عز الأمن والأمان.. وعاثت عصابات النهب والسلب في الأرض فساداً، ولم يسلم حتى ضيوف الرحمن من شذاذ الآفاق، وتصارعت القبائل لأوهى الأسباب، وانتشرت البدع والخرافات، وشحت الأنفس والأرزاق، وضربت الفوضى جذورها في أطناب البلاد، ذلك هو المشهد قبل نصف ومائة عام حين خرج الإمام المصلح الملك عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله- مجاهداً لتغيير الواقع المؤلم المر، وتوحيدالارجاء الواهية بالفقر والمرض والجهل والشتات، والعودة بالوطن والإنسان إلى جادة الرشد والصواب.
ورغم انه القائل «لست من المحبين للحرب وشرورها، وليس أحب إلي من السلم والتفرغ للإصلاح»، فقد وجد نفسه - أحياناً- مضطراً إلى امتطاء آلة الحرب لأداء رسالته في توحيد البلاد على توحيد رب العباد، وبناء دستورها على شرعه الحنيف دون سواه والحرب كما يقول الشاعر شريعة إذا كانت في حق
وهي من السموم الناقعات دواء
ولقد خاضت رايات عبدالعزيز نيفا ومائة معركة ضد رايات الباطل والضلال، وناله فيها من الأذى ما ناله، حتى إنهم وجدوا- عند وفاته- عشرات من الندب وآثار الجروح على جسده، ذلك أنه كان بطلا مغواراً يتصدر القافلة ويبلي البلاء الحسن، وكان لديه من الصبر على احتمال المكاره ما يجعله يتحمل إخراج الرصاص من جسده وخياطة جروحه دونما تخدير بالبنج كما هي العادة.
واذا نظرنا إلى المقومات المادية التي انطلق بها عبدالعزيز لإنجاز هذا الفتح العظيم الذي أسس واحدا من اكبر الكيانات العربية المؤثرة دولياً، نجدها لا تعدو اربعين رجلاً وثلاثين بندقية قديمة، ومائتي ريال.
والسؤال: كيف واجه بهذا العدد الشديد التواضع، والعتاد الذي لا يكاد يذكر كل القوة في نجد والخليج ومصالح دول الخلافة البائدة والأوربيين والروس، وانتصر عليها جميعاً؟!
الراجح أن الرجل لم يخرج إلى هذه المهمة الجليلة بذاك القلب الجسور من أجل غرض شخصي دنيوي، ذلك أن واحدا من الثقات المقربين حكى أنه سمعه في الهزيع الأخير من الليل يدعو أمام الكعبة ربه قائلاً: «اللهم إن كان في هذا الملك خير لي وللمسلمين فأبقه لي ولأولادي وإن كان فيه شر لي وللمسلمين فانزعه مني ومن أولادي»، لقد كان إذن على يقين بأنه يؤدي واجباً - ملزماً- لتخليص البلاد والعباد من ما آل إليه الحال على نحو ما تقدم.والأهم من ذلك أنه كان قد كشف سر هذا السلاح الخطير الذي لا يقهر وفي ذلك يقول: «إنك إن أعددت آلة واحدة من آلات الحرب، ربما أعد لك عدوك مئات وألوفا، ولكن قوة واحدة اذا أعددتها لا يمكن لعدوك أن يأتي بمثلها وهي الإيمان بالله والثقة به. إنها القوة التي لا قبل لأحد بها».
هذه واحدة من صفحات تاريخنا المجيد، لنا فيها عظة وعبرة، وما أحوجنا اليوم لأن نقلب تلك الصفحات وأن نعيد قراءتها من جديد لنكتشف - وسط دوامات العتمة- معالم الطريق! .
|