لقد ضاقت علي صفحات المجلات الغربية لما تصفحتها، حتى ضقت ذرعاً بها، كما ضاق كاتبوها ذرعاً بمسقط رأسي!نعم، لقد أذهلني حقاً اطلاعي على بعض وسائل اعلام الغرب بوسائطها المتعددة وتنوع التزاماتها الفكرية، وقد حفلت هذه الوسائل مجتمعة باهتمام بالغ مبالغ فيه، بأرض الجزيرة العربية، وتتبع أحوال الناس فيها، وكأني بأهلي وبموطني ولسان حالهم يقول: لقد صرنا يا أهل الغرب يتامى فلا نسب لنا إلا التاريخ فادعوا لنا نسباً إليه، ولقد صرنا متخلفين عن ركب حضارة الأمم فامتنوا علينا ببعض من فتات حضاراتكم التي حفلت بها العصور الوسطى، بل وكأننا أضحينا لا ملجأ لنا إلا إليكم، فأملوا علينا ما شئتم - مشفقين علينا - كي لا يتضاءل ذكرنا بين سائر الأمم، ولا تتلاشى حضارتنا في خضم حضاراتهم.
إني وللوهلة الأولى اخذتني الحمية - وقد كدت أحسبها حمية الجاهلية الأولى- بحب الوطن والذب عن القوم، ثم لما تأملت في الاملاءات القاهرة، وتفحصت في الدعوات الماكرة، وجدتها يا للعجب تملي علينا بكرة وأصيلا: طريقة العيش الهنيء، ووسيلة التصرف السوي بما حبانا الله من نعمه، وسبيل التفكير الحر المرْضي، ومناهج التعليم الأكاديمي، بل وكيف نَسُوْسُ نساءنا، ونرفق بهن، ونفتح لهن آفاق الحياة الحرة الكريمة، وقد حددوا لنا مسبقاً - قبل اعمال عقولنا - أسس العيش المقبول، والاقتصاد المأمول، والتفكير الايجابي المسؤول، والتعليم المرجو المعقول، والطريق الأقرب إلى تحرر المرأة عندنا بالانفلات الى المجهول.
أقول: لما أنعمت النظر فيما يدعوننا إليه، وفيما تجرؤوا صفاقة عليه، أدركت عندها أن المقصود ما وراء الأكمة لا الأكمة عينها، وأن ما قامت عليه بلادي هو المعني، وذلك لاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأن الحضارة الفذة هي المستهدفة لا من يمثلها، وأن الحق الذي يمثله موطني هو المقصود من تلك الدعوات، فعرفت إذ ذاك ان حميتي لم تكن حمية جاهلية، وأن حبي لقومي لم يكن حباً لذواتهم، بل: لما يحملونه من ارث فكري مستوحى من رسالة ربانية، هذا وقد خصصت وطني بالذكر لما رأيته من استهداف في سباق محموم للنيل منه بدعوى ارشاده، وتطوع ماكر لصلاحه واصلاحه، وإلا فإن ديار الأمة على امتداد بقاعها هي موطن لي، وما من مؤمن إلا وهو أخ لي، لكن يبقى لمحبة الوطن مزيد تعلق في القلب، وليس ذلك مثلبة في حقي ولا منقصة من قدري، فقد استمالت تلك المحبة قلب من هو خير مني، فها هو بلال بن رباح رضي الله عنه لما قدم المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، راوده حب مكة وملك عليه شغاف قلبه ذكر نباتها وجبالها وسوقها، وكان قد وعك بحمى فإذا أقلع عنه حرها رفع عقيرته ليقول مصرحاً بما يعتلج في صدره من حب مكان استوطنه وألفه:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل تبدون لي شامة وطفيل
|
فلما آلم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا ربه قائلا: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها في الجحفة».
ونحن نقول: اللهم إن مكة حبيبة إلينا، اللهم فاجعل المدينة أحب إلينا، واحفظ اللهم الحرمين وما حولهما من بلاد المسلمين، إليك نشكو بثنا وحزننا ومحاولات تغريبنا عن ديننا وقيمنا ومبادئنا التي ارتضيناها وقام أمر بلادنا عليها.
وقد زعموا ان الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مؤلم وأي اغتراب فوق غربتنا التي أضحت الأعداء فينا تحكم
|
نظرت بعدها متحسراً وراء الأكمة المفترى عليها، فألفيت سهاماً قد تكسرت وتناثرت، لم تصب أهدافها، ولم تنل مبتغاها.
واسمح لي إذ ذاك بالتصريح بأن مجموع تلك السهام قد هدف لتحطيم قلعة الإسلام المنيعة، ودك حصونه، وتشويه جمال مبناه ومعناه.فذاك سهم قد هدف إلى تغيير صورة دين الإسلام في اذهان معتنقيه، من بعد أن نجح -بشكل كبير- في تغييرها بل وتشويهها في أذهان اعدائه، فتوالت مقولات تعتبر الإسلام «أيديولوجية بربرية معادية للغرب» وأنه «أكثر الأخطار المهددة للغرب في السنوات القادمة» ، وهو «أخطر التحديات المواجهة للغرب»، والشواهد على أمثال ذلك من المقولات كثيرة، لا حاجة لنا لتعدادها أو لعزوها لقائليها، «لكن نشير إلى أن ما يجري على أرض الواقع قد يكون أكثر اقناعاً لمن لم يتسن له الاطلاع على تلك المقالات، فالتاريخ المعاصر يشهد بتعرض العالم الإسلامي لمئات الحملات العدوانية بدءاً من العدوان الثلاثي على مصر 1956م، وانتهاء بما نشهده اليوم من محاولة سيطرة شبه تامة على مقدرات الأمة الإسلامية، ومروراً بالعدوان الصربي الحاقد على مسلمي البوسنة والهرسك، ولسنا نغفل عن محاولة معاصرة للدولة الصهيونية للتحالف مع الحبشة لتحويل روافد النيل عن مصر متتبعة في ذلك أثر استيلاء البرتغال السابق على باب المندب، وسيطرتها على الملاحة في البحر الأحمر، وتحالفها مع الحبشة أيضاً للغرض ذاته في القرن السادس عشر الميلادي، ونحن نذكر في التاريخ مؤتمر فيينا 1815م للدول الأوروبية تحت شعار: «تضامنوا ضد القرصنة العربية في المتوسط»، وكان الهدف فيه واضحاً يتمثل في إلغاء الدور البحري العربي ليتمكن الغرب من احكام سيطرته على المتوسط، ولا يغيب عن بالنا كذلك فرض بريطانيا سنة 1843م على مشيخات ساحل عمان معاهدة تحريم أي نشاط عسكري تحت طائلة العقوبة، وذلك لعشر سنوات تالية لتاريخ فرض الحصار، انتهت بمعاهدة عام 1853م، حيث منعت بريطانيا فيها دول هذه المنطقة من اقامة أي علاقة مع أي دولة سوى بريطانيا.، هذا، ناهيك عن اتفاقات المقايضة لبلاد الإسلام، يقايضها الغرب دولة بدولة فتكون دولة مباحة بين الغرب، محرمة على أهلها العرب، ففي العام 1901م نرى فرنسا تقايض ايطاليا بالمغرب مقابل ليبيا، وفي عام 1904م قايضت فرنسا بريطانيا بالمغرب أيضاً مقابل مصر.. وهكذا يتقاسم الغرب قالب الحلوى اللذيذ، حتى يتوج ذلك باتفاق مايك سايكس البريطاني وجورج بيكو الفرنسي في معاهدتهما الشهيرة 1916م، بتقاسم كل القالب العربي، حيث منح يهود الشتات بعدها 1917م - بوعد بلفور الجائر - ارض فلسطين وطناً قومياً لهم»(1)، ولست هنا بصدد سرد تاريخي موثق لتلك الهجمات المتتالية للغرب على الإسلام، إلا أن تواصل هذه المسيرة التاريخية الطويلة اليوم في كافة الميادين وبوجوه متعددة هو الذي حدا بي إلى ذلك.
هذا الواقع التاريخي المتواصل حاضراً هو الذي قد يكون أكثر اقناعاً للبعض - بعداوة الغرب - من تصريحات كثير من وسائل الاعلام الغربية بنعت الإسلام وأهله بنعوت ما أنزل الله بها من سلطان، ومن المستهجن حقاً بعد ذلك اقناع بعض من أبناء جلدتنا وممن التزم نطق الضاد في لغتنا، اقتناعاً تاماً بتلك الأوصاف المشينة للإسلام وأهله!!
إن هذا السهم الذي أطلق مراراً وتكراراً عبر قرون متطاولة وجدته متكسراً خائباً وراء الأكمة، وقد اصطدم - بمواجهة عنيفة وقد تناثرت أشلاؤه - بشهادات موثقة من التاريخ الإنساني تشهد لدين الإسلام وأهله بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالسماحة مع أهل الأديان الأخرى غير المحاربين، علماً أن الفقه الإسلامي قد حفل ب«أحكام أهل الملل» قعد فيه فقهاؤنا قواعد التعامل مع أهل الذمة، وفق ضوابط لا تتخلف، ضمنت للمعاهدين حقوقهم التي عاهدوا عليها، وحجزت المسلمين عن أذيتهم، ما لم يؤذوا أحداً من المسلمين أو يظلموه، كل ذلك كان وفق هدي نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، وقد أرشد أمته قائلاً: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة» «صحيح البخاري»، ومن شواهد تطبيق ذلك كان عهد عمر -رضي الله عنه - لأهل إيليا وتلك الامتيازات المذهلة -والتي كانت زائدة عن حدها المطلوب - وقد منحتها دولة العثمانيين لأهل الغرب، وكذلك ما نراه اليوم من اصرار هيئات بل دول إسلامية على رعاية حوار بين الأديان، ومباركتها تمازجاً بين الثقافات الإنسانية، وتعايشاً منفتحاً بين أهلها، ما هو إلا استمرار لتلك الصورة المشرقة لتاريخ الأمة الإسلامية، مما أسهم ايجاباً باعتناق مئات، بل وآلاف من أهل الغرب الإسلام، وذلك بالرغم من حملات التشويه المتتالية له، ومحاولات التنفير الدؤوب منه في وسائل الإعلام الغربي المتعددة.ولنا أن نتساءل بعدها: هل نجد في قوانين الغرب اليوم ما يماثل ذلك الزجر الأكيد، والوعيد الشديد في حق من تعدى على المعاهدين من أهل الديانات الأخرى؟ هل نجد ذلك عندهم في حق المسلمين، بل هل ثمة ما يقاربه؟! نحن لا نجد تخصيصاً لأهل الإسلام في قوانين الغرب، بل نجد تعميماً لحقوق الإنسان، فإن نزل ذلك القانون واقعاً وجدته وقد تخلف في حق المسلمين، وانضبط بدقة في حق غيرهم، ومن يقوم بذلك التطفيف في الكيل، تراه ينال من الأوسمة أرفعها، ويتبوأ من المناصب أجلها بل ربما وعد ب«صك غفران» يضمن به آخرته!!«ومن شواهد ذلك التطفيف ما شهد به التاريخ الإنساني من لدن مجازر القدس بمقتل سبعين ألفاً من غير المقاتلين من المسلمين سنة 1097م، وتهديد حاكمها باليان - 1187م - بحرقها بمن وبما فيها إذا أصر صلاح الدين على دخولها، إلى حملة نابليون بونابرت على مصر 1798م، والتي كانت بإجماع المؤرخين أكثر الحملات سفكاً للدماء في التاريخ»(2).وإنا نقول لمن يريد املاء رغباته علينا، بارشادنا لما حفل تاريخنا به، كما حفل تاريخه بخلافه: اذكر حكمة الشاعر بقوله:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
|
(1) انظر: موقع الإسلام في صراع الحضارات والنظام العالمي الجديد، أ.محمد السماك، ص 18 24 بتصرف.
(2) المرجع السابق، ص 34 36.
|