Monday 14th april,2003 11155العدد الأثنين 12 ,صفر 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

على هامش العدوان على هامش العدوان
عبدالله الصالح العثيمين

اعتقد أن كل من لديه شعور صادق بانتمائه إلى الأمة العربية المسلمة قد ذاب قلبه ألماً وحسرة عند رؤية ما ارتكبته قوى العدوان على العراق من جرائم التدمير والترويع والتقتيل والإذلال، لكن قدر الجيل الذي ينتمي إليه كاتب هذه السطور أن عانى من مشاهد النكبات تحلُّ بأمته واحدة بعد أخرى، وقدر بلاد الرافدين بالذات أن عانت مآسي كل واحدة أنكى من سابقتها.
منذ أن كنت طالباً في المرحلة المتوسطة، قبل نصف قرن تقريباً، وأنا مهتم ببلاد الرافدين باعتبارها جزءاً عزيزاً من الوطن العربي والأمة الإسلامية، ولكونها قاعدة لحضارة عريضة، ولكون عاصمتها - دار السلام - مقراً لحضارة عربية إسلامية مجيدة عدة قرون، عندما كنت في تلك المرحلة المتوسطة من الدراسة كان الحكم في العراق ملكياً، وكان نوري السعيد الرجل الأقوى فيها، حزماً ودهاء، لكنه كان مندفعاً في تأييده للغرب، الذي عانت الأمة من استعماره ما عانت، وفقدت فلسطين بسببه بدرجة كبيرة، وكان حلف بغداد، الذي تصدّرت بلادنا الكريمة محاربته، مثالاً واضحاً على ذلك الاندفاع، على أن العراق شهد، في عهد نوري، نهضة عمرانية واقتصادية جيدة، ثم أطيح بذلك الحكم الملكي، وانتهت تلك الشخصية القوية الداهية، التي عفت يدها عن سرقة أموال الشعب، وكانت ثورة 1958م بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم، ونتيجة لأخطاء داخلية وتدخلات خارجية أصبح للشيوعيين نفوذ قوي في العراق، فارتكبوا جرائم فظيعة بينها السحل ودفن الناس أحياء في كركوك، وسعياً لترسيخ نفوذهم أكثر فأكثر أصبحوا يرددون عبارات الثناء للرئيس العراقي بتسميته الزعيم الأوحد، و«ماكو زعيم إلا كريم». على ان انفصال الوحدة بين سوريا ومصر عام 1961م، كان - فيما يبدو - من الأمور التي طمأنت الزعيم نوعاً ما على وضعه في بلاده، فاتخذ خطوات للحدّ من هيمنة الشيوعيين. ولقد عبّرت عن تلك الأحداث بقصائد منها واحدة كتبتها سنة 1962م، وورد فيها:


هي ساحتي مازال يغمرها الآسى
وهمُ تتار الأمس لم يتبدلوا
بغداد ما برحت تجرُّ طيوفها
حرٌّ يمزق أو شهيدٌ يسحل
دار السلام وما تغيَّر فوقها
إلا الأساليب التي تتشكل
بغض التحرر مالك حكامها
لن يتركوا طبعاً ولن يستبدلوا
ساروا بركب الأجنبي كما مشى
من قبلهم ذاك الأجير الأرذل
من قدّم الوطن السليب ضحية
لشراذمٍ من كل فجٍ اقبلوا
من خرَّ للدولار شكراً وانحنى
يتلو ترانيم الثنا ويرتِّل
وطبيعة العملاء أن يتعبدّوا
لمن استحلّوهم وأن يتذللوا
خلقوا دمى للغاضبين فهل لهم
أن يستطيعوا السير؟ أن يتحملوا
باعوا المواطن في سبيل بقائهم
ورموا بمن فيها إلى من يبذل
وبنوا من الأحلاف آمالاً لهم
وتمسكوا فيها لئلا يركلوا

وأطيح بحكم عبدالكريم قاسم عام 1963م. وبالرغم مما حدث في عهده من ارزاء فإنه لم يسرق أموال الشعب، ولم يعش عيشة أباطرة وترف.
ولقد أصبح، نتيجة الإطاحة بحكمه، للبعثيين نفوذ قوي في العراق، وعانت من جرائم ثأرهم وانقساماتهم ما عانت، ثم حالفها حظ سعيد، لكنه كان قصير العمر، وذلك في عهد عبدالرحمن عارف عندما أصبح رئيس وزرائها المفكر المعروف عبدالرحمن البزاز، الذي افقده تعذيب زبانية صدام، فيما بعد، الحركة والنطق. وكان وصول هذا المجرم الى الحكم قاصمة الظهر، ذلك ان غريزة الإجرام كانت واضحة لديه منذ أن اغتال استاذه في المرحلة الثانوية، وقد افتتح عهده المشؤوم بمجزرة أكثر من عشرين رجلاً من زملائه في مشهد تقشعر منه الأبدان.
وكنت من القليلين جداً - ويعرف ذلك اصدقائي - الذين رأوا في دخوله الحرب مع إيران خطأ جسيما.
ولقد أثبتت الأيام أن محاربة ذلك المجرم لإيران، بتشجيع ودعم ممن شنوا عدواناً على بلاده أخيراً، كانت من أكبر عوامل تماديه في التغطرس والتفرعن. وكل عاقل مخلص لأمته آلمه أن أتى ذلك الرجل الى الحكم أساساً، وتمنى أنه - لما أتى إليه - أطيح به سريعاً لتسلم البلاد - ومن ورائها الأمة - مما حل بها نتيجة حكمه من ويلات. لكن من المؤلم حقاً أن يرى عدواناً على بلاد الرافدين بزعامة دولة نذرت قيادتها نفسها لخدمة الكيان الصهيوني ودعم ارهابه وجرائمه بمختلف الوسائل والامكانات الهائلة، تسليحاً وتمويلاً، وأن يرى أناساً من مثقفي العرب ومفكريهم تغطي غشاوة الهوى أبصارهم عن رؤية الحقيقة، فيشيدون بعدوان لم يقرّه حتى مجلس الأمن الذي تهمين عليه زعيمة هذا العدوان، ويحسبونه سفينة نوح الى الإصلاح مع أنه عودة بالأمة الى استعمار بذل الجيل السابق دماءه للتخلص منه.
وسيتضح للجميع كم ستستفيد الدولة الصهيونية، التي ضاعفت جرائمها في فلسطين خلاله - نتيجة له.
إن الكره لصدام وحكمه شيء، وتأييد عدوان تتزعمه أمريكا على العراق شيء آخر، ويحضرني بهذه المناسبة تعليق رشيد للشيخ الأديب عبدالرحمن بن عبدالعزيز الزامل، رحمه الله، مع أن الأفراد الذين لهم دور في الحادثتين يختلفون، منهجاً وسيرة، من المعروف أن كثيراً من الناس، وبخاصة أهل هذه البلاد، ساءهم ما قام به الرئيس جمال عبدالناصر من إجراءات اشتراكية، وزاد الطين بلة لديهم ما حدث في اليمن، فأصبحوا يكرهونه. ووقعت هزيمة 1967م. وكان الشيخ عبدالرحمن قد دعا أناساً من أهل الفضل والجاه فراحوا يتكلمون عن تلك الهزيمة، وقال أحدهم: الحمد لله الذي أذله - يعني الرئيس المصري - وأيّده بعض الحاضرين. فما كان من الشيخ عبدالرحمن إلا أن علق قائلاً: يا جماعة.. والله ما أظن أحداً منكم يكره جمال عبدالناصر أكثر مما أكرهه لكن أن نفرح لهزيمته على أيدي أعداء الله وأعداء أمتنا من اليهود المجرمين فهذا أمر غير لائق. موقف ذلك الشيخ يبيّن أن هناك عقلاء يفرقون بين الأمور دون أن ينساقوا وراء عواطف تضل في كثير من الأحيان.ومما يتصل بالعدوان الأخير على العراق وما واكبه من إعلام، ولقد أدرك خطورته كل من المعتدي والمعتدى عليه كانت نهايةالمعركة بين الطرفين معروفة منذ بدايتها بمقاييس القوة المادية والظروف المواتية، ومع تفوق المعتدي، عسكرياً وإعلامياً، فإن إدراكه لخطورة الإعلام بايصال صور جرائمه إلى العالم بعامة والشعب الأمريكي بخاصة دفعه الى بذل كل ما يستطيع لاخماد الأصوات من المعارضين لعدوانه، فمع ادعائه بأنه مناصر لحرية التعبير لم تقتصر جهوده على استعمال التقنية الاتصالية في اخماد تلك الأصوات فحسب، وإنما وصل به الأمر إلى ضرب قواعد بثها عسكرياً.
ولقد سبق أن نشرت مقالة في صحيفة الجزيرة قبل ستة أشهر عنوانها «الانزلاق الإعلامي»، ومما أشرت اليه فيها أن إعلامنا المتخلف، محتوى وأسلوباً، يقلّد في أغلب الأحيان الإعلام الغربي المتقدم دون تحفظ أو روَّية.ومن ذلك تبنينا لتسمية منطقتنا العربية الإسلامية باسم «الشرق الأوسط». بل إن قضية أمتنا الأولى - قضية فلسطين - أصبحنا نسميها تقليداً للإعلام الغربي، مشكلة الشرق الأوسط. وبلغ فقدان الرؤية الصحيحة عند البعض ان سموا أبطال المقاومة للاحتلال الصهيوني ارهابيين تماماً كما يسميهم اركان دولة الصهاينة ومساعدوهم من المتصهينين، ورددنا عبارة «العنف والعنف المضاد» في وصف ما يحدث على ارض فلسطين وكأنه لا يوجد احتلال وارهاب دولة بجميع الأسلحة الفتاكة، وسمينا مشروعات التسوية مشروعات السلام، كما سمينا امريكا راعية السلام وهي التي تدعم المجرمين الصهاينة، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وقلنا إنها تشن حرباً على الارهاب ولم تلتفت الى انها دولة قامت أساساً على الارهاب وظلت عبر تاريخها تمارس ماتدعي أنها تحاربه. واني لأعتقد أن كل منصف يدرك ان ما قامت به أمريكا واتباعها ضد العراق عمل عدواني، ولقد صرّح بعدوانيته جميع المنصفين في العالم.
بل إن مجلس الأمن الذي تهيمن عليه أمريكا لم يجزه كما سبق أن ذكر.
ومع وضوح ذلك، ومن ثم وجوب تسميته بحقيقته فإن المتزن من أجهزة إعلامنا يسميه الحرب على العراق فقط دون ان يصفه بالعدوانية.
أما الموتورون المتفانون في محبة أمريكا فلم يكن مستغرباً عليهم ان يصفوا ذلك العدوان بأنه عملية تحرير العراق. بل انهم ظلوا يسمونه كذلك حتى بعد أن ضعف استعمال المعتدين أنفسهم لتلك التسمية وأصبحوا يستعلمون الحرب في العراق بدلاً من التسمية الأولى التي أطلقوها على عدوانهم، ولئن تألم الإنسان لم يحدث على أمته من أعدائها فإن تألُّمه يزداد ويشتد لما يوجه إلى أمته من سهام أناس ينتمون إليها.ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved