حلقات أعدها: حميد العنزي
عندما رغبت تناول معارك الدرعية كانت معظم المصادر متشابهة إلى حد كبير ويبقى كتاب «عنوان المجد في تاريخ نجد» لمؤلفه عثمان بن بشر أحد أهم المراجع إن لم يكن الوحيد كما يذكر ذلك الدكتور محمد بن عبدالله السلمان في دراسة نشرت بمجلة الحرس الوطني حيث يقول: «لا نجد تفصيلا لمعركة الدرعية منذ بدايتها مع ابراهيم باشا حتى سقوطها في يده أوفى وأدق من وصف المؤرخ النجدي عثمان بن بشر لها في كتابه «عنوان المجد في تاريخ نجد» والذين أوردوا مثل ذلك إنما نقلوا عنه أشاروا إليه أم لم يشيروا».
ولهذا فإنني وجدت في دراسة الدكتور السلمان تقسيما لمعركة الدرعية رأيت انه من المناسب إيراده في هذه الحلقة نقلاً عن مجلة الحرس الوطني «مع التصرف»:
معركة الدرعية
يمكن تقسيم معركة الدرعية الى عدة أقسام حسب أسماء وقائعها، معتمدين على ابن بشر أولا وموردين ما يتصل بذلك مما أوردته بعض الوثائق المصرية.
لقد أخذ ابراهيم باشا بعد ان انتهى من اخضاع ضرما يعد العدة للزحف صوب الدرعية، وقد عاقه سقوط الأمطار في تلك الفترة عن التقدم السريع الى الدرعية، فمكث في ضرما شهرين ثم واصل سيره الى الدرعية، وذلك عبر الحيسية، حتى بلغ وادي حنيفة، عن طريق العيينة والجبيلة ثم سار في الوادي حتى نزل «الملقى» على مسيرة ساعة من الدرعيةونصب معسكره فيها، ويبدو ان ابراهيم باشا قد أدرك منذ ذلك الحين حصانة الدرعيةوقوة قلاعها اضافة الى ما سيبذله أهل المدينة من صلابةوقوة في سبيل الدفاع عن عاصمتهم.
ولهذا أرسل الى والده رسالة يشرح له قوة تحصين الدرعية وان فتحها منوط بتوفر عدة أمور: أولها النقود وثانيها مقذوفات المدافع وثالثها توفر الجنود المشاة، على كل فقد كان وصول ابراهيم باشا بقواته الى مشارف الدرعية «الملقى» في غرة شهر جمادى الأولى عام 1233هـ مارس 1818م، وبعدها ابتدأت وقائع معركة الدرعية المتعددة على النحو التالي:
واقعة العلب:
بعد ان عسكر ابراهيم باشا في الملقى سار مع بعض جنوده بالخيل ومعه بعض المدافع ليختار المواقع التي يريد النزول بها عند الدرعية حتى وصل الى العلب في أعلى الدرعية فنزلوا فيها ووقع بينهم وبين أهل الدرعية قتال اشتركت فيه مدافع ابراهيم باشا وكان ذلك في غرة جمادى الأولى عام 1233هـ ثم توقف القتال يومين. وكان عبدالله بن سعود قد رتب جنوده حول الدرعية في بطن الوادي ويمنته ويسرته كل قسم في مكان من الوادي وعليهم رجال من آل سعود وغيرهم، ومعهم بعض المدافع وذلك مثل فيصل بن سعود بن عبدالعزيز واخوته ابراهيم وفهد وسعد وتركي، وعبدالله بن مزروع صاحب منفوحة ومعه رجال من منفوحة، وتركي بن عبدالله الهزاني صاحب حريق النعام ومعه رجال من آل دغيثر، وكذلك سعود بن عبدالله بن سعود وفهد بن عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود ومعه بعض أهل الدرعية، وأهل سدير يرأسهم عبدالله بن راشد العريني ومع هؤلاء مدافع، وكان على أبراج الدرعية رجال من رؤساء أهلها مثل عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد ابن سعود ومعه رجال من الدرعية والوشم، وعمر بن سعود بن عبدالعزيز وأخوه حسن ويليهم تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود وأخوه زيد ومعهم رجال من الدرعية، وكذلك مملوك الامام سعود «فرج الحربي» في جمع من المماليك، ويلي هؤلاء فهد بن تركي بن عبدالله بن سعود، ومحمد بن حسن بن مشاري بن سعود ومشاري بن سعود بن عبدالعزيز، وسعود بن عبدالله بن محمد بن سعود ومعهم رجال.
ويلاحظ ان في كل جمع من هؤلاء حرص ابراهيم باشا على ان يجعل في مواجهتهم بعض جنوده ومعهم مدافع، وما كاد يمر ثلاثة أيام من بداية القتال الأول حتى تجدد القتال مرة أخرى أي في اليوم الثالث من جمادى الأولى عام 1233هـ عشرة أيام، وسقط فيها العديد من القتلى من الجانبين في عدة أمكنة وكلها في العلب وما حولها مثل شعيب المغيصبي وشعيب الحريق.
أما الوثائق فتذكر ان بداية القتال بين ابراهيم باشا وأهل الدرعية بعد وصوله اليها كانت في اليوم الرابع من شهر جمادى الأولى 1233هـ، حينما قام ابراهيم باشا بحفر متاريس «خنادق» مقابل متاريس عبدالله بن سعود فابتدر عبدالله بن سعود باطلاق النار من مدافعه الثمانية والعشرة، وقد ذكر ذلك ابراهيم باشا في رسالة وجهها الى أبيه محمد علي وقال فيها أيضا: «بما ان الدرعية كائنة بين جبلين فوزع قسم المذكور «أي عبدالله بن سعود» الوهابيين، الذين يزيد عددهم على الثلاثة آلاف على الجبال وأطراف مضيق الدرعية وفي داخل الحدائق «أي المزارع» المختلفة وبقية أعوانه في داخل الأسوار والأبراج وقوى متاريسه تقوية جدية على وجه لا تنفذ فيها القذائف، ثم يذكر ان القتال نشب بين الجانبين وسقط العديد من القتلى، وهو لا يذكر سوى عدد قتلى جيش عبدالله بن سعود، ويبدو عليه التضارب والمبالغة فمرة يذكر انه قتل مائة وخمسين وجرح فوق المائتين، وفي موضع آخر من الوثيقة نفسها يذكر ان عدد القتلى أربعمائه وفي نهاية الأمر يقول:«إن عدد الوهابيين الذين قتلوا وفروا في هذه الحروب يبلغ الفين» مع انه سبق ان ذكر ان عدد الوهابيين في الدرعية أكثر من ثلاثة آلاف. ويزيد في غرابة ذلك القول إذا نظرنا الى تاريخ هذه الوثيقة المبكر بالنسبة لمعركة الدرعية وهو 25 جمادى الأولى عام 1233هـ أي في بداية المعركة التي استمرت ستة شهور!.
واقعة غبيراء:
وهي الشعيب الواقع في أقاصي المتاريس الجنوبية من الدرعية، وسببها ان ابراهيم باشا جمع خيلا هاجم بهم متاريس «خنادق» أهل الدرعية ليلاً من الخلف فحصلت الهزيمة على أهل الدرعية الذين قتل منهم مائة رجل - كما يذكر ابن بشر - منهم بعض رجال من الرؤساء والقادة من آل سعود وغيرهم مثل فهد بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود، ومحمد بن حسن بن مشاري بن سعود، وحسن الهزاني وغيرهم، ولا يذكر ابن بشر عدد قتلى جيش ابراهيم باشا بل يقول:«انهم قتل منهم مقتلة، وهرب من الدرعية تلك الليلة عدة رجال من أهل النواحي، هذا وأهل الدرعية في متاريسهم المذكورة لم يختلف منها شيء».
واقعة سمحة النخل:
وهي في أعلى الدرعية وفيها انهزم أهل الدرعية وابتعدوا عن متاريسهم - كما يقول ابن بشر - وذلك ان أناسا من أهل البلد خرجوا الى ابراهيم باشا وأخبروه بعورات البلد ومواطن الضعف فيها فجمع ابراهيم جنوده وخيالته وهاجم بهم على بعض متاريس الدرعية وبروجها حسب ما أرشدهم اليه الذين انضموا اليهم من أهل الدرعية. فاقتحم ابراهيم البرج الذي فيه عبدالله بن عبدالعزيز واخوانه عمر وعبدالرحمن فاضطروا الى اخلائه فاحتله جنود ابراهيم باشا، كما حملت جنوده على مترس عمر بن سعود ومترس فيصل بن سعود في سمحة فثبت بعضهم واضطر البعض الآخر الى الانسحاب بسبب كثافة نيران مواقع عدوهم عليهم.
أما الوثائق فتذكر ان الامدادات استمرت تفد على ابراهيم باشا من الحجاز ومصر وهو محاصر للدرعية باهتمام من سلطان الدولة العثمانية ليتم القضاء على الدولة السعودية في أسرع وقت، وذلك بدخول عاصمتها الدرعية وابادة أهلها، وتذكر احدى تلك الوثائق ان بعض تلك الامدادات حملت عشرة آلاف من القنابل للمدافع، وفي وثيقة أخرى تشتمل على رسالة بعثها ابراهيم باشا الى أبيه محمد علي يرسم فيها خطة لاقتحام الدرعية وتتلخص في انه سيخصص خمسة آلاف من الجنود المشاة للزحف على الدرعية وباقي أبراجها ومتاريسها، كل ألف تتجه الى قسم من أقسام الدرعية التي يذكر انها خمسة أقسام، وذلك بدلا من احاطتها كلها بجنود وهذا يتطلب عدداً كبيرا من الجنود حيث يذكر «ان الرجل من المشاة لا يمكن ان يتم السير في طول الدرعية وعرضها بأقل من مدة ساعتين ونصف، واذا كانت الحال هكذا فان احاطتها تحتاج الى رجال كثيرين».
كما يذكر في رسالته تلك انه قد حصلت معارك مع عبدالله بن سعود واتباعه قتل فيها أخواه فيصل وتركي وألف وأربعمائة من أعوانه منذ بداية حصار الدرعية حتى تاريخ الرسالة وهو 9 رمضان عام 1233هـ.
واقعة السلماني:
وذلك ان أهل الدرعية بعد انسحابهم من متاريس سمحة عسكروا في السلماني ووقع بهم وبين جنود ابراهيم باشا قتال شديد قتل من جنود ابراهيم باشا قتلى كثيرون - كما يذكر ابن بشر - واستمر القتال من العصر الى ما بعد العشاء الآخرة.
واقعة شعيب البليدة:
في الجهة الجنوبية من الدرعية حيث نشب فيها قتال بين الجانبين سقط العديد من القتلى، ثم قام قتال آخر من بعد الظهر الى ما بعد العصر حيث حمل جنود ابراهيم باشا على متاريس أهل الدرعية، لكن أهل الدرعية - كما يقول ابن بشر - حملوا عليهم وأخرجوهم منهاوقتلوا منهم مقتلة.
واقعة شعيب قليقل:
في الجهة الشمالية من الدرعية حيث حصل فيها قتال حينما حمل جنود ابراهيم باشا على أهل الدرعية في ذلك المكان فثبتوا لهم وسقط عدة قتلى من الجانبين، ثم ان ابراهيم باشا بعث جنودا له الى بلدة عرقة - قرب الدرعية - وحصل فيها قتال شديد وقتل من أهلها ثلاثون رجلا وهرب الباقون الى الدرعية واستولى جنود ابراهيم باشا على البلدة ثم اشعلوا فيها النيران وتركوها.
حريق مستودع الأسلحة:
وهو الحريق الذي نشب في مستودع أسلحة جيش ابراهيم باشا وأوقعه في حرج شديد لأن الذخيرة نقصت عنده نقصا هائلاً،ومع ذلك لم يستغل الامام عبدالله بن سعود وأهل الدرعية ذلك في صالحهم فكانت فرصة سانحة ضيعوها لم تتكرر مرة أخرى.
أما سبب الحريق فقد اختلفت فيه المصادر والمراجع، فالمؤرخ الجبرتي يذهب الى ان أهل الدرعية استغلوا غياب ابراهيم باشا عن الدرعية الى جهة حولها فخرجوا من سورهم وقتلوا بعض العساكر واحرقوا المستودع فهو يقول:«انه في منتصف شهر رمضان سنة 1233هـ وصل نجاب وأخبر ان ابراهيم باشا ركب الى جهة من نواحي الدرعية لأمر يبتغيه وترك عرضة «نائبا عنه» فاغتنم الوهابية غيابه وكبسوا على العرضة على حين غفلة وقتلوا من العساكر عدة وافرة واحرقوا الجبخانة «الذخيرة» فعند ذلك قوي الاهتمام وارتحل جملة من العساكر في دفعات ثلاث براً وبحراً يتلو بعضهم بعضاً.
أما الوثائق فلا تصرح بسبب الحريق وان كانت تميل الى انه من فعل أهل الدرعية.
واقعة الرفيعة:
وهي نخل في شرق الدرعية حيث حصل فيها مقتلة عظيمة بين الجانبين ووقعات عديدة، كما ان أهل الناحية الشمالية للدرعية حملوا على معسكر ابراهيم باشا فقتلوا عدة قتلى منهم، ويقول ابن ابشر:«فأرادوا ان يجروها - أي القتلى - فوجدوها ربطت بسلاسل من حديد». وهذا يدل على الحالة النفسية لبعض الجنود التابعين لابراهيم باشا والتي لا زالت ضعيفة ولا زال الخوف من قتال أهل الدرعية واقعا في نفوسهم رغم كثير من الانتصارات التي أحرزوها، كما يذكر ابن بشر انه جرت واقعة أخرى كبيرة في الرفيعة سببها ان ابراهيم باشا سار ببعض جنوده الخيالة ومعهم رجال من أهل الخرج ورجال من أهل الرياض الذين كانوا قد انضموا الى ابراهيم وعلى رأسهم ناصر بن حمد العايذي أمير الرياض، فحملوا على متاريس الدرعية في الرفيعة فقاتلهم من كان فيها وعلى رأسهم فهد بن عبدالله بن عبدالعزيز ومعه جمع من أهل الدرعية وأهل سدير وغيرهم، ودارت معركة قتل فيها فهد المذكور لكن لم يلبث ان خرج مدد من أهل الدرعية لاخوانهم فأوقعوا في اتباع ابراهيم باشا القتل واستمر القتال من طلوع الشمس الى وقت الظهيرة وسقط قتلى كثيرون من الفريقين.
الهجوم على الدرعية
يذكر ان بشر أن ذلك الهجوم العام بدأ في الثالث من ذي القعدة عام 1233هـ حينما حمل ابراهيم باشا بجيشه على جهات الدرعية الأربع الجنوبية والشمالية والشرقية والغربية مستغلا وصول امدادات له كثيرة من مصر حينذاك، وكذلك ما توفر من معلومات هامة عن مواطن الضعف في الأسوار والمتاريس والأبراج والجنود لأهل الدرعية، وكان الاستعداد لهذا الهجوم قد بدأ من الليل وتحت جنح الظلام حيث جمع ابراهيم باشا مدافعه حول جهات الدرعية الأربع وجمع أكثر خيالته وجنوده عند الجهة الجنوبية من الدرعية بينما ركز مدافعه على الجهة الشمالية أكثرمن غيرها وعند الفجر اتجه الخيالة والجنود الى «مشيرفة» في الجهة الجنوبية وفيها نخل سعود بن عبدالعزيز فوجدوا المكان خاليا فدخلوه واستولوا عليه، ثم ابتدأ الهجوم العام من جميع الجهات ليشغلوا أهل الدرعية عن استيلائهم على مشيرفة. فاشتد القتال بين الجانبين ولم يلبث ان خرجت خيالة وجنود ابراهيم باشا على أهل الدرعية من جهة مشيرفة ففاجأوا أهل الدرعية وحصل منهم الارتباك ثم الانهزام فتركوا مواقعهم وتفرقوا، كل أهل نزلة قصدوا منازلهم واعتصموا فيها ومنهم سعد بن عبدالله بن سعود تحصن في قصر غصيبة، أما الامام عبدالله بن سعود فقد كان في سمحان حينذاك مع مجموعة من أهل الدرعية يقاتلون العدو، فلما علم بهذا التطور انتقل من سمحان الى منزله في الطريف وتحصن فيه، فاستولى جنود ابراهيم باشا على سمحان وأخذوا يرمون أصحاب البيوت بالمدافع. فخرج عليهم أهل السهل وعلى رأسهم الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب مستميتين في طرد العدو واستمر قتالهم في الشوارع وأمام الدور حتى الليل، واستطاعوا زحزحة عدوهم من مكانه بعد ان سقط العديد من القتلى وأرادوا الصلح مع ابراهيم باشا على البلد كلها فأبى إلا على السهل. فعاد القتال بين الجانبين وركز ابراهيم باشا مدافعه على الطريق حيث يعتصم الامام عبدالله بن سعود، فتهدمت جوانب من القصر، فأخرج الامام عبدالله مدافعه منه ونقلها الى مسجد الطريف وأخذ يرمي عدوه منه ومعه مجموعة من أهل الدرعية الصامدين، واستمروا على ذلك يومين في قتال عنيف، ثم حصل تناقص في اتباع الامام عبدالله - وكما يقول ابن بشر -:
«تفرق عن عبدالله أكثر من كان عنده، فلما رأى عبدالله ذلك بذل نفسه للروم وفدى بها عن النساء والولدان والأموال، فأرسل الى الباشا وطلب المصالحة، فأمره ان يخرج اليه، فخرج اليه وتصالحا على ان يركب الى السلطان فيحسن اليه أو يسيء وانعقد الصلح على ذلك». واطاعت البلد كلها.
وفي رسالة من ابراهيم باشا الى أبيه محمد علي مؤرخة في السابع من ذي القعدة عام 1233هـ يذكر انه في الخامس من هذا الشهر بدأ الهجوم العام على الدرعية خاصة على متاريسهم وحصونهم بالخيالة والمشاة وذلك عند فجر ذلك اليوم حيث صار الهجوم عليها من الجهات الأربع كلها، وكان للمدافع دور كبير في هذا الهجوم واستطاعوا بوقت قصير ان يستولوا على التحصينات والمتاريس. ويذكر في رسالته ان سعد بن عبدالله بن سعود كان متحصنا في قلعة في مكان يدعى «علوي الباطن» ومعه خمسمائة من أعوانه وصمدوا وقاتلوا، وكذلك صمد من كان في الجهة الشمالية من الدرعية.
وفي صباح اليوم التالي «السادس من ذي القعدة» أعيدت المحاولة السابقة وهي الهجوم العام عند الفجر وجرى الاستيلاء على باقي الحصون والمتاريس، ويذكر انه لم يبق الآن حين كتابة الرسالة «السابع من ذي القعدة» سوى عبدالله بن سعود معتصما في احدى القلاع مع بعض أنصاره وسيجري القبض عليه اليوم أو غداً حياً أو ميتاً.
ويبدو ان خطة الزحف الجماعي على الدرعية من قبل ابراهيم باشا لم يبدأ في تنفيذها إلا بعد ان رأى ان الحالة العامة تناسب ذلك، خصوصا بعد ان عرف مواطن الضعف في مواقع أهل الدرعية.
ومما سبق يتضح لنا ان بنود صلح الدرعية لم تشر اليها الوثائق باستثناء سفر الامام عبدالله الى مصر ثم استنبول، لكن يمكن معرفة أهم بنود ذلك الصلح من كلام ابن بشر السابق وهي كما يذكرها الدكتور السلمان:
- دخول الدرعية في طاعة ابراهيم باشا ويتضح ذلك من قول ابن بشر «وأطاعت البلد كلها» أي الدرعية.
- بذل الأمان لأهل الدرعية على أنفسهم وأموالهم ويشير الى ذلك ابن بشر بقوله:«فلما رأى عبدالله ذلك بذل نفسه للروم وفدى بها عن النساء والولدان والأموال».
- يسافر الامام عبدالله الى مصر ثم الى استنابول عملا برغبة السلطان العثماني «فيحسن اليه أو يسيء» - كما يقول ابن بشر-.
وهكذا طويت صفحةمعركة الدرعية الخالدة التي استمرت أكثر من ستة شهور متواصلة بذل فيها أهل الدرعية أنفسهم وأموالهم، وقد أرسل الامام عبدالله الى مصر ثم استنابول حيث أعدم هناك مع رفيقين معه في ساحة مسجد أيا صوفيا بالسيف. في رواية، وشنقا في رواية أخرى، وذلك في شهر جمادى الأولى 1234هـ.
أسباب سقوط الدرعية
يمكن القول ان سقوط الدرعية «والحديث للدكتور السلمان» ابتدأ منذ بداية انهيار جيوشها امام الحملات التركية المصرية في الحجاز وانتهى بدخول ابراهيم باشا الدرعية بعد صلحه مع الامام عبدالله. بمعنى ان أسباب السقوط لم تكن محصورة فيما حصل وقت الحصار للدرعية من أخطاء بل تشمل ذلك وما قبله.
والواقع ان سقوط الدولة السعودية الأولى وعاصمتها الدرعية بهذه السرعة لابد أن يكون وراءه العديد من الأسباب والعوامل التي تدفع الباحث الى البحث عنها ومحاولة رصدها، وهي بالطبع عوامل مادية ملموسة تطرق لبعضها بعض الباحثين وأهملوا البعض الآخر وهي:
* ا لتفاوت في العدد: حيث يبدو ان عدد جيوش الحملات المذكورة - ومنها حملة ابراهيم باشا - أكثر عددا من المحاربين لهم من جيوش الدرعية، حيث يصل عدد الحملة الواحدة الى أربعة عشر ألف مقاتل، بينما نجد ان الوثائق تذكر ان عدد المحاربين في داخل الدرعية لا يتعدى أربعة آلاف مقاتل وهو تفاوت واضح.
* التفاوت في العدة: فقد كانت جيوش الحملات مسلحة تسليحا حديثا بالنسبة لجيوش الدرعية، وخاصة حملة ابراهيم باشا، حيث اصطحب معه مدافع ضخمة ومنها مدافع فرنسية لا عهد للسعوديين بمستواها، كما اصطحب معه خبراء عسكريين فرنسيين وعددا من الأطباء والصيادلة، بينما نرى أسلحة جيوش الدرعية قديمة ضعيفة بالنسبة لعدوهم لا تخرج عن نطاق السيف والبنادق وقليل من المدافع.
* التفاوت في القيادة العسكرية حيث يظهر ذلك واضحا بعد وفاة الامام سعود الكبير عام 1229هـ فخسرت البلاد بوفاته قائداً عسكرياً واداريا عظيماً، وخلفه ابنه عبدالله الذي يبدو انه لم يكن في مستوى أبيه في القيادة العسكرية والادارية وان وصف بالصبر على محاربة الأعداء، ووقف امام ابراهيم باشا المعروف بشدته وحزمه وحنكته العسكرية.
* التفاوت في الخطط العسكرية: ذلك ان الامام عبدالله لم يسر على خطة أبيه الامام سعود في محاربة جيوش الحملات، محاربة قائمة على مناوشة القوات الغازية وارهاقها بقوات صغيرة واشغالها في أكثر من موقعة، وإنما عمد الى منازلة عدوه بمعارك كبيرة فاصلة رغم تفوق جيش عدوه في العدد والعدة، ويظهر ذلك واضحا في معركة «بسل» عام 1230هـ ومعركة «ماوية» غرب القصيم، عام 1232هـ ثم حصار الرس حتى حصار الدرعية.
أما ابراهيم باشا فقد سار على خطة عسكرية بارعة تقول على محالفة القبائل بالتهديد تارة وبالرشوة تارة أخرى، وعدم التقدم إلا بعد امتلاك البلاد، ليبقى طريق تموين جيشه من مصر والحجاز آمنا. وبهذا واصل زحفه على القرى والمدن النجدية للوصول الى الدرعية هدفه الأول والأخير، التي يشبهها بتفاحة في سجادة ويقول:«علينا ان ندحرج السجادة شيئا فشيئا حتى تصبح التفاحة في أيدينا».
* ضعف الامكانات المادية وضحالة الموارد المالية، فعلى الرغم من ان الدولة السعودية الأولى بلغت درجة من الغنى كبيرة خاصة في عهد الامام سعود الكبير، فإنها لا تقارن بغنى مصر ومواردها الطبيعية، وحينما توالت الهزائم على الدولة وضاع الحجاز عنها نقص كثير من مواردها المالية، والمال عصب الحرب به يمكن تجهيز الجيوش وجذب أكبر عدد من المقاتلين.
* عدم استغلال الفرص المتاحة: ذلك انه حصلت بعض الهزائم أو الصعوبات في الحملات الغازية ولم يستغلها السعوديون لمصلحتهم، ولو استغلت كما ينبغي لكان من الممكن جدا ان يتغير مسار المعارك لصالحهم أو على الأقل الحيلولة دون توغل جيوش الحملات داخل نجد. ومن هذه الفرص هزيمة جيش طوسون في وادي الصفراء وعدم تتبع السعوديين لفلول جيش عدوهم فيها، وكذلك الصعوبات الكبيرة التي واجهها ابراهيم باشا في حصاره للرس وكثرة قتلاه فيها وطول مدة حصاره لها. وفي الأخير عدم استغلالهم حريق مستودع الأسلحة لعدوهم أثناء حصار الدرعية كما ذكر من قبل.
* طول مدة حصار الدرعية: الذي استمر ستة شهور وهي مدة طويلة أرهقت المحاربين من أهل الدرعية وغيرهم، وزاد من صعوبة ذلك نقص الطعام داخل الدرعية وارتفاع قيمته ارتفاعا فاحشا، ورغم طول مدة الحصار وما وصل اليه الوضع من سوء فإن الامام عبدالله لم يحاول ان ينجو بنفسه ويغادر عاصمته، ولو فعل ذلك لكان من المحتمل جدا ان يجد مناصرين خارجها يبدأ بهم اعادة الدولة من جديد كما وجد ذلك من بعده، كما ان ذلك يجعل دخول ابراهيم باشا للدرعية ليس في مستوى دخوله وامساكه رأس الدولة عند ابيه وعند السلطان العثماني، وعند الرأي العام أيضا. وتشير بعض المصادر الى انه أشير على الامام عبدالله بترك الدرعية حتى لا يقع في يد أعدائه ولكنه رفض ذلك سواء قبل حصار الدرعية أو في اثنائها، ويعلق الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن على ذلك بقوله:«فلو شاء القدر لم يظفر به عدوه.. ولو قدر غير ذلك لكان». ولعل الامام عبدالله رأى في هروبه من الدرعية عارا تهون دونه أية مصيبة فانتصرت عوامل الشجاعة في نفسه على ما كانت تحتمه الجوانب السياسية الذكية والرأي السليم».
* وأخيرا. العامل النفسي بالنسبة للامام عبدالله واتباعه، فلاشك ان توالي الهزائم عليهم أضعف من جرأتهم على عدوهم وزاد من تكالب عدوهم عليهم، وثبطت عزائمهم في استغلال كثير من الفرص المتاحة لهم إذ لاشك ان النجاح يقود الى النجاح والهزيمة تثبط العزيمة.
نتائج سقوط الدرعية
لم يكن سقوط الدرعية وبالتالي انهيار الدولة السعودية الأولى بالحدث العادي، بل يمكن القول ان ذلك الحدث يعتبر من أهم الأحداث العالمية في الثلث الأول من القرن الثالث عشر الهجري - التاسع عشر الميلادي. ذلك ان أثره لم يقتصر على المنطقة التي انهارت بها الدولة بل تعداه الى أبعد من ذلك، أو بعبارة أخرى كان له آثار بعيدة المدى في خارج الجزيرة العربية وفي داخلها.
فآثاره خارج الجزيرة العربية تتمثل فيما يأتي:
* أصبح الحجاز تحت سيطرة الدولة العثمانية بدون منازع.
* توالت التهاني بسقوط الدرعية على السلطان العثماني «محمودخان الثاني» من سفراء الدول الأوروبية المعتمدين في استنابول وكان سفير روسيا أول المهنئين.
* ازدياد نفوذ محمد علي وعلو مكانته بعد اسقاطه الدرعية.
* ثبت محمد علي حكمه في مصر فلم يعد السلطان العثماني يجرؤ على أي محاولة لزحزحته عن حكم مصر، بل كانت الفرمانات تتجدد تلقائياً له كل سنة في حكم مصر.
* بدأ محمد علي يتطلع لتنفيذ أحلامه لتأسيس امبراطورية خاصة به، وذلك بالتوسع في بلاد الشام والسودان لولا ان دول أوروبا وقفت في وجهه بمقتضى معاهدة لندن 1256هـ - 1840م التي قصرت حكمه على مصر فقط.
* أما آثار سقوط الدرعية على داخل الجزيرة فقد كانت جد كبيرة، فقد انهارت تلك الدولة التي كانت توحد معظم أجزاء تلك الجزيرة بدولة اسلامية عربية واحدة، وعادت الجزيرة العربية الى التفرق من جديد، وتحطم ما بنته تلك الدولة من ازدهار اقتصادي وما انتجته دعوتها «دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب» من تراث فكري وثقافة اسلامية صافية، ولكن ذلك كان لفترة قليلة معينة فعلى الرغم من سقوط الدولة السعودية الأولى من المفهوم السياسي إلا أنها تركت في بعض المناطق بالجزيرة - وخاصة نجد - مقومات الدولة السعودية الثانية، فقد ظلت أفكار الدعوة السلفية ماثلة أمام الناس وظل المجتمع يكن ولاءه للأسرة السعودية، ومع ذلك فقد بقيت البلاد مجزأة بعد سقوط الدرعية فترة من الزمن غير طويلة.
* فالحجاز عاد الحكم فيه للاشراف باسم السلطان العثماني ومحمد علي، واستمر حكمهم فيه فترة طويلة حتى أدخله الملك عبدالعزيز آل سعود في طاعته عام 1344هـ- 1925م.
* والأحساء عاد لحكم بني خالد مرة أخرى تحت زعامة ماجد بن عريعر. وكان ابراهيم باشا بعد اسقاط الدرعية قد ارسل فرقة عسكرية الى الاحساء بقيادة محمد كاشف الذي صادر جميع ما في بيت المال السعودي في الاحساء من أموال وخيل وأسلحة، كما قام بقتل بعض العلماء والمرشدين، ثم غادر المنطقة عام 1234هـ.
* أما بالنسبة لمنطقة الخليج العربي فإن بريطانيا التي كان يهمها أمر الخليج قد انزعجت من نشاط القواسم في رأس الخيمة ضد سفنها، وحاولت القضاء عليهم في حملة عام 1224هـ - 1810م ففشلت، وكان القواسم من التابعين لحكومة الدرعية ومن المتحمسين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، لذا فقد انتهزت بريطانيا فرصة سقوط الدرعية وغياب الدولة السعودية الأولى الداعمة لقوة القواسم فقامت بحملة كبيرة على القواسم في رأس الخيمة فاستولت عليها وقضت على قوتهم هناك عام 1235هـ-1820م.
* أما أثر سقوط الدرعية في منطقة نجد، فقد كانت نجد أشد بلاد الجزيرة العربية تأثراً بهذا الحدث وما صحبه من آثار سيئة في النواحي الدينية والاقتصادية والسياسية.
* فمن الناحية الدينية يبالغ ابن بشر في وصف ما آلت اليه نجد في هذه الناحية بعد سقوط الدرعية فيذكر أنه انعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتشرت بين الناس المحرمات وترك الصلاة والافطار في شهر رمضان واستعمال أدوات اللهو وسماع الغناء، وغير ذلك، ويبدو ان ابن بشر لا يعني بذلك كل نجد بل البلدان التي على مقربة من الدرعية، كما ان قتل ابراهيم باشا لعدد من العلماء ومعاملة بعضهم معاملة سيئة وهروب بعضهم الآخر اضافة الى تأثير سلوك جيش ابراهيم باشا البعيد عن تأثير الدين به في السكان، كل تلك الأسباب تخفف من غرابة كلام ابن بشر الذي قد يكون فيه بعض المبالغة أيضا خصوصا في حاضرة نجد.
* ومن الناحية الاقتصادية: كان لهذا الحدث آثار اقتصادية سيئة في نجد كلها، خاصة البلاد التي مرت بها حملة ابراهيم باشا، وذلك بما أحدثته من نهب وتدمير لجميع ممتلكات تلك البلدان، واشتد فعلهم ذلك في الدرعية وما حولها، فقد قام ابراهيم باشا بهدم مدينة الدرعية كلها التي سبق ان أعطى الامام عبدالله بن سعود وعداً بالمحافظة عليها وعلى سكانها إلا انه لم يلبث ان جاء أمر والده بهدمها فهدمها.
ولم يكتف بذلك بل انه كثيرا ما يدمر بجيشه مزارع البلد، ويقدر محمد البسام في تاريخه عدد النخيل التي قطعها ابراهيم باشا في الرس ب«50» ألف نخلة وفي الدرعية ب«80» ألف نخلة وفي المدن والقرى النجدية الأخرى ما يقارب ذلك العدد. مما كان له أكبر الأثر في تدمير زراعة البلاد وتجارتها، وزاد من سوء الحالة الضرائب الباهظة التي كثيرا ما يفرضها ابراهيم باشا على السكان، ثم انعدام الأمن وشيوع الخوف حتى كان السفر بين القرية والأخرى محفوفا بالمخاطر كما ذر قرن المجاعة بين السكان حتى اضطروا الى أكل الخشب بعد ان انهار اقتصاد بلادهم بهذه الصورة.
أما من الناحية السياسية: فإن سقوط الدرعية وانهيار الدولة السعودية الأولى قد أصاب وحدة نجد السياسية في الصميم، فبعد ان كانت الدولة السعودية الأولى توحد أجزاءها انفرط عقد هذا التوحيد الى أقصى غاية التفريق، فبرزت ظاهرة الامارات المتعددة المتناحرة، خاصة في البلدان التي حول الدرعية أو القريبة منها، مما كان لذلك أكبر الأثر في التدهور السياسي الذي شهدته نجد حينذاك، كما ان ابراهيم باشا قام بارسال كل من وقعت عليه يده من آل سعود وآل الشيخ الى مصر بعد ان فقدت وقائع الدرعية العديد منهم ويقدرهم ابن بشر بواحد وعشرين رجلا من آل سعود سقطوا قتلى في معركة الدرعية وحدها. أضاف الى ذلك عودة معظم زعماء البلدان السابقين الى بلدانهم ومحاولتهم استرجاع نفوذهم في تلك البلدان.
ثم كان لانسحاب ابراهيم باشا السريع من نجد وبعد تسعة شهور من اسقاط الدرعية دون ان يضع لها نظاما اداريا تسير عليه.. كل تلك العوامل كانت أسباباً مباشرة للتدهور السياسي الذي عاشته البلاد فترة من الزمن حتى قيام الدولة السعودية الثانية.
|