضي الذي يتشخصن حتى ليفرد قوامه على كل جديد. انه التداخل المربك الذي يجعل من التخت الموسيقي الشرقي خاضعاً لمقومات الفرقة الموسيقية الغربية، فعلى الرغم من استناد الموسيقى الشرقية على ضابط الايقاع في تقديم الوصلة الموسيقية، إلاّ ان الاصرار على استحداث منصب المايسترو فيه، يجعل من الأمر في اشد حالات سوء الفهم والاخلال الذي يؤدي الاستنكار والاستهجان، لكن متممات المشهد فرضت مثل هذا التقليد، حتى اضحى اصلاً شائعاً لايمكن الاستغناء عنه او التخلي من فروضه، انه الوعي المجزوء الذي يقف على حافتي الماضي والحاضر، ليبرز مجال الوعي المنقوص الذي يعجز عن التمثل الفاعل والحقيقي زمانياً ومكانياً.
العودة إلى الماضي
يتوقف التجديد في المجتمعات التقليدية، على هذه الفسحة الخارجية التي يكون مستندها المظاهر، حيث الاعتماد على تعويض النواقص الموجودة من خلال التطلع نحو مزيد من الاستيراد، ومن هذه الفعالية تنشط وظائف اجتماعية اخرى، تكون ملامح خصوصياتها وقد تبدت عند مجال التصادم مع التفاصيل العميقة للذات الاجتماعي، والعمل على تفكيك عرى العلاقات القديمة السائدة فيه، عبر حفز ثقافة الاستهلاك وترسيخ مضامين التطلع نحو المزيد من ادراك عادات وميول جديدة، تكون بمثابة العبء الذي يفرد ملامحه على القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لا يمكن الحديث عن نمط واحد من التجديد، فهذا الاخير لايعدم ان تكون له خصائصه المميزةوفوائده الفريدة وايجابياته المتعلقة بالوعي، ولعل القفزات الاجتماعية التي باتت تترى ملامحها على مجتمعات الخليج العربي، لايمكن التغافل او التغاضي عنها، اذ بدأت مرتكزات التجديد تأخذ شرعيتها ومكانتها الاثيرة والعزيزة لدى الافراد. واذا كان الماضي يحضر في الكثير من الاحيان، كنوع من تذكير الاجيال الجديدة الطالعة حيث العناية بالمتاحف التراثية وتجديد المباني القديمة والحرص على استعادة بعض التقاليد المرتبطة بالمهن السابقة، لاسيما مرحلة ماقبل البترول، فإن الأمر لا يخلو من محاولة لإدراك هذه الفاصلة، التي تحدد مسار الانتقال بين الماضي والحاضر، والتي يمكن تدبيجها في شعار التوافق بين الاصالة والمعاصرة.العودة الى الماضي لاتتوقف عند مجال التذكير والعبرة بإطارها التقليدي، بل انها في الكثير من الاحيان تكون بمثابة الوسيلة الناجعة لحفز موجه العلاقات في الحاضر، والعمل على تركيز وجودها في ماضي الجماعة، كأصل فاعل غير مستجلب او مستحدث، انما يكون حضوره وظهوره انطلاقاً من محفزات الحاضر، بل ان البعض يعمد الى ترصد ظواهر شديدة المعاصرة وربطها بأصول تاريخية سحيقة لفعالية يمكن ادراجها في ذات المجال، فكثيراً ما يستحضر العرب نموذج «عباس بن فرناس» عندما يكون الحديث عن الطيران، والأمرلا يتعلق بتقاطع تاريخي، ولا اصول راسخة غير قابلة للأخذ والرد، بقدر ما يكون الارتباط بهذا الوعي الانساني بالبدايات المتعلقة بالجهد الانساني، الذي يتطور ويتجه نحو الامام، انطلاقاً من هذه اللحمة الواحدة التي تجمع بني البشر طراً.
|