سعادة رئيس تحرير صحيفة «الجزيرة» الأستاذ خالد بن حمد المالك /السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..أرجو نشر هذا الموضوع الذي يناسب الظرف.. ولن أعدم اهتمامكم
نقرأ على صفحات الجزيرة يومياً ما حل بالعراق هذا البلد الذي ارتبط منذ غابر الأزمان برفعة العرب والمسلمين .. بلد المثنى.. وأرض القادسية.. على ثراه أطيح بكسرى صاحب أكبر العروش على وجه الأرض في ذلك الزمان.. بعد أن أشرقت على أرضه أنوار الهدى والإسلام وانطلق الفاتحون المسلمون على ثراه.. ثم توالت أمجاد العراق بعد ذلك.. فكان هو موطن أول خلافة إسلامية هي الخلافة العباسية بعد الخلافة الراشدة.. هو بلد هارون الرشيد.. الذي كان ينظر إلى السحابة فيقول لها امطري حيث شئت فسيأتيني خراجك.. لا تزال آثارنا الإسلامية الخالدة على ثراه حتى اليوم فها هي سامراء بمئزنتها الملوية شاهد على أعرق الحضارات وهاهي المدرسة المستنصرية.. وهاهي دار الحكمة - وهاهي الكوفة.. وغيرها مما يرتبط ارتباطا وثيقاً بحضارة الإسلام والعروبة لقد أصبحت العراق جزءاً لايتجزأ من تاريخ المسلمين وعروبة العرب.. كم شهدت بغداد من الخلفاء.. وكم شهدت الكوفة من العلماء في اللغة والأدب فهاهو الجاحظ وسيبويه.. وهاهو معروف الكرخي وأبا حنيفة النعمان.. ولو عددنا علماءه لاحتجنا إلى مجلدات.. لم تجتمع الخيرات في بلد كما اجتمعت في العراق ففيه الذهب الأسود والذهب الأخضر والأصفر.. فيه النفط والتمور التي لا توجد في بلد في العالم.. وفيه الأنهار التي تجري رقراقة بين مدنه (دجلة والفرات)..
ولو استثمر هذان النهران في الزراعة لكفيا الوطن العربي من الغذاء.. ولكن ما الذي دهى نخل العراق فأصبحت عبسانة تتلفت مذعورة.. وما الذي دهى دجلة لتصبح مياهه مخضبة بالدم.. ربيع العراق هذه السنة وزهوره اليانعة وأشجار البان التي تغنى بها صفي الدين الحلي حين قال:
خلع الربيع على غصون البان
حللاً فواضلها على الكثبان
لم تكن كما عهدها صفي الدين الحلي.. بل إن فواضل أشجار البان شربت الدم.. ودخان القنابل.. نخيل البصرة وطلعها الذي يتفتح في أكمامه اختلط بأزيز الطائرات ودخان القنابل والصواريخ التي لا ترحم شيخاً ولا طفلاً بل هي النخيل تشهد على طغيان الطغاة وجبروتهم.. غصون البان وأشجار النخيل تشهد على ظلم الإنسان وطغيانه الذي لم يمر عبر حقب الزمان لو تكلم نخل العراق وقنواته لقالت: كفى.. فلست بحاجة إلى المزيد من الدماء أشربها.. ولست بحاجة إلى المزيد من الدخان يصبغ ثمري وتمري..
ولو تكلم نهر دجلة أو الفرات لقال: كفى.. لست بحاجة إلى المزيد من الدماء تتدفق إلي وتصبغ لوني بالأحمر.. فقد صبغني بذلك التتار.. وذبحوا في بغداد كل من فيها حتى فاض مائي وتلون بالأحمر من الدماء.. وبالأزرق من الحبر قبل 766 عاماً لا أريد (تتاراً) آخرين يقتلون مليوني شخص على ضفافي.. كفى.. كفى.. ولكن رغم احتجاج الإنسان والشجر والحجر والنهر فلا يزال طغيان الإنسان وتعطشه للدم بشراهة.. وتوقه إلى القتل بشراسة ووحشية لا تعرفها حتى الحيوانات..
هذا هو الإنسان حين يتحوَّل إلى وحش كاسر.. وحشية تقشعر لها الأبدان..
يا للعجب وكم تعجبت حين قرأت (البداية والنهاية) لابن كثير فوجدت ان التتار قد اجتاحوا بغداد في أواخر شهر محرم.. وهانحن الآن في أواخر شهر الله المحرم..!! يقول ابن كثير في الجزء 13 من تاريخ (البداية والنهاية): (ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة.. فيها أخذ التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة وانقضت دولة بني العباس منها).
وأحاط التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب وكثرت الستائر على دار الخلافة.. وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل (000 ،200 جندي) إلى بغداد في نحو ثاني عشر المحرم من هذه السنة (ما أشبه الليلة بالبارحة).. ثم يقول (ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الوحوش والحشوش وكمنوا كذلك أياماً لايظهرون وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب ففتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة وكذلك في المساجد والجوامع والربط).
ويكمل وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين وقيل بلغ ألفي ألف نفس أي مليونين.
هذا هو غزو التتار لبغداد.. الذي راح ضحيته مليونين من البشر..
فما أشبه الليلة بالبارحة يا بغداد..
أخيراً أورد بيتاً من قصيدة للشيخ عبدالله بن خميس يتغنى فيها ببغداد:
بغداد يا معقل الفصحى أحييك
طبت وطابت مدى الدنيا مغانيك
المهندس عبدالعزيز بن محمد السحيباني/البدائع
|