جئت إلى القاعة متأخراً، ولم أجد الوقت الكافي لانتظار المصاعد، فمشيتها خطوات عجلى، قفزت بها الدرج مسرعاً، وما أخذت مكاني على المنصة، حتى أحسست بتفصد العرق، وانتابني لهاث متلاحق، فطفقت أخصف ورق المناشف، لأجفف الأصداغ والحواجب، وتلمضت بلساني لأرطب الشفاه التي جمدت على الكمد، وكنت يومها حديث عهد بقراءة أعمال المؤتمر الدولي الأول للحضارات المعاصرة «العولمة وحوار الحضارات: صياغة عالم جديد» المنعقد في القاهرة، الذي كانت لي فرصة المشاركة في فعالياته، وطبع بحثي ضمن أعماله. ومثل هذه المؤتمرات تفتح بصيص الأمل لحوار هادئ، يجنب العالم ويلات الحروب الشرسة.
والطلبة الاستشرافيون يعودون من مراكز المعلومات، وفيوض القنوات، متخمين بالقول ونقيضه، في مختلف المعارف والقضايا، ثم لا يجدون بداً من ان ينكوا الجراح، ويحزوا اللحم إلى العظم، لأنهم في زمن التشكك الذهني، وقدرهم انهم جاؤوا في الوقت الذي تتناسل فيه الفتن كقطع الليل المظلم، ولهذا تراهم كلما ادلهمت الأمور، واستحكمت الشدائد، أمطروا أستاذهم بوابل من التساؤلات، وكأن الخوض فيها يسكن الأوجاع، ويخفف الصداع، وفي ظل ما أعانيه من انهاك نفسي وجسمي كنت أطمع في أسئلة في المنهج، أو أسئلة عما قرأت وسمعت في ذلك المؤتمر الذي جاء على قدر، ليجمع الأشتات عبر القواسم المشتركة، ولكن أصداءه العذاب تلاشت تحت أزيز الطائرات ودوي المدافع، لقد اجهضت تطلعاته مغامرات دامية، صدمت المتفائلين بحوار حضاري، وعولمة متزنة متوازنة، ليس فيها تعسف ولا إكراه، ولم يكن في حسابي ان تكون الأسئلة حول المصائب الجسام التي تصب جام غضبها على عالمنا العربي المرتكس في الفتنة إلى الأذقان، يتقلب في أمواجها منذ فجر التاريخ الحديث، دون ان تلتقمه الحيتان ليريح ويستريح، أو تنبذه في العراء سقيماً أو صحيحاً، لينظر العقلاء في أمره. لقد أوجست خيفة من قصف الأسئلة التي تعتورني عبر عشرات القصاصات، لتصل تباعاً متنقلة من طالب لآخر، وكلها تستجلي الوضع المتردي، متناسية «نظرية الضرورة» واحتمال الأذى عند العجز عن رده، ولما ان تكدست بين يدي، لم أجد بداً من فرزها إلى مجاميع، ولما ان استعرضتها على عجل ووجل، وجدتها تدور حول ثلاثة محاور:
1 ما المبرر لحروب خليجية ثلاث؟
2 هل من موقف عربي موحد إزاء القضايا المصيرية؟
3 وهل يضع الغرب وزناً للموقف العربي، عندما يقضي أمراً يعنيهم؟
لقد حوصرت بمرارة الحقيقة، وخطورة المصداقية، وتمنيت لو أوتيت حنجرة «أحمد سعيد» وتمثيل «سعيد الصحاف» وقلة حياء الساسة، لأهرف بما أعرف، وأمام هذا الحصار لم يكن بد من خيارات ثلاثة: فإما ان أتعمد اللغة «الدبلوماسية» المراوغة، وأحفظ ماء الوجه، إن كان ثمة بقية من حياء عند من يتعاطى السياسة، وإما ان أصدقهم القول، وأكشف عن الواقع المرير، وإما ان اعتذر عن الإجابة، ونصف العلم «لا أدري» ومن قالها فقد أفتى. والإجابة الصحيحة الدقيقة آتية لا ريب فيها، على حد: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود». ولم يطل ترددي، ومن ثم أطلقتها كحشرجة المحتضر: «لا مبرر» و«لا موقف» و«لا وزن». وهي «لا ءات» ثلاث، أطلقها من قبل المؤتمرون في السودان، بعد النكسة الموجعة، ولكنها صارت هباء، وصارت سدى، بمغامرة «الكامب ديفيد» التي جرَّت أقداماً كثيرة، وأعطت تنازلات أكثر، وتمخضت عن أوضاع ومصطلحات سياسية، ما كان اليهود يحلمون بأيسرها، وما أكثر المغامرات والمغامرين والمقامرين بمقدرات الشعوب.
وما أن لملمت أشلائي المبعثرة، وروضت مشاعري الدامية، وحاولت إبداء تجلدي للشامتين، لأريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع، حتى بدهني شقي آخر، انبعث صوته من مؤخرة القاعة: وهل من تحرف صادق لإيقاف التدهور، ومعالجة الانكسارات؟ وبخاصة بعد السقوط «الدرامي» الذي جاء متأخراً، لكي يتمكن التحالف من تدمير ما لم تدمره عصابة الشر، وجاء الجواب كسوابقه، وعاج الشقي يسألني: إلى متى؟ ولماذا؟ وكيف؟.. إننا بحاجة أن نعرف: هل من الممكن ان يبدأ العرب الخطوة الأولى في طريق العودة إلى جادة الصواب، كي يعيدوا ثقتهم بأنفسهم، وتفعيل جامعتهم، وتوحيد كلمتهم.
وساعتها لم يكن بد من الدخول في التفاصيل، فليس من مصلحة الناشئة العربية ان يتركوا في جهلهم يعمهون، والسؤال الملح عن الحروب الخليجية المتواصلة من أشعلها؟ ولمصلحة من أشعلت؟ وما خسائر الأمة: المادية والبشرية والمعنوية؟ ومن الخاسر فيها؟ ومن الرابح؟ أسئلة مشروعة، وواجبة الإجابة. ولو اننا وقفنا عند كل حدث، وساءلنا كل قضية، وحاسبنا كل مقترف، واعترفنا أمام الناشئة بالحقائق العلقمية، لما آلت مصائر الأمة إلى الدرك الأسفل من الضعة، ولما حفزناهم على البحث عن مجيب، يشكل وعيهم على عينه، ليجعل منهم عدوا وحزنا. إنهم يعيشون حالة من اليأس والإحباط والفراغ والاحتقان، وقابلية الانفجار، وهذا التوتر يغري شياطين الإنس باجتياهم واحتناكهم، ولن يتوقع أحد سلامة الذهنيات في زمن العجائب والغرائب والمفاجآت.
حروب الخليج التي دمرت كل شيء أتت عليه، وألهت المخلصين عن كل فعل إيجابي. إما: أن تكون بالإنابة، بحيث يكون المحارب لاعباً غبياً لتأديب خصم لدود، وضع يده على ترسانة عسكرية، تهدد المنطقة. وإما: أن تكون نزوة مجنونة من نزوات الثوريين الدمويين، وفق حسابات وتقديرات خاطئة، شرعنت للأقوياء المهتبلين لأي فرصة سانحة، لينهضوا بمهمة التأديب بثمن باهظ وإما ان تكون تطلعاً إلى صياغة جديدة للعالم من خلال إعادة تشكيله، واحتوائه، والسيطرة على مؤسساته ومقدراته، بحيث يكون التابع الذي ينتج قدر الطاقة، ويأخذ دون الحاجة. وهذه الحروب الذكية بقدر ذكاء القذائف خططت لها مؤسسات لا تخاف الله، ولا ترحم عباده، وليس لها من هدف إلا الانتهاك والإذلال، وكلها مصائب تصب حممها على الأبرياء. ولا شك ان ما تتعرض له بلاد المسلمين: يكون ابتلاءً، أو يكون عقوبة.
فالابتلاء يتطلب الصبر والمرابطة والتقوى. وأما العقوبة، فلا تكون إلا بسبب المخالفة لأمر الله، وهي تتطلب مراجعة النفس، والفرار إلى الله، وإعادة النظر فيما اقترفته الأمة من مظالم، فلقد يُسرت المصائب، بحيث يراها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولم يبق إلا أن نكون مدكرين، ولكن هل من مدكر؟ والعقوبة والابتلاء متوقعان، فالمصائب مما كسبت أيدي الناس، والابتلاء تحقيقاً لقوله تعالى: {أّحّسٌبّ النَّاسٍ أّن يٍتًرّكٍوا أّن يّقٍولٍوا آمّنَّا وّهٍمً لا يٍفًتّنٍونّ} و{وّحّسٌبٍوا أّلاَّ تّكٍونّ فٌتًنّةِ}. والعقلاء المتمرسون لا يزكون أنفسهم، وإنما يعترفون بتقصيرهم، ويدينون أنفسهم قبل أن يدانوا، وحين منيت الجيوش الإسلامية بنكسات غير موجعة، عرف قادتهم ان ما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم، ولهذا بادروا إلى التوبة النصوح. وما الحروب الخليجية المتعاقبة إلا ابتلاء أو عقوبة، وكان متوقعاً أن تكون آيات ونذر مغنية لمن يعقل. وثالثة الأثافي كسلفها من حروب، أديت بالأصالة أو بالإنابة، وإن تعددت الأسباب وتنوعت الدوافع، وأمريكا التي تولت كبرها، وكانت وراء كل اللعب الكونية، لم تجد بداً هذه المرة من ممارسة التصفية بنفسها، وبسلاحها الفتاك، وعلى مسمع ومرأى من العالم، ضاربة بالشرعية عرض الحائط، متحدية أصدقاءها وشركاءها. ولما كانت شرذمة الحكم العراقي ضالعة في اللعب المميتة، متقنة لكل الأدوار القذرة، كان الدعم والتأييد ينهال عليها من كل جانب، وحين أنهت أدوارها، كان لابد من خلع أنيابها، وقمع انتفاخها، وحين تأبت، لم تتردد أمريكا في شطبها من الوجود، لتنهي دور اللاعبين الذين استهلكوا كل أقنعتهم. ولقد صدق مندوب النظام، وهو كذوب، حين قال «انتهت اللعبة». ولن تتخلص الأمة العربية من المكائد إلا بقراءة الأحداث كما هي، ووضع كل مقترف أمام مسؤوليته، ومعرفة العدو من الصديق، والتعامل مع الآخر وفق الإمكانيات، وعلى ضوء خيارات متعددة، ليس من أولوياتها الصدام، ولن يتأتى ذلك إلا حين تحترم الدول المصداقية، وتتحامى تعريض نفسها للذل والضياع، وبخاصة في زمن الاستكبار والغطرسة، وضرب الشرعية العالمية، والتدخل السافر من دولة يتوقع منها حماية العدل والحرية يشي بأن العالم مقبل على انهيارات تطال الشرعية والأخلاقية والمصداقية. واستياء الناس من أمريكا، ليس لأنها فعلت فعلتها النكراء لقتل شعب آمن، ولكن لأنها الحامي الذي تحول إلى مغامر يلعب بالنار، ويستن سنة سيئة لم يسبق إليها.
ومع الاستياء العالمي لتخطيات أمريكا، نجد من يتحدث عن الوجه المشرق لها، ونقرأ لمن يتفاءل بدخولها الحرب التطوعية أو التأديبية مردداً: «رب ضارة نافعة» مستدعياً {وّعّسّى" أّن تّكًرّهٍوا..}، ومع ان من حق كل إنسان ان يعبر عن وجهة نظره، إلا ان هناك قطعيات ثبوتية ودلالية، تشكل خطوطاً حمراء، لا يستساغ تجاوزها. فالبعض يأخذه التفاؤل، كما تأخذ المسترخي المتعب سنةُ النوم، ثم يغرق في الأحلام. والمتفائلون يحيلون إلى الآثار الإيجابية التي أعقبت دخول أمريكا حروباً طاحنة ضد بعض الدول مثل «اليابان» و«كوريا» و«ألمانيا» وطرحها بعد الانتصار مشاريع اقتصادية وصناعية وتجارية، واعطائها قروضا مخفضة، وفات هؤلاء وأولئك انه لا تجود المقارنة مع الفارق، فأمريكا لها تجاوزات لا يمكن احتمالها.
الأولى: الوجود الصهيوني المتوحش المدعوم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً من أمريكا.
والثانية: الموقف المعلن من الحضارة الإسلامية، بوصفها المعادل الأقوى لحضارة الغرب.
والثالثة: إلصاق الإرهاب بالإسلام، ومواجهته وفق مفهومه الغربي بكل قسوة وعنف.
ويأتي على أعقاب المتفائلين والملتمسين لإشراقات الوجه الأمريكي من أخذتهم الخيفة من دعوى «حقوق الإنسان»، الأمر الذي حفزهم على التفكير الجاد للمسايرة بتعديل الأنظمة، أو التخفيف من القوة في الحق، وحسبوا أن يساءلوا عن سجين لم يبادروا في محاكمته، أو عند معتد أثيم لم تتح له فرصة المغالطة والبحث عن قوة الحجاج، لينجوا من العدالة متحرفاً لاعتداء آخر. ومع التباكي فوجئ العالم بأن هذه الدعوى لا تبلغ تراقي الدعاة. وكيف يصدقون، وهم يلقون حممهم على المنكوبين من حكامهم، فيما يختبئ الحكام في سراديبهم، ويتهيئون للفرار للعيش المترف بالأموال التي سرقوها، تاركين أمتهم رهن الضياع والخوف والفقر. وكيف ينهض الظلمة بالمطالبة بالحقوق، وهم قد انتزعوها بالقوة من أفواه الجياع وجيوب المعسرين، والفجوة السحيقة بين الدعوى والممارسة،
|