لم تخدم العلم حضارة من الحضارات السابقة مثلما فعلت الحضارتان الصينية والإسلامية، كذلك لم يتوقف العلم فجائيا في أحضان أي من الحضارات كما توقف في أحضان هاتين الحضارتين، وعلى الرغم من هذا التشابه بين هاتين الحضارتين فثمة فرق في هذا المنحى وهناك مفارقة: أما الأخيرة- أقصد المفارقة- فسيرد استعراضها لاحقا بينما يتمثل الفرق المشار اليه في حقيقة قصور ما أسهمت به الحضارة الصينية في سبيل تقدم الحضارة الغربية مقارنة بما قدمته الحضارة الإسلامية في هذا المجال، فالحضارة الإسلامية تتميز في كونها قد قدمت إلى الغرب لا ما استعارته من فلسفات ومعارف يونانية وحسب بل أيضا جل خلاصات ما انتجته من لدنها من معارف وعلوم، وليس بجديد القول بأننا نعيش لحظتنا التاريخية هذه نتائج ذلك التوريث العلمي كما يتجسد ذلك فيما وصل اليه الغرب من قوة ومنعة ونماء.
أما المفارقة المشار اليها فتتمثل في انه على الرغم من حقيقة هذه المآثر والفضائل الحضارية للحضارة الإسلامية فقد تفردت عن نظيرتها الصينية- بل عن جميع حضارات العالم عبر التاريخ- بكونها لم تنل على حسن صنيعها هذا شروى نقير من الشكر الواجب أن تناله بكل جدارة واستحقاق، بل ان الأمر يبدو تاريخيا على العكس من ذلك حيث أصبحت هذه الحضارة المجيدة هدفاً لبربرية الغرب ووحشيته وغزواته كما حدث في الماضي البعيد ولاحقه القريب بل ويحدث الآن.. ومما يبدو فجزاء احسان هذه الحضارة لم يكن احسانا البتة بل ان قدرها جعل منها هدفا لغزاة الغرب وعتاولة الشرق بدءاً من العصور الوسيطة مروراً بقرونها الحدثة وصولاً إلى الفترات التاريخية المعاصرة ومن يستقرئ التاريخ لا يفوته ملاحظة ما تواتر من حقائق تاريخية مؤسفة هدفها الأول والأخير«الكتاب» العربي/ الإسلامي.
فإضافة إلى ما تعرضت له الامبراطورية الإسلامية من هجمات وغزوات وحشية أبطالها المغول والتتار وما تمخضت عنه من احراق للكنوز المعرفية والعلمية الإسلامية فقد عانى ما تبقى من هذه الكنوز المأساة ذاتها على أيدي الغزاة الصليبيين، وبالطبع لا يغيب عن الذهن ما فعله الاسبان بالإرث العلمي والمعرفي لمسلمي الأندلس كما تمثل ذلك فيما صاحب محاكم التفتيش الجائرة من ارهاب عقدي وجسدي وفكري نتاجه كما تؤكد بعض المصادر التاريخية حرق ما يقارب من مليون وخمسة آلاف كتاب في اللغة العربية، ولاشك في حقيقة أن قوائم مثل هذه الأمثلة المؤسفة على سوء منقلب الكتاب العربي تاريخيا ستطول فيما لو «طاولناها!» ويكفينا في هذا المنحى ملاحم السرقة والتزوير والتشويه وغيرها مما عاناه الكتاب العربي على أيدي المستشرقين وعملاء المخابرات الغربية وزبانية الاستعمار ولصوص الآثار وأضرابهم.
إذن من يجرؤ على نفي حقيقة أن قدر الكتاب العربي تاريخياً أحزن من الحزن ذاته؟.. ويكفي من الأدلة على هذا الحزن ان ما سلم من نيران الغزاة الأجانب من هذه الكتب لم يسلم من حرائق مراجل الاحباط على أيدي مؤلفيها أنفسهم كما فعل على سبيل التمثيل لا الحصر أبو حيان التوحيدي..، أما ما نفذ بجلده من حرائق الغزاة- ومن محارق المؤلفين أيضا- فبالطبع.. بكل تأكيد لم ينجح في الافلات من الوقوع أسيراً في خنادق الرقابة العربية الحديثة.
|