خلال البحث في مكتبتي الخاصة وبين المجلات القديمة عثرت على مجلة مصرية باسم «العالم العربي» والتي كانت تحتوي على مقالات أدبية وتاريخية، وقد صدرت هذه المجلة في تاريخ 29/ذو الحجة 1369هـ الموافق أول اكتوبر 1950م في عددها الثالث والتي توافق صدورها مع موسم الحج آنذاك.
وقد شدني مقال كتب في المجلة تحت عنوان «ومضات لامعة في حياة أسد الجزيرة العربية وعاهل المملكة السعودية وثبات جريئة أملت على التاريخ أنصع صفحات الخلود..» تمت كتابته من قبل أسرة تحرير المجلة ورغبة مني أن يطلع قراء جريدة الجزيرة على هذا المقال الشيق عن المغفور له إن شاء الله- «صقر الجزيرة الملك عبدالعزيز آل سعود» جاء في المقال: «إن حوالي 75 ألفاً من المسلمين القادمين من أنحاء العالم اليوم في ضيافة عاهل الجزيرة العربية.. إن حجاج بيت الله في هذا العام، تلهج ألسنتهم بالدعاء لله والثناء على نعمائه، لما يلاقونه من حرص جلالة الملك عبدالعزيز على توفير أسباب الهناء لهم ولا غرو فإن صفات «أسد الجزيرة» جعلته قبلة الأنظار في العالم... وفي هذه السيرة التي سجلت صفاته، ما يفاخر به العرب والمسلمون على مر السنين». ما من سيرة شهيرة إلا وللتاريخ يد في تكوينها عدا سيرة أسد الجزيرة العربية جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود جعل من سيرته تاريخاً يفرض نفحاته العاطرة على الزمن ليملأ خياشيم الأجيال بالرائحة الزكية تعرف منها الشهامة الحقة والرجولة الفذة والعصامية النادرة. هذه هي الحقيقة وليس بمقدور الحقب مهما تطاولت ان تمحوها أو تنقص من قيمتها أو تخفي معالمها لأنها أصبحت أغنية في فم الدهر ولحناً خالداً في كبد الوجود وقصة سرمدية الأثر أبدية المفعول.
هذا هو الأسد الورع الغضوب
لم يكن العاهل العظيم والهزبر الضيغم قبل ان اعتملت في نفسه عوامل العظمة ونزعة المجد وقبل ان تثور به كوامن عزته وجرأته، لم يكن إلا ربيب بيت أبيه في الرياض، ذلك البيت الذي أسس على الدين والتقوى والاعتصام بالله وحده فتمت فيه شجرة التوحيد الخالص ونشأ وترعرع في ظل أبويه وهو لا يرى ولا يسمع إلا ما تعمر به النفس من الإيمان المتين والتوحيد الخالص الإيمان بالله الذي امتلأ به قلب عبدالعزيز فملك عليه حسه وامتلك مشاعر نفسه ذلك الإيمان الذي أنشأ عبدالعزيز وهو الذي أخرج منه للجزيرة العربية بطلا من أبطالها وفارساً من فرسانها ومصلحا وداعياً من مصلحيها ودعاتها.
عوامل الوثبة الكبرى
ولد الملك عبدالعزيز في الرياض وعاش الأيام الأولى من عمره في الكويت ولم يدخر من أبويه مالاً يسترجع به ملك آبائه وأجداده ولا قوة من رجال ولا عدة من عدد الحروب وكل ما ورثه من آبائه وما استعد به لمكافحة الزمان وأهله لم يكن إلا شيئا واحداً لا ثاني له هو إيمانه بربه وثقته به واعتماده عليه وحده.
خرج من الكويت وغامر ولاقى من الانتصارات أعذبها ومن الانكسارات ألمها فما اغتر بانتصار ولا هان لانكسار كان إيمانه بربه يخلق في نفسه من الضعف قوة وإقداماً وأمام الشدائد والمحن ثباتاً ينبهر له عقل الحليم.
عبدالعزيز في الكويت وكل مايملك قوت يومه الذي يتناوله في بيت أبيه، آل الرشيد وصنديدهم عبدالعزيز بن متعب يحكم نجداً بطولها وعرضها والدولة العثمانية بسلطانها تكتف الجزيرة العربية من أطرافها، والحكومة البريطانية وطريق الهند وأمراء العرب، فالدنيا كلها مقفلة بين عدو عنيد ورقيب عتيد ومشفق وحاسد وهازئ ومستهتر، يرى عبدالعزيز هذا ويبصره وهو الرجل الذي لاترقى لمخيلته الأوهام والأحلام ولكن القوة التي يمتلكها لايرى لها حدا تقف عنده ولا يرى لها مقاوماً يستطيع ردها والتغلب عليها، تلك القوة التي عمر بها قلبه والثقة بربه التي اكتسبها.
سمعته يقول مرة إذا أراد المسلمون والعرب قتال أعدائهم فإن أعد المسلمون والعرب آلة واحدة من آلات الحرب أعد لهم أعداؤهم مئات وألوفاً ولكن قوة واحدة إذا أعدها المسلمون لايمكن أعداؤهم ان يأتوهم بمثلها هي إيمانهم بالله وثقتهم به هذه القوة لا قبل لأحد بها. من هذا ترى سر نجاح البطل وطريق فوزه.
الابن البار المخلص
عندما هم جلالة الملك عبدالعزيز بالخروج من الكويت لاسترجاع ملك آبائه وأجداده سنة 1319هـ (1900م) لم يكن يرهب الأقدام على تلك المخاطر ولا تجشم الملك المشاق ولكن الذي كان يهمه ويخيفه كيف يقنع أباه ليسمح له بهذا الخروج إلى هذه الممالك. ومن علم مقدار ما يكنه عبدالعزيز من الحب والاحترام والطاعة لأبيه علم مقدار ما كان يحاذره هذا الفتى من رفض والده إذا عرض عليه أمره، واستشاره بالخروج للقاء العدى ومنازلة الخصوم.
وأذكر يوماً عدنا فيه من مكة إلى الرياض في ركاب جلالة الملك عبدالعزيز وكان الإمام عبدالرحمن حياً فوصلنا إلى مرات فبعث يستأذن أباه في دخول المدينة وعين الوقت الذي يمكن ان يصل فيه إلى الرياض، وفي صباح اليوم التالي مشى حتى وصل قريباً من أسوار المدينة فبلغه قبل الميعاد الذي حدد بخمس وأربعين دقيقة فلم يشأ ان يدخل المدينة حتى بعث يستأذن مرة أخرى وقصد بيت أبيه فجلس في فناء الدار، أقام ما يقرب من عشر دقائق ثم جاء الخادم وأخبره بإذن والده الدخول عليه فدخل وقبل رأس أبيه وجلس على الأرض ووالده على دكة (أريكة) ويد عبدالعزيز على ركبة أبيه، لم يكن عبدالعزيز في ذلك الوقت ملكاً وإنما كان في مظهر الخادم المخلص المطيع. كذلك شأن عبدالعزيز مع أبيه في سائر المواقف طاعة وحباً..
الوثبة المظفرة
لقد تعلم أسد الجزيرة العربية تجشم المشاق عن طريق ذكر ربه جافى جنبيه المضاجع في الثلث الأخير من كل ليلة وذلك أعذب ساعات النوم فتعلم من هذا محاربة الراحة البدنية في طلب العلا. خرج من الكويت وهو ابن إحدى وعشرين سنة بأولئك الأربعين الأشاوس فلما أصحروا اجتمع عليهم عدد ليس بالكثير من العجمان وآل مرة والسهول وسبيع واجتازوا المفاوز إلى العرض في أواسط نجد بعد قطع مايقرب من ستمائة كيلومتر أو يزيد وكلها أراض محكومة لخصمه، ذي البأس الشديد فصبح بعد هذا السير والسرى فريقا من قبائل قحطان الموالية لخصمه ابن رشيد وعاد فائزاً غانماً أعاد الكرة فأغار على فريق من قحطان في مكان يدعى عشيرة.. بعد هاتين الغزوتين الموفقتين استيقظ النائم وعمل لمقاومته فشعر من التف حوله ان القضية ليست قضية غزوات تجر لهم المغانم ففر منهم من رغب في الراحة وعاد الأربعون الذين كانوا معه كما خرجوا ولكن بقي مع عبدالعزيز قلبه وإيمانه بربه، ازورت السلطات التركية له في الأحساء ومنعت الميرة عنه ودعاه أبوه للعودة خوفا عليه.
البطل المغامر
سدت أمام عبدالعزيز السبل وتفرق من اجتمع حوله ولم يجد مكاناً يتحصن به إلا تلك الرمال الجرداء المقفرة في الربع الخالي بين حرض وجبرين، رمال ساقية وزاد قليل، أقام في ذلك المنزل الخشن وهل يطيب هذا المقام ويأمن جانب خصمه الذي أخذ يتأهب للقضاء عليه، في هذه الحال فكر في مغامرته الكبرى في احتلال الرياض، الأربعون هم الأربعون وان زادوا فلم يزيدوا ان أقل من مثلهم، جمع صحبه وطلب منهم عهدا على أمر فأجابوه حباً وكرامة، قال أريد ان تعاهدوني ان لا يسألني أحد منكم أين أسير ولا ماذا أريد أن أفعل فأعطوه عهدهم ووفوا وكانوا من الصابرين.
سار مع الربع الخالي ولا يعلم أحد ماذا يريد إلى ان أقبل على الرياض وكان يوم عيد فدعا من معه فقال «البسوا أحسن ماعندكم من اللباس، فإما كانت أكفانكم وأما كانت لباس العيد تخطرون بها بين أهليكم».
وهكذا أراد ربك ان يخلق في هذه النفس الأبية من الضعف قوة وعزيمة ومضاء فأتم نعمته على عبدالعزيز باحتلال الرياض بعد ان رمى قائد حاميتها بيده وشفى الله صدره باسترجاع عاصمة آبائه وأجداده. وبدأ بعد استرجاع الرياض بتصفية البلدان التي كانت خاضعة لخصمه فأدار وجهه للجنوب فاستولى على الخرج والحوطة والحريق والأفلاج والدواسر، ثم دعا والده إلى الرياض فقدمها وقرت عينه بمشاهدة عاصمة ملكه بعد ان بعد عنها إحدى عشرة سنة نظر ابن رشيد إلى سميه نظرات متتابعات مختلفات استهتار ثم انتباه ثم الجد في التفكير.
رأى الأمر اتسع فاعد ما استطاع إعداده من قوة وعمل على الإحاطة بالرياض ثم لما علم بامتناع الرياض رحل للجنوب وهناك كانت المعركة الفاصلة من النصر المؤزر لعبدالعزيز آل سعود ولم يكن جنده يتجاوزون االألفين معاً والأربعين خيالاً بينما خصمه يتجاوز عدده أربعة آلاف عدا أربعمائة خيال.لقد كانت الملحمة الأولى بين عبدالعزيز الرشيد وعبدالعزيز آل سعود في نواحي الخرج وكانت الهزيمة الأولى لابن رشيد أمام خصمه فكان لها اثرها في نجد كلها وأخذ الناس يتساءلون كيف يستطيع هذا الفتى السعودي بهذه القلة من العدد والعدة ان يثبت أمام الامتحان إذا هاجم خصمه عبدالعزيز ابن رشيد بعد يده. ولنقدر بطولة هذا العبقري يجب ان نعلم انه خاض عشر معارك في عام واحد كانت كلها مجللة بالنصر وخاض بعد ذلك عشرينات المعارك والغزوات وجاءت انتصاراته معجزة المعجزات آية من آيات الإقدام والرجولة.
|