يتحدث العلماء الكبار، وفقّهم الله لكل خير، في كل مناسبة بما يتلاءم معها، لأن لكل حادثة حديثا، ذلك أن ديننا الحنيف، وفق أوامرشرع الله، قد كفلت للمؤمن كيفيّة التعامل مع الأحداث التي تمر بالإنسان، بما يريح قلبه، ويطمئن نفسه.. فيحرص المدركون على إبانة ما يواجه المرء في كل موقف يمر به وخاصة في مثل هذه الأيام، حيث سلط على المملكة العربية السعودية، إعلام يهودي غاشم، فكانت الأمة مستهدفة في دينها واقتصادها، وعقيدتها وأمنها ووحدتها.. وقد استغل الأعداء ذلك مع الأحداث الجارية وهذا ما نقرؤه ونشاهده، ضمن وسائل الإعلام، مصاحبة للحملات المتتابعة على المنطقة العربية، وما تخبئ النوايا بالأحداث التي تتفتّق منها الأساطيل المتكاثرة من حولنا..
هذه الجمهرة مع ما صاحبها من وسائل إعلامية انبعث عنها فتن وشائعات، هدفها زعزعة الثقة وبلبلة الأفكار بين المسلمين، بإثارات اغتنمها اليهود، كما هي عادتهم باغتنام الفرص، ليثيروا الزوابع محاولين الاصطياد في الماء العكر، وليكثفوا عدوانهم ضد الفلسطينيين العزل.
فإذا تحدث العلماء الثّقات، بما يريح النفوس، ويطمئن القلوب، من تأثيرات تلك الشّائعات، فإن لهذا أثراً كبيراً في المجتمع، وما ذلك إلا أن كلمات العالم العارف بالله، والمتمكّن من شرع الله: فهماً وتطبيقاً، عندما يتحدث عن الفتن وما يصاحبها من شائعات، وتفسيرات خاطئة للأحداث وكيفيّة التّعامل معها، فإنه يفيض في هذا الجانب، مدعوما حديثه بما قال الله، وما قال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ومقارنا الحوادث بما مرّ بالرعيل الأول من هذه الأمة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، الذين ابتلوا بآلام نفسية، ودعايات مغرضة، من اليهود ومن مشركي العرب، وخاصّة أهل مكة، وجهودهم المبذولة قولاً وعملاً، في محاولة لإيقاف زحف الدعوة، التي أمر الله بها رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، فلاقى في هذا السبيل، ما الله به عليم، في مكة من جبابرة قريش، وفي المدينة من مكايد اليهود، ودسائسهم البغيضة، وتحالفهم مع اخوانهم المشركين والمنافقين والمتضامنين عليه، حتى يبذلوا جهوداً متعاونة رغبة في إطفاء نور الله بأفواههم. وطمأنهم الله، بما يرفع المعنويّات، ويقوي العزيمة بأن العقبى لهم.
وفي كلام العلماء دعوة إلى أخذ العلم من مصادره، وتحرِّي الصدق، والقضاء على شائعات الأعداء وتخرّصات من لا علم لديه، ليمكّن الوقوف أمام الفتن، وإسكات حديث من لا درايه عنده.
وقد كانت خطبة يوم عرفة لحج هذا العام، من سماحة مفتي عام المملكة، بلسماً شافياً، فقد حذر من الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام، والعدو قد كشر عن أنيابه، ويحارب ديننا ويسعى جاهداً لإبعاد المسلمين عن عقيدتهم، مشدّداً على أهّمية تمسّك المسلمين بدينهم، وهذا هو الطّريق لدحر الأعداء، واضعاً الأسس التي تتم بها وحدة الأمة، وصيانة عقيدتها، مع تركيزه على ضرورة أن يوطّد المسلمون أنفسهم عند المحن بالصّبر والاحتساب، ولا يكونوا إمّعات، إن أحسن الناس أحسنوا، وإن أساء الناس أساءوا.. بل يجب على المسلم: إن أحسن الناس أحسن، وإن أساءوا ابتعد عن اساءتهم.. وحذّر من أولئك الذين يجدون في الفتن مرتعاً خصباً لبثّ شرورهم وبلائهم، تحت شعار الوطنيّة تارة، وحماية الحقوق تارة أخرى، ويتّسمون بالدين لتحقيق مآربهم الخبيثة، ومكائدهم في الإسلام وأهله. لما لذلك من آثار في النفوس، وتقوية للعزائم عندما يصمُّ كل فرد أذنه عن الشائعات.
ثم في محاضرة بعد الحجّ لسماحته في جامعة أمّ القرى بمكةً المكرّمة: تساءل سماحته على لسان بعضهم: هل للإسلام موقف من هذه الشائعات، وهل في شريعتنا علاج لهذه الفتن، وكيف يتمّ التخلّص منها، على ضوء الكتاب والسنّة.. وأجاب عن هذا التساؤل بقوله: وأطمئن اخوتي بأنّ شريعة الاسلام لم تهمل هذا الجانب، بل عالجته العلاج الصّحيح والنّافع، علاجاً من أصله؛ فلم تدعه ينتشر ولم تتركه يسري، وإنما جفّفت منابعه من الأصل، بما جاءت به من تعاليم سامية، وتوجيهات قيمة.
وقال: إن المجتمع.. وأيّ مجتمع.. لا يخلو من وجود نقص وأخطاء في بعض أفراده، وهذه سنّة الله سبحانه في خلقه، أن الناس متفاوتون في إيمانهم، وعقولهم ومداركهم، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة، فليس النّاس على حدّ سواء في العقل، ولا في الإدراك، ولا في الاستيعاب، للأشياء وتصوّرها على الحقيقة، كلٌّ له اتجاهه وله مسلكه. والرّسول صلى الله عليه وسلم حذّرنا من أن نشيع الأقوال بدون تروٍّ، فقال:«بئس مطيّة القوم زعموا». ثم أفاض في الحديث عن الشائعات وأثرها.. وأن الأعداء والمنافقين يروّجون ويشيعون وكلّ يوم لهم فيها صورة، وكلّ يوم لهم فيها لون.. ولكن الله لهم بالمرصاد..وحثّ الأمّة على التّمسّك بكتاب الله والاعتصام بسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ففيهما المخرج من كل كربة، والراحة والهدوء من كلِّ معضلة.
والشيخ صالح الفوزان، بعدما ألقى محاضرته في رابطة العالم الإسلامي، وُجّه إليه هذا السؤال: في ظل الهجمة الاستعمارية الجديدة، التي تقودها أمريكا اليوم في الخليج، ما هو دور الدعاة والدعوة الإسلامية في هذا الظرف الراهن؟
فكان جواب فضيلته: مجهود الدعاة في هذه الفترة، التي حصلت الآن وتحصل في كلّ زمان ومكان، من تهديد الكفّار، وإرجاف الكفّار، وأتهامهم للإسلام: لابد أن يكون موقف الدعاة إلى الله موقف البيان والتوضيح للمسلمين لردّ هذه الشّبهات التي توجّه نحو الإسلام والمسلمين، ولابدّ أن يقوم أهل العلم والبصيرة بالبيان للنّاس والتوضيح للنّاس، وكشف اللّبس، والرّد على الشبهات التي يروّجها أعداء الله وأعداء رسوله.
فكان للعلماء عندما يتحدّثون في مثل هذه الأيّام وما يدور فيها، تأثير في القضاء على الشّائعات، وعدم إفساح المجال لمروّجيها بالتّمادي، لأنّ العلماء هم صمّام الأمان عندما تبرز رؤوس الفتنة ليقمعوها ويسكّتوا مروّجها.
ذكر المقريزي في ترجمة ابن غراب، القاضي الأمير الرّئيس: أن أساسه من الاسكندريّة، وأوّل من أسلم من سلفه جدّه، وباشر أبوه نظر الإسكندريّة، واتُّهم جده أنّه مالأ إلافرنج في وقعة الإسكندريّة، فكان ماكراً حازماً على خصومه ومما ذكره عن حبه للدّنيا وإسرافه بغير ما أنزل الله قوله: إلا أنه على الحقيقة أحد الاثنين اللذين قاما بتخريب الدنيا، وطيّ بساط نعمة أهل مصر وزوال بهجتهم، بما اعتمده من غلاء سعر الذّهب حتى بلغ الدّينار بعد أن كان بخمسة وعشرين درهماً، إلى مائتين وخمسين درهماً، فصار النّاس إلى بؤس. ونسب إليه حديثاً عما خلّفه الملك الظّاهر برقوق، وكان ابن غراب مدبّر حاشيته، فقال: إن الظّاهر برقوق خلّف ألف ألف، وأربعمائة ألف دينار ذهباً، ومن الغلال القمح والشعّير والفول وغيره، ومن الثّياب الحرير والقطن، ومن الفرو والقند والسكر، ما قيمته ألف ألف وأربعمائة ألف دينار ذهباً. ومن الخيل ستّة آلاف فرس، ومن الجمال أربعة عشر ألف، أو خمسة عشر ألف جمل، على الشك منه، وأن نفقة مماليكه بلغت ألف ألف، ومائة ألف درهم في كل شهر، وعليق الخيل في كلّ شهر سبعة عشر ألف إردبٍّ من الشّعير، سوى ما على الوزير من العليق، وهو في كل شهر أربعة آلاف إردبِّ من الشعير وألف إردب من الفول، لتتمة جملة العليق السّلطاني في كل شهر، اثنان وعشرون ألف إردب، وإنّ راتب اللّحم السّلطانيّ في كل يوم سّتة وأربعون ألف رطل درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة 1:99-100.وهذا يذكّر بمال قارون الذي ذكر الله عنه وعن كنوزه: {مّا إنَّ مّفّاتٌحّهٍ لّتّنٍوءٍ بٌالًعٍصًبّةٌ أٍوًلٌي القٍوَّةٌ} [القصص: 76].
|