* جدة خالد الفاضلي:
يتذكر كثير من أغنياء وكذلك دراويش مدينة جدة كيف كانت عيونهم ترمي النعاس قبل السادسة صباحاً ويهرولون نحو قصر الأمير ماجد بن عبدالعزيز من أجل ان يتشاركوا معه في حديث صباحي على مائدة الفطور عند السابعة صباحاً.
كانت مائدة الفطور الصباحي «الماجدي» اجتماع حكومي مصغر، وأيضا صحافي وكذلك فرصة لذوي الحاجات لوضع وريقاتهم وآهاتهم في رعاية الأمير الحاكم الإداري قبل دخوله مكتبه.
ثم أشرقت شمس منطقة مكة المكرمة يوم أمس الأحد لأول مرة بعد رحيل رجل نقش عتباتها بيده لمدة عشرين عاماً، وكان أكثر المؤثرين في تركيبة المكان والإنسان الممتد على مساحة من الأرض تعادل «تقريباً» خمس مساحة المملكة وثلث تعداده السكاني. بينما تشرق شمس مكة المكرمة هذا الصباح على مقبرة المعلاة وهي تحتوي جثمان المغفور له الأمير ماجد بن عبدالعزيز.
يترجل صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبدالعزيز عن حصان الحياة، ويمشي مغفوراً له بإذن ربه، تاركاً فراغاً غير مملوء في ذاكرة الإنسان والمكان، ويتحول إلى اسم «طيب» يذكره الناس بالخير والدعاء بالمغفرة كلما مرت ألسنتهم على أحاديث «أيام زمان»، أو تصادمت بصائرهم مع معضلة تحتاج لحكمتها ورؤيته، أو كلما مر بصرهم على لوحات خضراء تتوزع من جنوب إلى شمال جدة مكتوب عليها «شارع الأمير ماجد».
كان ماجد بن عبدالعزيز «عفواً» لا يزال ماجد بن عبدالعزيز أنموذجاً للأمير المتبوع والمطاع محبة وهيبة في آن واحد، توغل في جميع شرائح مجتمع الحجاز والبادية والساحل المستظلين آنذاك تحت مظلة إمارة منطقة مكة المكرمة بقيادته، كما انه استطاع ان يمنح الصحافة على امتداد 20 عاماً رحابة وتقديراً أسست فيما بعد «تفوقا مميزا لصحافة الغربية على بقية الصحف السعودية من ناحيتي حرية نشر المعلومة ما دامت صحيحة وكذلك إمكانية الرجوع إلى أمير المنطقة شخصياً لتأكيد أو نفي خبر أو حدث هام»، كذلك أسس مبدأ احترام مواعيد الاحتفالات والمناسبات الرسمية، ويستشهد جميع الصحافيين بدقة وصول موكب الأمير ماجد أمام كل شريط أخضر ينتظره..
مرت عشرون عاماً وتلفزيونات العالم الإسلامي تنقل ذلك الوجه النير يخرج من باب الكعبة بعد أن غسلها، ثم تنقل أحاديثه عن الحج، بينما ظل على امتداد السنوات الرجل الأكثر حضوراً في صفحات المحليات، وأيضا الأكثر حضوراً على ألسنة وأفئدة رجالات الأدب والثقافة في المنطقة، كما كان صالون منزله فاتحاً ذراعيه دوماً لاستقبالهم، في حين لبست جغرافيا جدة حللاً من الزينة بشكل متواصل ابتداء من شق طريق للكورنيش، وردم الجيوب المائية، وانتهاء بمئات من المجسمات الفنية المتناثرة داخل المدينة وعلى شواطئها والتي رفعت جدة للقب صاحبة أكبر متحف فني في الهواء الطلق..
منح الأمير جل وقته لمتابعة يوميات العمل الإداري في منطقته، كما استطاع خلق أنماط متعددة من الانسجام والتراتبية بين الإمارة وبقية مرافق الدولة بما فيها أمانتي مكة المكرمة وجدة، إضافة الى اتساع بصره وبصيرته الى متطلبات المرحلة السياحية في المملكة، فكان أول القادرين على تمرير مفردة «السياحة» في النقاش العام دون اقترانها بمفاهيم غير سامية، كما ان أول الساعين الى فتح نوافذ سياحية أمام القادمين للحج والعمرة، وله كانت أيضا رعاية أول ندوة تناقش السياحة بمفهومه الحديث في منطقة مكة المكرمة.
من ناحية ثانية، تشرق شمس اليوم وآلاف من سكان مدينتي جدة ومكة المكرمة يتذكرون كيف أنهم شاركوا بعيونهم وأيديهم في دفن أيادي بيضاء امتدت للكثير بعطاء مادي أو معنوي، ورأس كانت تدير بمرونة جلسات العمل واللجان المسؤولة عن تفاصيل حياة أربعة ملايين مواطن ومقيم، إضافة الى حياة ملايين المعتمرين والحجاج، وأيضا عيون شملت برعايتها فقراء وأغنياء المنطقة، وفوائد دعاء وصلى كثيراً تحت أستار الكعبة.
كما أن عيون كثير ستذهب اليوم خلف الجدران ترسل الدمع كلما طاف في مخيلتهم ذكرى جلسة أو كلمة أو موقف تشاركوا فيه مع الأمير.
يصعب وصف تشعب «ماجد» والتصاقه بتاريخ منطقة مكة المكرمة في زمن نهوض عمراني غمرها تزامناً مع نشاط تجاري مكثف، وكذلك تكامل توسعة المسجد الحرام. لكنه من السهل جدا الجزم ان رحيل الرجل عن كرسي الإمارة لم يهز مكانته لدى وجهاء المنطقة وتجارها، وأيضا أعمدة كتابها في الصحف، وكذلك أعضاء أول مجلس بلدي للمنطقة والمجالس اللاحقة، وحتى آخر الملتصقين من الكادر الطبي والتمريضي على امتداد 21 يوماً من زمن دخوله الى مستشفى الملك فيصل التخصصي الى أن ارتفعت روحه يوم أمس الأول، وتلاها ارتفاع أيادي أبنائه وبناته بدعاء مغفرة ورحمة، وكذلك يفعل اليوم ولزمن طويل وكل من جمعه معه عمل أو رد.
|