خلال الخمسة والعشرين سنة الأخيرة تم تطوير مجموعة من النماذج الاقتصادية لدراسة العلاقة بين مؤشرات القوة والمتغيرات الاقتصادية الكلية في الولايات المتحدة الأمريكية ومدى تأثير الأولى على الثانية. وقد استخدمت الدراسات التي طورت هذه النماذج معايير متنوعة للتعبير عن القوة تمحورت كلها حول حجم القوة العسكرية المتاحة والتهديد باستخدامها والقدرة على استخدامها والاستعداد لاستخدامها. وكان الهدف من هذه الدراسات هو التعرف على مدى جدوى الانفاق العسكري الأمريكي والعائد المتحقق منه خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة وانتفاء الحاجة إلى الانفاق العسكري الضخم، والذي أصبح ينظر إلى جزء كبير من هذا الدراسات - ولا سيما التي أجريت بعد انتهاء الحرب الباردة، ولو بشكل ضمني بفرضية مؤداها ان الانفاق العسكري هو انفاق استثماري له مردوده على الاقتصاد الأمريكي حتى في أوقات السلم، وبناء على هذه الفرضية توصلت مجموعة من الدراسات الى أن هناك تأثيراً ايجابياً للتهديد باستخدام القوة العسكرية والاستعداد لاستخدامها والقدرة على ذلك على معدل التبادل التجاري الأمريكي والذي يمكن النظر إليه على أنه القوة الشرائية لعوائد الصادرات تقريباً ومعدل الأرباح الكلي والاستثمار الصافي الخاص والذي يؤثر بدوره على الطلب الكلي ومستوى الانتاجية للعامل وبالتالي دخله ومستوى معيشته.
وبناء على هذه الدراسات فإن التهديد الأمريكي باستخدام القوة العسكرية واستخدامها أحياناً يعمل على زيادة القوة الشرائية للصادرات الأمريكية عندما يستخدم للتأثير على الأنظمة والسياسات في مناطق تواجد المواد الخام الحساس للاقتصاد الأمريكي، من أجل ابقاء اسعارها متدنية مقارنة بأسعار الصادرات الأمريكية. ومن الأمثلة التي ترد هنا، ما حدث في منتصف الثمانينيات الميلادية أثناء الحرب العراقية الإيرانية عند ارتفاع اسعار النفط بسبب التهديدات الإيرانية لصادرات النفط الكويتية، مما استدعى الرئيس الأمريكي آنذاك للإعلان عن عزم الولايات المتحدة الأمريكية واستعدادها لاستخدام القوة لضمان سلامة امدادات النفط وتدفقه للأسواق الأمريكية، والذي أدى إلى انخفاض أسعار النفط. علاوة على ذلك، فإن للالتزام الأمريكي العسكري بالمحافظة على الاستقرار في بعض الدول النامية وحماية الحلفاء الأوربيين والآسيويين تأثيراً مهماً على العديد من الشركات التجارية للولايات المتحدة الأمريكية في هذه المناطق، فقد كانوا مجبرين بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الاعتراف بالجميل ورده بأفضل منه عن طريق أخذ هذا الالتزام في الاعتبار في مفاوضاتهم التجارية الثنائية والمتعددة الأطراف، وبواسطة هذا الالتزام، وفرضه على الآخرين بالقوة في بعض الحالات، واجبار الآخرين على أخذه في الاعتبار عند اتخاذ القرارات التي يمكن أن تؤثر على الاقتصاد الأمريكي، أمكن للحكومة الأمريكية ادارة اقتصادها المحلي بدون الحاجة إلى وضع قيود متشددة على الصرف الأجنبي، واستطاعت الحصول على قدر كبير من الحماية لسعر صرف الدولار بدون تحمل تكاليفها وتبعاتها. ومن العوائد للقوة العسكرية الأمريكية، والتهديد باستخدامها واستخدامها -حسب هذه الدراسات- للاستحواذ على نصيب أكبر من الثروات والمكاسب المتحققة من التجارة الدولية. إذ بينت ان توزيع الثروة والمكاسب من التجارة الدولية بين الدول لا يخضع لاعتبارات طبيعية واقتصادية بحتة بل يخضع أيضاً للقوة العسكرية وما تؤدي إليه من هيمنة دولية.
الجدير بالذكر أن هذه الدراسات والتي توصلت إلى هذه النتائج هي دراسات أمريكية، فلعلها وفرت الإطار النظري للممارسات العملية للحكومة الأمريكية، وما يجري هو الجانب التطبيقي له، أو لعلها أصلت لما يجري فعلاً من أجل اكسابه المنطقية والمصداقية لدى الشعب الأمريكي، ويمكن أن يكون الاثنان معاً.
(*) قسم الاقتصاد والعلوم الإدارية - جامعة الإمام محمد بن سعود
|