توجد الى اليوم اربعة امثلة على الأقل تظل عالقة في تاريخ المجتمعات البشرية المعاصرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفيها اخترقت دول «الفيتو» الشرعية الدولية وضربت عرض الحائط بالنداءات الانسانية التي كانت تشجب اعتسافات تلك القوى لتنفيذ خططها التي تستهدف تعزيز مصالحها.. والامثلة التي اشير الى بعضها تمثلت في احتلال الصين لمقاطعة التبت، واحتلال الاتحاد السوفيتي لافغانستان، واحتلال الولايات المتحدة لفيتنام وبنما، ثم الآن الاحتلال الامريكي للعراق.. اي ان الولايات المتحدة سجلت اختراقات عديدة للشرعية الدولية اكثر من غيرها من الدول العظمى.
وامام الهيمنة العسكرية لدول مثل الولايات المتحدة الامريكية، يقف العالم متفرجاً امام هذا الموقف الذي ادى الى تشرذم الأمم المتحدة وتلاشي شرعيتها وبناء قانون الغاب الذي يأكل الكبير فيه الصغير، وتدوس الاقدام الكبيرة صغار الدول، وتبتلع الحيتان اقزام الاسماك.. هذا هو المشهد الذي افرزته الحرب العراقية.. فهل ينظر العالم اليوم، وخصوصاً دول عظمى مثل فرنسا وروسيا والصين والمانيا وكندا وبعض دول اوربا الغربية بسبب الحرب العراقية الى ضرورة بناء حالة جديدة من نظام عالمي تتصحح فيه المسارات ويستقيم فيه المنطق وتتضح فيه الرؤى ويتحول فيه العالم الى حالة وآفاق من العقلانية، والاتزان، والحكمة..؟ وهل ردة الفعل العالمية التي استنكرت الخروج الامريكي على الاجماع العالمي، يمكن ان تتحول الى جدران جديدة وسياجات حديدية لمنع تكرار حالات الاعتساف اللاشرعي للمستضعفين على هذه الارض..؟
ثم ماذا عن العالم العربي؟
لقد تسببت قوى عربية، وتحديداً نظام صدام حسين لمرتين متتاليتين، في تهيئة الظروف وتجلية المواقف الدولية، لوصول «وتوصيل» قوى دولية خارجية الى ارض المنطقة، وبالتالي تهيئة الفرصة لاختراق الصف العربي وتعرية المصالح العربية، وبعثرة الاوراق الاقليمية للمنطقة.. وفوق كل شيء تهميش القضايا المصيرية للأمة العربية والاسلامية.. وتسبب حرب الخليج الثالثة التي مازلنا نعيش تداعياتها الساخنة الى اختراق قوى عالمية للأجندة والمواقف العربية المشتركة.. وفرض تحديات جديدة في مواجهة منطقتنا وقضايانا ومواطنينا.. ولقد استطاعت الولايات المتحدة الامريكية بتحركها نحو العراق ان تهز الكيان العربي الكبير وتكرس انقسامات داخل البنية العربية.. وعلى الرغم من وقوف معظم الحكومات والشعوب العربية جنباً الى جنب ضد الحرب وهذا في حد ذاته نجاح، الا ان هذه الوقفة لم تتمكن من الحيلولة دون وقف الحرب ومنع المواجهة.. ولهذا فيمكن القول بان النظام العربي قد خسر الكثير بنشوب هذه الحرب.. وسيخسر اكثر بتداعيات ما بعد هذه الحرب..
مالعمل؟
في نظري ان الوضع القادم ينقسم الى مرحلتين «1» مرحلة ما بعد صدام، و«2» مرحلة ما بعد العراق.. فمرحلة ما بعد صدام نعدها مرحلة في الشأن العراقي الداخلي، ومرحلة ما بعد العراق، هي مرحلة اقليمية مرتبطة بكل الدول العربية.. وربما يتعدى ذلك الى تعقيدات سياسية على مستوى يفوق حدود منطقة الشرق الاوسط.. وفي اعتقادي ان الدول العربية ينبغي ان تقوم بدور محوري خلال المرحلة الحالية، اي مرحلة ما بعد صدام، تفاديا لمرحلة اخطر، وهي مرحلة ما بعد العراق.. وتحتاج الدول العربية ان تنتقل الى مستوى مختلف من التفكير والفعل والاستراتيجيات.. فلم يعد ممكناً ان تراوح الدول العربية منتظرة ان ترد او تشجب او تعترض على الخطوة القادمة التي ستحدثها الولايات المتحدة في المنطقة.. بل المهم القادم ان تنشأ داخل المنظومة العربية سياسات عربية قائدة لمرحلة من اخطر المراحل التي مرت عليها الامة العربية.. رغم ان الاوقات الحرجة التي تمر بها الأمة العربية اكثر بكثير من الاوقات التي نشعر اننا حققنا نجاحاً او صنعنا انتصاراً، حتى ولو كان ذلك محدوداً..
وقد يكون من المناسب ان يعود الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد الأمين ليعلن عن مبادرته التي كان مزمعاً اعلانها في مؤتمر القمة العربي الاخير.. وليس بالضرورة من خلال منبر القمة العربية التي قد تأتي متأخرة، ولكن من خلال اي مناسبة وطنية او عربية.. وفي اجتهادي الخاص ارى ان من المناسب طرح هذه المبادرة، لمجموعة اسباب، منها:
1- ضرورة ان يتأسس في المنطقة العربية حدث موازي في التغيير لما احدثته الولايات المتحدة في المنطقة، ويكون هو بمثابة اجندة عربية ينشغل بها الرأي العام العربي والدولي.. وليس المقصود هو الانشغال بذاته، ولكن المهم هو ان يحل التفكير بهذه المبادرة المعنية بالاصلاح العربي مكان اجندة تحاول الولايات المتحدة ان تشغل بها العالم العربي، وهي تقتصر على موضوعات امريكية بحتة تستهدف بها تحريك المنطقة وخلخلة استقرارها وامنها.
2- مبادرة الأمير عبدالله ينبغي ان تطلق بعد اجراء اي تعديلات جديدة عليها لمرحلة ما بعد صدام، لتستوعب المستجدات الجديدة في المنطقة.. ولتمثل انطلاقة جديدة نحو تأسيس عمليات اصلاح حقيقية داخلية للدول العربية، وبينية بين الدول العربية، وخارجية مع دول العالم..
3- المبادرة تحتل اهمية خاصة، لأنها من الممكن ان تطلق للعالم العربي مرحلة جديدة من تاريخه، ونحن نعرف ان الاربعة والعشرين عاماً الماضية منذ تولي صدام حسين زمام الامور في العراق اسست لمرحلة انقسام كبيرة في المنطقة، وأوجدت صراعات طويلة، واستدعت قوى عالمية هددت مصالح الامة.. وهذه من المراحل التي استنزفت فيها الأمة العربية كثيراً.. ولهذا فان اطلاق المبادرة لمرحلة ما بعد صدام وبعد انتهاء مرحلة صعبة من المراحل التي مرت بها الأمة العربية، سيكون بمثابة انطلاقة نحو تاريخ جديد، وصفحة نأمل ان تكون مشرقة بإذن الله..
4- يمكن ان تحقق المبادرة توحيداً للصف العربي، وانقاذاً للجامعة العربية عن الاخفاقات التي وصلت اليها من جراء مواقف واحداث شلت من قدرتها واعاقت اي صيغة عمل يمكن ان تقوم بها.. ومن هنا فالمبادرة يمكن ان تكون هي البداية التي ننتظرها لكيان عربي واحد، وتوجهاً شعبياً نحو قضايانا المصيرية..
5- انتزاع الشعوب العربية من حالات الهبوط والاحباط التي عانت منها من جراء الوضع القائم في العراق وفلسطين وافغانستان.. فلربما تتجدد النفسيات، وتتوهج النشاطات في بناء مرحلة عربية جديدة.
6- الاجماع العربي القادم لمرحلة ما بعد صدام ينبغي ان يتوجه بقضه وقضيضه الى إيجاد حل مرضٍ لمشكلة فلسطين.. فلربما لو عكست هذه المبادرة ارتباطها بمبادرة الأمير عبدالله للسلام.. وتصبح كل هذه الدول مع دول عالمية عظمى تدفع جميعها بحل لهذه المشكلة الحقيقية التي تواجه المنطقة..
7- المبادرة قد تستعجل استعادة العراق في نظامه الجديد وتفعيل دوره وتأسيس مكانة محورية له داخل النظام العربي، قبل ان تستشري في هذا النظام مصالح امريكية فاضحة تجعل منه اداة تناهض المصالح العربية لا قدر الله..
رئيس مجلس ادارة الجمعية السعودية للاعلام والاتصال، استاذ الاعلام المساعد بجامعة الملك سعود
|