هناك حكاية شعبية جرت احداثها منذ زمن في مجلس كريم وقد تذكرتها في مشهد السقوط الذي سيكتب في صفحة التاريخ إن كان ابن العلقمي قد سلم بغداد في السقوط الأول للتتار فإن ابن العفلقي بتشنجه وعنجهيته وكبريائه المزعوم قد عرضها للسقوط الثالث إذ يتحمل بنظامه تبعيات الموقف والحدث القاسي.
كان هناك رجل في ذلك المجلس يحمل اسماً قبيحاً لا يليق كما يزعمون بمسميات هذا العصر فسأله صاحب المجلس لماذا اختاروا لك هذا الاسم يا فلان؟ فأجاب كان لي جد قديم شجاع وكريم وسموني عليه تيمناً كي أكون شجاعاً كريماً مثله فقال له وماذا أنت منه الآن؟ فأجب ضاحكاً نعم إنني لست أقل منه شراً ولكنني لما طلعت على الدنيا وجدتها محكومة.
كانت الإجابة حكيمة لم يدركها أكثر من في المجلس كما لم يدرك البعثيون أن العالم محكوم وأن قدرتهم وقدرة عراقهم المنهك غير كافية لمواجهة الآخر فتسببوا في انهيار لم يشهد له التاريخ مثيلاً ولا تقل تلك الإجابة عن جواب المهلب بن أبي صفرة فيما أظن عندما عرض عليه فتى سيفا قصيراً أمام الصفوف فقال ما رأيك بهذا يا مهلب؟ قال صقيل لكنه قصير فرد الفتى أوصله بخطوة.. فضحك المهلب من ثقة الشاب الذي ربما ستقوده إلى الهلاك والانهيار فقال يا فتى لو أنك مشيت من جزيرة العرب إلى الصين على أنياب الأفاعي لكان أسهل من تلك الخطوة في مكانها، كان المهلب يقصد باختصار أن المقابل قد يحمل سيفاً أطول من سيفه وساعداً أقوى من ساعده فينتزع روحه قبل أن يصل إليه سيفه القصير.
كل ذلك تداعى في ذاكرتي وأنا أراقب كعربي في هذا الجزء من العالم يحمل هم الحرب القادمة وأخطارها بعيدة الأمد اختيار الرئيس العراقي صدام الخيار العسكري وهو لا يملك غطاء جوياً يحمي الجيش الذي أنهكته الحروب غير المبررة والإعدامات والحصار الاقتصادي والسياسي لقد كان مجنوناً إلى درجة مخيفة حقاً.
ولم يكتف بذلك الشعور بل عممه على الشعب المكلوم الذي ما إن تنفس حتى فتك بكل شيء ومن ذلك الحضارة والتراث والآثار وتحول أمام العالم إلى فريقين أحدهما سارق والآخر حارس يصرخ بأعلى صوته ما أقسى أن ترى وطناً يسرق من أبنائه الذين يهيئون له ولأنفسهم كل هذا الموت حتى أصبح عديم المعنى بالنسبة للعالم، وأعطى الآخر شرعية لتحريره وفضح قياداته وهي تعلك اللجام بعد ما انتقلت من خندق ملغوم إلى آخر متواطىء لتثبت للأمة أن الرفاق خائنون وأن الثوار كاذبون وأن الأمة لم تعد ذات رسالة خالدة على الطريقة البعثية وأن فلسطين التي أثقلوا أسماعنا بتحريرها وبإحراق إسرائيل بالكيماوي المزدوج ثم اكتشفنا في الهزع الأخير من الليل أن ذلك الكيماوي ضل الطريق فأحرق العرب والعروبة المخدرة فوق سرير الشعارات حينما رفضوا كل الطرق الدبلوماسية في حل قضايا الأمة ويرونها عيباً وخذلاناً شاهدين على أنفسهم أنهم عرايا في زمن سقوط المدن على كائناتها التي تصحو دوما بعد فوات الآوان وأنهم يفعلون القضية ثم يهربون ويتركون الشعوب تتحمل نتائج تصرفاتهم وتشنجهم الذي يرفض المبادرات السلمية التي يطلقها الشرفاء والحكماء.
صدقاً مؤلم أن ندين ونتهم ونعاتب ونشك ونشتم ونجلد الذات المقيدة بسلاسل الخطاب الفاشل بعد كل هذا التخدير الذي ألف مشهد العواصم وهي تحترق وتسرق آثارها وجامعاتها ومكتباتها ومراكزها العلمية الشاهدة بكل أصابعها أننا شعوب تستحق الوصاية عندما يكون الهدف الأسمى للإنسان السارق الحصول على هيكل عظمي من كلية للعلوم في هذا الوطن المتجزىء الذي يقتسمه أبناؤه أمام العالم ولو كان الثمن (جنط حديد لا أدري ما الفائدة منه فقط يشهد أن الحرب خاسرة بكل تفاصيلها لأنها لم تقف عند حدود الهزيمة العسكرية بل تجاوزتها إلى هزيمة ثقافية لم يشهدها التاريخ إلا على يد من هم أمثال هولاكو عندما أغرق مخطوطات مكتبة دار الحكمة في الرافدين ولكن هذه المرة ألقينا مخطوطاتنا بأيدينا في المزابل والقاذورات. ليس عيباً أن ينتصر الآخر عليك بل العيب أن تخون ترابك ومقدساتك وتمعن في العبث بحرية وطنك وحضارة أمتك التي تشهد هي أيضا في الصورة الأخرى أن بغداد الرشيد لم تسقط وستبقى شامخة كما كانت وكما ينبغي أن تكون بتاريخها ورجالها وحضارتها ذات السبعة آلاف سنة وأن الساقط الوحيد هو النظام البعثي الاستبدادي في تلك اللحظة المسروقة هي أيضا من سفر التاريخ عندما نسي الغوغائيون البكاء والألم من أجل الضحايا وهبوا كالأسود الضارية إلى جميع الغنائم من الجامعات والمتاحف والآثار والمخطوطات ونسوا أيضاً أنهم لا يسرقونها فقط بل يسرقون أنفسهم ويغنمون حضارتهم ويسلبون تاريخهم ولم يكونوا على مستوى ذلك الإسباني الوطني الذي سكتت كل البنادق في الحرب الإسبانية إلا بندقية واحدة في أحد الخنادق وكانت بندقيته التي توجه نيرانها في كل الجهات فأمر المسؤول جنوده أن يقبضوا على هذا الجندي ولا يقتلوه وبعد انتهاء الرصاص من جعبته قبضوا عليه وأحضروه إلى ذلك المسؤول الذي حياه لوطنيته وشجاعته وسأله ما الذي دعاك إلى هذه المقاومة منفرداً وقد استسلم غيرك فأخرج الجندي ورقة من جيبه قد بللها العرق وزعفرها التراب المقدس ومدها للضابط قائلاً إني أقاتل من أجل هذه وما كانت هذه إلا قصيدة لوركا الشاعر الإسباني العظيم ونحن لا نريد أكثر من هذا الشعور الوطني الذي يأبى سرقة المتحف والجامعة وعدم إعطاء العالم صورة عن هذا الجزء لا تتجاوز سوى الفسيفساء والطائفية والعرقية ولا أدري لماذا لا يستفاد من التاريخ إذ ينبغي أننا كنظام عربي يحرص على الوحدة قد استفاد من الأزمات التي مرت به وبخاصة بعد اجتياح النظام البعثي لدولة الكويت وما جر إليه ذلك الاجتياح من مصائب للإنسان العراقي بخاصة والعربي بعامة والأدهى أن الأزمات قد توالت عقداً من الزمن ولم تدرك الأمة بجامعاتها العربية ومنظماتها الإسلامية أهمية إصلاح ذات البين واحتواء الاختلاف والحرص على تطبيق القرارات الدولية ليتجنب هذا البلد العربي مثل هذه الحرب الشعواء ليس حباً في شخص واحتراماً لنظام وإنما انطلاقاً من عظمة هذه الأمة بتاريخها وحضارتها التي يجب أن تبقى حتى وإن ذهبت شخوصها وأنظمتها المستبدة التي عاقبها الله بهدا السقوط المخيف.
نعم ذلك التاريخ الذي يجب أن يكون حاضراً في ذاكرة تتذكر أن الولايات المتحدة الامريكية قد ألقت القنبلة النووية على هيروشيما عام 1945 ولم يكن ذلك إلا عقوبة من الله للاستبداد الياباني في حق شعوب الصين وكوريا والدول المستعمرة إذ حولت الشعوب فيها إلى مزارع بيولوجية كبيرة في سبيل الحصول على أسلحة فتاكة ولذلك لم أعجب عندما قرأت قبل أيام الدعاوى القضائية التي رفعها العمال الصينيون على الحكومة اليابانية طلباً لحقهم المادي والمعنوي أثناء الاحتلال وتتذكر أيضاً تلك الذاكرة العهد النازي في ألمانيا وما حل به من عقوبة ربانية بسبب ما فعلوه في حق الشعوب الأخرى التي تعرضت للهجوم الشرس من قبل قواته النازية ذات المبادىء الفاشية كل ذلك يؤكد أن الله سبحانه وتعالى بحكمته وعدله ينتصر للمظلومين من أولئك الطغاة ويسلط على الظلمة من هو أظلم منهم مثلما سلط الله قوى التحالف على النظام البعثي في العراق الذي لم يستفد من هزيمته في عام 1991 من تجربة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية ومواقفها المتشددة من قضية نزع أسلحة الدمار الشامل تثبت ذلك ولا أدل على ذلك من إصدار رئيس الوزراء الياباني كويزومي بياناً رسميا في 17 مارس عام 2003 وركز على نقطتين إحداهما وحدة المجتمع الدولي في مواجهة الدول التي تملك أسلحة الدمار الشامل بكل الوسائل الدبلوماسية الممكنة ولو اضطر المجتمع الدولي إلى نزعها بالقوة العسكرية فليكن له ذلك تحت غطاء الشرعية الأممية.
والأخرى المحافظة على تحالف ثابت بين اليابان والولايات المتحدة الامريكية من أجل أمن اليابان أولاً وضمان مصالحها الاقتصادية والمالية ثانيا والتهويش بالقوة الأمريكية في مقابل القوة الروسية والقوة الكورية الشمالية ثالثا في وقت سعت فيه إلى بناء الإنسان الياباني فاتجهت الحكومة للسلام والتكنولوجيا ونبذت الحروب والقوى الشريرة بموقف ثابت تجاه كل ما يخرج من رقابة الأمم المتحدة ومنظماتها ويرفض العودة إلى العهد الاستعماري البائد الذي يؤمن بمبدأ الحداثة في خدمة العسكر والعمل على نشر العلم والأمن الدوليين عن طريق دستورها الذي يحظر عليها التسلح أو استخدام الأسلحة العسكرية اليابانية خارج إطار الدفاع المشروع عن النفس والوطن وفق مبدأ الحداثة في خدمة المجتمع ولذلك وقفت اليابان في وجه وزير الخارجية الامريكي السابق جون فوستر الذي حاول بكل الطرق أن يعدل الدستور الياباني الذي يحرم العدائية كما عدلته المانيا في سبيل الحصول على الأسلحة الهجومية وإلغاء اتفاقيات الحرب العالمية الثانية التي وضعت حواجز مباشرة أمام طموح القتلة والمستبدين عن طريق مجالس الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية.
والله من وراء القصد
* الإمارات العربية المتحدة
|