أفرزت الأحداث في أفغانستان بعد الحرب على طالبان تياراً سياسياً جديداً في الشرق، اتضحت معالمه بعد تخلي الحليف الأمريكي عن الوفاء بعهد الشراكة بينه وبين المعارضين من الشمال الأفغاني، والتفرد بالحكم السياسي عن طريق تنصيب شخصية ذات ملامح أفغانية، ولكنها ناصعة البياض من الداخل، وتؤمن تماماً بالتغيير والتطور من خلال التبعية التامة للسيد الأمريكي، وبقبول بمبدأ العمل من بعد عبر سياسية الريموت كونترول..ولم يعد التيار «الكرازاوي» فكراً سرياً يتوارى خلف شعار الليبرالية أو دعوات العولمة، فقد أصبح حقيقة ظاهرة في الفضاء السياسي، وصار له أنصار في المجتمع العربي، ومحافل ومنابر ورموز قادرين على الظهور أمام الجماهير وطرح رؤيتهم الكارازاوية في كيفية التحرير الوطني من طبائع الاستبداد، وخصوصاً بعد التطورات الأخيرة في الخليج، وهذا التيار تتعدد انماطه، وقد تختلف أولوياته من شخصية لأخرى، فهناك من ينتمي إليه كوسيلة تبررها الغاية، بينما يؤمن به آخرون كغاية وخلاص، ويتكون المد الجديد من فعاليات نخبوية ثقافية ودينية وشعبوية وسياسية، فتارة قد يظهر على هيئة طرح إعلامي او ثقافي او فكري، وفي تارة أخرى قد يتجسد في رسالة مؤسسة، أو رؤية فردية خارج مساحات الضوء، وقد يتخذ نماذج أخرى مثل كيانات سياسية او اقتصادية..
ومن المفارقات الغريبة التي بدأنا نشهدها كعلامة على ظهور «البعث» السياسي الجديد، هو الدفاع بجرأة غير معهودة عن ذلك النموذج، عندما يهاجم من تيارات سياسية أخرى، ولعلنا نتذكر ذلك الدفاع المستميت حين لمّح الرئيس عرفات في معرض رده على بعض الصحافيين: «أنه ليس كرازاي افغانستان»!، فهو على حد قوله لم يأت للحكم على عربة عسكرية أمريكية، وحينها اظهر بعض رموز المد السياسي الجديد الاستياء من سخريته وهاجموه، واثنوا على إنجازات النموذج البديل للتيار الإسلامي في افغانستان، فكرازاي حسب وجهة نظرهم ، لم يتوان في السعي الحثيث لخلق اجواء من التعايش والسلام وقبول التعددية وتكريس الديموقراطية في افغانستان.!، في الوقت الذي مارس فيه النظام الإسلامي أبشع أشكال التفرد والاقصاء لمعارضيه من الإسلاميين والوطنيين ورفاق النضال، ولم يمضِ الوقت طويلاً من سخرية عرفات، حتى صارت مطالبته بخلق نموذج كرازاوي في السلطة الفلسطينية ضرورة ملحة لتقدم عملية السلام حسب شروط شارون.. إذا كان هناك بالفعل خطة سلام، لا استسلام.
ويرفض التيار الجديد القراءة السياسية التي تشير الى ان الحرب الحالية ليست إلا غزواً أمريكياً على العراق، وينفي تماماً صحة الطرح الذي يحذر من صقور البنتاغون، على الرغم من ان سيرهم الشخصية، تؤكد تطرفهم الصهيوني، ابتداء من ريتشارد بيرل ومروراً ببول وولفوفيتز ودوغلاس فيث وادوارد لوتواك ودوف زاخم ومارك غروسمان وآري فلييشر وستيف غولدسميث وانتهاء بدونالد رامسفيلد..
ولا يعطي انصاره أي أهمية استراتيجية للتحليلات التي مصدرها دوائر غربية عديدة، تشير الى انهم قدموا للعراق لغرض محدد، وهو خدمة الأهداف المسيحية الصهيونية، وتحقيقاً لحتمية «البعث اليهودي» في اسرائيل، وتمهيداً لبعث الحكم الألفي للمسيح المنتظر في الارض الموعودة، وتصديقاً لنبوة التوراة في عبور احفاد الأسباط العشرة نهر الفرات باتجاه الارض المقدسة.. والعمل من أجل ضمان أمنها بعد تدمير قوى «البعث» العربي او الإسلامي، التي تهدد مبادئها وشعاراتها المشروع اليهودي المقدس.
كما لا يتفق اغلب رموز التيار السياسي الجديد مع مقارنة ما سيحدث في العراق بعد الحرب، بما فعله هتلر بفرنسا بعد الاحتلال النازي، عندما اعلن عن حكومة فيشي العميلة كممثلة للغازي النازي، ولكنهم يرونها حركة في الاتجاه الصحيح، وانضماماً للعالم المتطور، وبركب الحضارة المنتصرة..
ومفهوم الديموقراطية والحرية عند النهج الجديد في السياسية العربية، ضيق تماماً ،لا يقبل مشاركة العروبيين والإسلاميين والوطنيين، وأي فكر او عقيدة ضد مبادئ النظام العالمي الجديد، وهو ما اشار اليه المبشر الامريكي للبعث العربي الكرازاوي الجديد توماس فريدمان، في مقال له نُشر مؤخراً، حذر فيه من تبعات وصول نماذج معادية لأمريكا عن طريق آلية الديموقراطية في العراق بعد الحرب.وعلى المهتمين بنشوء وتطور هذا التيار، ان يتابعوا تفسيرات رموزه المتعددة التي تبرر الغزو الأمريكي للعراق، وتتجاوز حرمة قتل الأبرياء، وكارثية نتائج تحطيم الجسور والمستشفيات ومحطات المياه، وعاقبة الحصار لأكثر من 12 عاماً، وخطورة نشر اليورانيوم المخضب على الأرض العربية، اذا كانت الحرب ومهما كانت مأساوية تبعاتها وسوء نتائجها، ستحقق أمانيهم السياسية بالتخلص من صدام حسين او غيره.. ومن اجل فهم أكثر للتيار الجديد نسبياً، وكي لا نتخذ منه موقفاً سلبياً غير مبرر، يجب علينا ان نحاول فهم فلسفته في تأييد الحرب على العراق، بالرغم من الرفض العالمي لها.
فالبعض ممن يؤمن به كغاية، يجد في فلسفة التاريخ وقدرها المطلق مخرج له لتبرير العدوان، ويلمح في ثنايا خطابه على انعدام الأمل في التغيير او التطور من الداخل، وان الثقافة العربية لم تورث إلا الاستبداد والعنف والاقصاء، ولا تكترث بمعايير التطور، لذا فهو يبشر الشعب العربي بأن الحرب وتغيير الانظمة القمعية بالقوة، ستعودبالنفع عليه مهما شعر المواطن العربي بالذل والمهانة عند مرور القيصر الجديد عبر اراضيه وفوق جثثه، وما عليه إلا ان يغمض عينيه لفترة زمنية لن تطول، ويترك القيادة لرمز كرازاوي، وسيصل حتماً الى بر الأمان وستتحقق العدالة وسيحصل على حق المساواة وسيجد مساحة الحرية وفرص العمل المتكافئة وستظهر نتائج الحلول السحرية للبطالة..
بينما يذهب آخرون ممن يمتطيه كوسيلة، الى ان الحرب الحالية ضد دكتاتور مستبد، لا يؤمن جانبه، ولا يعترف بحقوق شعبه الإنسانية، ولم يحافظ على ثرواته كما يجب، وشرّد شعبه، ولم يتوقف عن الاعتداء عن جيرانه منذ ثلاثة عقود، وان الشعب العراقي في واقع الأمر ضحية لتبديد فئة غير شرعية لثروة الأرض، والدليل على ذلك، الفقر المدقع الذي يعيش فيه الشعب العراقي بسبب فساد النظام، فلا أسف على رحيله مهما كانت النتائج السلبية وحجم الدمار الذي ستخلفه الحرب، ولتبقى سيرته عبرة لمن يعتبر..
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة في لحظة احتفال انصار البعث الجديد بدخول الجيش الأمريكي بغداد وفي ظل الاعلان عن أهدافه وبرامج عمله، التي ترفض شعارات التقاليد العربية الثورية وتقاوم «على طريقتها» حركات الأصول الإسلامية الجهادية، وطبائع الاستبداد الموروثة، وتضيق ذرعاً من حالة الحرب الدائمة منذ خمسة عقود، وتشعر باليأس من أمل حدوث التطور في الانظمة العربية، هو: هل نعادي التيار المتنامي بيننا ببطء ونمنعه قسراً من تحقيق أهدافه ونشر أفكاره، التي يرى فيها الكثير، خيانة لمبادئ الأمة العربية والإسلامية، أم نحاول فهم أسباب بروزه والعمل على معالجة العوامل التي تزيد من قوة تصاعد نفوذه في الشارع العربي..!!
|