الطبقة المتوسطة مفهوم علمي أكاديمي بقدر ما هو مفهوم عملي فله قدر كبير من التداول في الأدبيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واحدى الركائز النظرية لكثير من برامج الحكومات السياسية والاجتماعية وأساس يقاس عليه نجاحاتها واخفاقاتها وأداؤها.
بل ويعتمد جزء من شرعية الدولة الحديثة على مدى قدرتها في إيجاد هذه الطبقة وتوسيع قاعدتها ومن ثم المحافظة عليها والدولة السعودية الحديثة أدركت منذ البدء أهمية هذه الشريحة في المجتمع المدني الحديث، ووعت حقيقة أن الاستقرار والتوازن السياسي والاجتماعي والاقتصادي مقروناً بها إلى حد بعيد، فبدءاً بمشروع الملك فيصل الإصلاحي ذي العشر نقاط المشهور في بداية الثمانينات الهجرية مروراً بجميع خطط التنمية الشاملة للدولة جميعها روافد تصب في تكوين هذه الشريحة الاجتماعية.
ولا جدال بأن توجه الدولة هذا قد نجح.. ونجح كثيراً بدرجة فاقت الكثيرمن التوقعات والتنبؤات.
وهنا مربط الفرس الذي لا شك أن السياسي والاجتماعي يلتقيان لتأمل ما حدث، خاصة في خضم هذه الأحداث المفصلية التي تموج بنا يمنة ويسرة أخذت البعض منا على حين غرة، ولكن العقلاء يجدونها فرصة ليس للاندفاع نحو طروحات وافدة أو مملاة، ولكن للالتفاف إلى مكامن القوة في نفوسنا ومجتمعنا وما حققناه لنستفيد منها في مواجهة الآخر وتقوية الجبهة الوطنية، ومن هنا فإن أي حديث عن الرغبة في المحافظة على تماسك الجبهة الداخلية ينبغي أن ينطلق من منطلقات سياسية واجتماعية واقعية، وليس من طروحات عاطفية ترضي غرور النفس أو تُريحها.
وأزعم أن تماسك الجبهة الداخلية يعتمد إلى حد كبير على مدى قدرة الدولة على المحافظة على هذه الشريحة الاجتماعية العريضة التي نشأت وترعرعت وامتدت بسبب برامج الدولة نفسها ومازالت تقتات عليها، وكانت قوة اجتماعية صلبة واجهت بها الدولة الكثير من الأزمات الداخلية والخارجية وتجاوزتها بسببها، وأجزم أنها اصبحت إحدى الركائز المادية الملموسة والمحسوسة لشرعية النظام لدى قطاع واسع مهم ومؤثر من المجتمع السعودي الحديث.
هذه الطبقة ليست فئة ما يمكن أن يطلق عليها اسم المشاغبون فهؤلاء على الرغم من طلاقة لسانهم وربما انفلاته، وقدرتهم إلى إيصال أصواتهم إلى مواقع القرار السياسي والإداري إلا أنه يمكن القول وربما بيقين علمي مبرر، أن هؤلاء ليسوا السواد الأعظم الذي يشكلون لحمة وسدى التماسك الاجتماعي في المجتمع السعودي، وليسوا من ينبغي للدولة استهدافهم سعياً لتقوية الجبهة الداخلية مهما كانت شدة جلبة أصواتهم فهؤلاء ذوو فكر وتوجه وبرنامج نخبوي يبدو أن الوقت مبكر جداً للالتفات لهم أو لمطالبهم وليس المجتمع مهيأ لتقبل طروحاتهم وأفكارهم ورؤاهم مهما بدت جذّابة لبعض شرائح الداخل أو الرأي العام في الخارج.
الطبقة الوسطى- أو السواد الأعظم- في المجتمع السعودي مختلفة تماماً، هي شريحة صامتة ولكنها عريضة جداً وعلى الدولة أن تهتم بها وأن تحافظة عليها وترعاها وتلبي احتياجاتها ومطالبها.. هي الشريحة التي تشكل نسيجاً اجتماعياً متماسكاً في مختلف مناطق المملكة وتشكل رؤاها قاسماً مقبولاً لأغلب الأطياف الاجتماعية والثقافية والنوعية والعمرية والمذهبية المؤثرة في المجتمع السعودي.
إن المراقب لهذه الشريحة، بحكم عمله أو اهتمامه أو تخصصه لابد أن يلحظ البون الشاسع بين تطلعاتها وآمالها وأحلامها ونظراتها لنفسها ولدورها في الحراك السياسي والاجتماعي وبينما تحاول الشرائح التي تحاول «تنصيب» نفسها ممثلة للطبقة الوسطى وهي في حقيقة الأمر أبعد ما تكون عن هذا التمثيل الصادق والأمين.. علينا التوجس والحذر قليلاً ممن يسوق فكرة أن في مقدمة أولويات الطبقة المتوسطة والعريضة في المجتمع السعودي طروحات مثل المشاركة السياسية، والحريات العامة، وآليات التمثيل السياسي الغربية وحريات الإعلام. الحركة والتجمع، واطلاق العنان للحرية الشخصية في التصرفات والسلوكيات ومعالجة وضع المرأة إلى آخر القائمة التي يتم تداولها عند حلول كل نازلة سياسية أو اجتماعية.
الطبقة الوسطى في المجتمع السعودي ليست كذلك إنهابالوصف البسيط شريحة محافظة سياسياً واجتماعياً وثقافياً وتطلعاتها تتجه إلى أمور مختلفة تماماً وواضحة جداً للحد الذي يستغرب معه عدم قدرة - أو رغبة- «المشاغبين» ملاحظتها وتقمص همومها والاستماع إلى همسها.
إن المواطن السعودي البسيط وهو المكون الأكبر للطبقة الوسطى له «أجندة» مختلفة، إنه يتطلع إلى أمور عملية تسمى في بعض اللغات والثقافات «الخبز والزبدة» فعلى سبيل المثال، يحلم هذا السعودي البسيط بمدرسة لأولاده وبناته قريبة من منزله يلتحقون بها في مختلف المراحل الدراسية دون عناء.. مدرسة فيها يتناسب عدد مقاعد الطلاب مع الأستاذ ومبنى مهيأ للعملية التعليمية والتربوية. يرغب هذا المواطن في المستوصف والمستشفى الذي يمكنه من علاج نفسه وأسرته ووالديه ومن يعول دون انتظار. يريد أن يحصل أولاده على كرسي الجامعة والمعهد والكلية والوحدات التعليمية والتدريبية دون شفاعة. يتطلع بأن يحصل هو وأولاده على فرصة عمل حقيقية تغنيه من ذل الحاجة والسؤال، وتوفر له دخلاً مناسباً لمستوى المعيشة السائد في وطنه، يعيل به أسرته ويشعره بمكانته بين أهله وربعه وفي مجتمعه دون «وساطة قوية» أو شفاعة، أو أن يطلب منه اقتلاع نفسه من وسطه ومحيطه الذي ألفه والنزوح إلى ركن قصي من المملكة وعلى البند أو الساعة والأجور وبرنامج التشغيل.
يتمنى مجرد الطريق المعبد والحديقة العامة وعمود الكهرباء وحاوية للنظافة وأنبوب الماء المحلى المعقم، وشبكة طرق ومواصلات سريعة ومجانية تيسر عليه صلة الرحم في اجازة نهاية الاسبوع دون خوف من أن الدولة يوماً ما سوف تسدد دينها الداخلي أو عجز ميزانتيها من رسم يفرض على الطريق بفعل نصيحة من «مستشار» قدمها ليتقرب بها زلفى لدى صاحب نفوذ.
هو ذلك الإنسان البسيط الذي يعتقد في قرارة نفسه أن «الحكومة ما قصرت» .. لأنها تقدم القروض الحسنة والميسرة ويستطيع بإجراءات ميسرة الحصول منها على منحة الأرض ثم القرض من بنك التنمية العقاري، دون أن يقال له سيأتي دورك بعد ردح من الزمن. هو المواطن «العادي» الذي يدعو للحكومة مطمئناً أن نسبة التضخم وبلغة أبسط الغلاء، لن تلتهم الراتب في الساعات الأولى لتسلمه، واثقاً أن أسعار «الارزاق» تحت السيطرة، وأن رسوم خدمات الماء والكهرباء وغيرها من الخدمات العامة التي يحتاجها هي فعلاً رسوم وليست بحكم الضريبة.
هذه هي الطبقة الوسطى لدينا وعنصر التوازن في المجتمع السعودي وهذا هو المشهد العام لتطلعاتها وبرنامجها السياسي والاجتماعي، لو أن هذا البرنامج تبنته أية حكومة في العالم فلربما فازت بنسبة «9 ،99%» دون الحاجة إلى صندوق اقتراع.
لذا ينبغي للدولة أن تحرص على برنامج هذه الطبقة الصامتة والعريضة والمؤثرة وتعمل على حمايتها من التآكل بأي ثمن، أما البقية فهم نافلة ومشروع مؤجل مهما قال المشاغبون .. حافظوا على الطبقة الوسطى.
|