Friday 11th april,2003 11152العدد الجمعة 9 ,صفر 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الفكر العربي الحديث (3) الفكر العربي الحديث (3)
المعنى والتاريخ في إدراك التحول
د. إسماعيل نوري الربيعي/أكاديمي وباحث متخصص في شؤون تاريخ الفكر العربي الحديث

محاولات الاستقراء
علاقة التحديد التي يتم فيها إخضاع التاريخ إلى هذا المكوّن الثابت الذي ظهر في فترة سابقة، إن كان على مستوى الشكل أو المضمون وحتى طريقة التصوّر القديم. إنه الاستغراق في هذا النقل شديد الانتقائية، والذي يتم عن طريقة ممارسة القسر والإيغال في تحديد الموجهات التي يجب أن يخضع لها المجتمع. وتحت مجال الرؤية الجاهزة يكون النزوع نحو تقنين الجهد البشري بكل ما يتعلق بالإنجاز والممارسة على صعيد الواقع، من خلال تكريس عامل النقل لكامل التراث وإسباغ رؤاه على التاريخ. حتى لتكون الأداة والوسيلة الداعمة للموقف بازاء التيارات والاتجاهات المناوئة. حيث قوام الاختلاف الذي يجعل من الأفكار مجرد وسائل خالية من القيمة التاريخية التي تحاول ادعاءها. ولعل أسباب هذا الادعاء تقوم على طريقة الإثبات، التي يكون الاستناد فيها إلى هذه الإجراءات المتعلقة، بمحاولات الإلغاء والإقصاء للآخر، واعتبار الحقيقة ملكا خاصا غير قابل للمشاركة أو المناصفة.
الطريقة الخاصة التي يتعامل بها فريق أو جماعة بشرية بما تملك من تراث، تجعل من محاولات الاستقراء الأخرى مجرد تهويمات زائدة خالية من القيمة المعرفية. بل قد تصل ردة الفعل إلى مجال التشكيك واتهام الطرف الآخر بقلة البضاعة العلمية. ولعل الأعراض التي تفرض بقسماتها على واقع الرؤى المتصلبة تكون من التحجر بمكان، إلى حد الانكماش في داخلها المغلق الذي يضيق بأي نقطة التحام، يمكن أن يكون بمثابة التهديد لمواقعه التي تحصّل عليها، حتى صارت تقترب من المقدّسات التي لا تقبل المساس بها.
افتقاد المرونة في طريقة استقراء التاريخ، وغياب المبحث النقدي الخارج عن نطاق الأطر المعرفية الجاهزة والراسخة، يجعل من عملية الوعي بالتاريخ مسألة شديدة التعقيد، خصوصا بما يتعلق بنقل المعرفة الجاهزة من سياقها الزمني، والعمل على جعلها مندمجة في تفاعلات ثقافية واجتماعية شديدة الاختلاف. لا سيما في ما يتعلق بتلك الآليات التي تفرضها طريقة التفاعل المباشر مع الوقائع والأحداث. إن كان على مستوى نقل الحدث شفاهة أم كتابة، أو طريقة التفاعل مع الأبعاد القائمة في الحدث على مستوى التمثل والوعي فيه، وتلمس مدى الرموز والمعاني الكامنة فيه. وطريقة التداول الاجتماعي وتأثيرها في المخيال الاجتماعي. من حيث التهويل والمبالغة التي قد يتم إلصاقها بحدث أو شخصية، خصوصا وإن المؤثرات التي تفرزها كل مرحلة تكون لها مقايساتها الخاصة ورؤاها المرتبطة بطبيعة الممارسات السائدة، والوظائف الخاصة للمعاني خلال كل حقبة تاريخية خاصة.
طبيعة الممارسات
يلعب الإسقاط دورا شديد الأثر في تشويه صور الوعي بالتاريخ. ومن هنا تبرز أهمية البحث في التفاصيل التي عملت على تحديد تلك الوجهة والغاية للفعل الإنساني الذي منح الحدث روحه ودفقه وبث الحياة فيه. وعند قراءة تفاعلات أي مجتمع أو أمة، لا بد من إبراز مجالات التأثير التي عملت وحفزت بداخلها، حتى قيّض لها إبراز مقومات التفكير، والذي لا يمكن وتحت أي ظرف أو حال أن يكون واحدا. فالفكر ما هو إلاّ انعكاس شديد المباشرة لواقع العلاقات السائدة في فترة زمنية لها مواصفاتها وسياقاتها ووظائف المعاني التي تنتشر في داخلها.
من المهم بمكان الالتفات إلى طبيعة التفاعل الذي تفرزه المجتمعات، حيث تبدو الأهمية المتعلقة بطبيعة الممارسات والعمليات التي تندرج في مسارات الثقافة والواقع. مع قيمة ما تفرزه طبيعة الاستقبال للمعاني التي يتم تداولها داخل النطاق الاجتماعي. فالأفكار التي يتم طرحها داخل النطاق الاجتماعي لن تحصل على القيمة المفترضة فيها، من دون أن يكون لها ذلك التأثير الذي تُسبغه عليها الجماعة الاجتماعية، التي تكون بمثابة المتلقي الذي يشارك في تخليق المعنى وتوسيعه ومنحه المدركات المقبولة. ومن هذا الإنجاز الذي لا يمكن التغاضي عنه، تبرز طبيعة الاستمرار في تداول المعنى، والتي يمكن أن تعمل على تحميله بالإضافات أو القوة أو التركيز، حتى ليغدو جزءا أصيلا من مكونات الثقافة الخاصة لأي مجتمع.
الولوج في عالم المعاني التي يدرجها التاريخ في المضمون الاجتماعي، يتخذ أبعادا وتشكيلات شديدة التنوع والاختلاف. إلاّ أن الاستقراء العلمي الصارم يمكن أن يؤشر إلى البعض من ملامح إمكانية الملاحظة المستندة إلى الوقوف على السلسلة المرتبطة بالأصل الزمني للأحداث والنصوص. ومن هذه الفاصلة التي تكون شديدة الحضور بين المراقب الخارجي والجمهور الواقع تحت إسار المعنى المتداول، تبدأ مدركات الفرز الذي يمكن أن يحدد مكامن الاختلاط والتداخل بكل هذا الإرث الثابت والمستمكن من المعاني الثابتة. لكنها تبقى فسحة لدى طرف أو جهة، يمكن تبيّنها واستجلاء بعض ملامح الثراء القائم فيها. وبقدر ما يحمل الإرث التاريخي من أباطيل ومبالغات وخيالات وأساطير، فإنه يبقى الذاكرة الاجتماعية التي تحدد مدارج الاذكارات والاتمامات المتعلقة بالقيم والمعايير التي ترسم والى حدّ بعيد ملامح الهوية الثقافية ومكونات الدوافع الآيديولوجية، من حيث التّقبل أو الرفض، الاقتراب أو البعد. ومن هنا تحديدا يكون التاريخ وقد اقترب من طريقة فهم المجتمعات.
التعبير عن الواقع
البحث عن التفسير هو ما يعّد الفكرة الأصل المتعلقة بهذا التعالق الذي يفرض حضوره بين مجتمع ما وامكانية استجابته لنمط محدد من الأفكار والرؤى والتصورات. وعلى الرغم من دور الوسيط الذي يؤدي دور الناقل للأفكار، إلاّ أن الأهمية تبقى متركزة في هذا الجانب الأصلي، والذي يمكن ترصده في طبيعة الاستجابة الصادرة عن المجتمع، ومدى قوتها وقدرتها على تمثل المعاني الكامنة فيها. وبمجرد التفاعل مع المضمون الذي تقدمه الأفكار، يكون منطلق البدء في هذا الكم من الانحرافات التي يتم إقحامها على المعنى، والتي لا تتوقف عند مجال تفعيل الخيال في مجال الأدب والعاب البلاغة، بل يكون التسلل داخل نطاق الأفكار الفاعلة في صلب الحياة.
تجتهد الكثير من الاتجاهات الفكرية في ربط أصولها ومرجعياتها بمصادر تراثية تحظى بالقوة والأهمية. ومن هنا يبرز مجال الانتساب الى المرجعيات المستمدة من الأصول المقدسة أو الانتماء إلى قوة تحظى بالإجلال والتقدير والاحترام. لكن تفصيلات الواقع المباشر سرعان ما يفصح عن هذا التقاطع بين الادعاء وطبيعة التطبيق على المجالات الاقتصادية والثقافية، حتى ليكون من العسير الفصل بين هذه الحالة التي يبقى مكانها قابعا في الخلف، في حين أن مجريات المباشرة وأحداثها، تكون معّبرا عن واقع الغايات والمرامي التي تعن على الحاضر. ولا يقف الأمر على الاتجاهات والتيارات الفكرية، بل أن هذا التطلع يكون صادرا من هيئات ومؤسسات وحكومات، تحاول من خلال هذا التعكز على التاريخ أن تحصل على الخطوة والمكانة الرفيعة، التي توفرها شرعية الحضور.
لقد أوقفت العديد من الايديولوجيات الرسمية جهودها نحو ترصين حضورها ومواقعها في الحيز الاجتماعي، من خلال محاولة تدّبر وسائل الإلغاء والرفض لبعض التيارات والاتجاهات الفكرية المناوئة. إلاّ أن الملفت في الأمر يقوم على وجود بعض ملامح الرغبة في عدم نهاية تلك التيارات، خصوصا إذا كان الاقتراب من ذات المحاور الفكرية. ولعل هذا التناقض والتداخل في منطلقات العلاقة بين الرسمي والمعارض السري، يكشف عنه طبيعة التداول الفكري القائم في المجتمع العربي. والذي أوضحت عنه العديد من التجارب الرسمية، لا سيما في مجال الفكر القومي الذي اقترب من الحركات الإسلامية في العديد من المنطلقات الفكرية، على الرغم من حدة العداء القائم بينهما حول الأصول الفكرية والمستندة إلى التقاطع بين العلماني والإيماني.
التحويل الوظيفي
يكشف واقع التمثل للأفكار عن طبيعة الابتعاد والاقتراب من المضمون الأصلي. فالتحويل الذي تعمد إليه بعض الاتجاهات وبانتماءاتها المختلفة في داخل التراث وتحويله من وظيفته الأصلية المستندة إلى تثبيت معالم الهوية والتجليات الأخلاقية للشخصية التاريخية، إلى تفعيل من التحزّب والانتماءات الفرعية والتطّلع إلى توجيه اسهم التقاطع والتوزيعات داخل المجتمع الواحد، تكون بمثابة القطيعة التاريخية مع الأصول.
كيف يمكن الوقوف على أشكال التحويل التي تجنح إليها بعض الحركات الفكرية، في صلب مضمون التراث المعرفي والفكري. وكيف يتسنى الوقوف على ملمح التقاطع مع الواقع، إذا كانت المحاولات تترى للحضور على صعيد الواقع الموضوعي، حيث الحضور والفاعلية التي تجسدها من خلال التأثير على الجمهور وإمكانية حشد الاتباع، وجعلها جاهزة للمنافحة والدفاع عن هذا التيار دونا عن غيره، واعتباره أصلا من الأصول، لا يمكن التغاضي عنه أو تجاوز الآثار الناجمة عنه.
الوعي بالحداثة يستغرق المزيد من الجهود، لفرز المضامين التي تقدمها والتأثيرات المباشرة التي تحدثها في صلب الواقع. وبالوقوف على البدايات يكون الفرز في كم الحداثة. فالأفكار الكبرى عبرت عن هذا التمثل الذي يعمد إلى تقويض القديم ويعمل على هز مرتكزاته. إلا أن هذه البدايات ومن خلال وقوعها في دائرة التأثير الزمني تتحول إلى تراث هي الأخرى، لا سيما في مجال التداول الفكري. لكن التوقف عند مجال الحداثة لا يعني أن الأمر يتعلق ببعد أحادى تقوم عليه، فالواقع يفرز ما بين حداثة مرنة وأخرى متصلبة. ولعل هذا التنويع الذي تظهر عليه، يكون بمثابة حافز الحيوية الكامن فيها.
وإذا ما كانت متصلبة على الصعيد الروحي والثقافي، فإن الجانب المادي فيها يكشف عن آليات للاستقبال الواسعة من لدن المجتمعات المختلفة. ولا يقف الأمر عند المدركات التي قدمتها الحضارة التكنولوجية أو المعلوماتية، حيث التفاعل الواسع والهائل إلى الحد الذي بات الاعتقاد السائد يقوم على تغييب ملامح الخصوصيات وانتفاء أهمية الهوية الثقافية، واعتبارها جزءاً من الماضي. بل يعود واقع التفعيل المادي إلي جذور تاريخية موغلة في القدم. وهذا ما يكشف عنه واقع التقليد المباشر الذي ينهجه الإنسان للإفادة من تدجين الجمل أو الحصان في ألوف السنوات ما قبل الميلاد. فيما يكون النهل المباشر عادة بشرية شديدة القدم في مجال تقليد الأزياء والأسلحة وعادات الاستهلاك.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved