من الطبيعي أنه قد لازمك خلال الأحداث الجارية نوع من الانقباض النفسي الغريب عليك، فقد تكون قد لاحظت (على نفسك) التأرجح السريع والفجائي بين نشوات الفرح ووخزات الحزن. والأمر كما قلت لك استهلال طبيعي حيث إنك لست في ذلك لوحدك فالجميع في ذلك الاحساس سواء ويكفيك من العزاء حقيقة كونك تعرف على الأقل مصادر وجذور قلقك، الأمر الذي وقاك ويقيك بإذن الله من مخاطر تعرجات التساؤلات الذاتية الخطيرة من قبيل (ما أدري وش فيني..؟!). ولهذا السبب يبدو صائغ المثل العربي القديم القائل نصه: «اذا عرف السبب بطل العجب».. يبدو وكأنه يتنفس الصعداء بمعرفة السبب ويحمد الله على السلامة ببطلان العجب.
مرة أخرى لست الوحيد الذي تداهمه هذه الأحاسيس الناجمة عن الحرب القائمة لحظتنا هذه، فالحروب كما تعلم ليست إلا ظواهر إنسانية تختلط عواملها وتتشابك أسبابها وتمتزج متغيراتها الكيفية بالكمي منها وبسبب ذلك تتوغل تأثيراتها النفسية الى أعماق النفس وكوامن المشاعر. ان حقيقة تمحور الحروب حول موضوعي الموت أو البقاء يثير في كيان الانسان لديك السؤال الغريزي/ البدائي الانساني رغم ذلك وأعني به سؤال الموت القابع في أعماق اللا شعور منك، وهذا هو في الحقيقة مصدر قلقك الحقيقي سيان أعلمت بذلك أم جهلته. بمعنى أوضح إن ما تشعر به هو نوع من القلق الذي يصاحب اندلاع الحروب والكوارث، وقد بحث في ذلك العديد من العلماء منذ عقود طويلة وعلى وجه التحديد منذ اوائل القرن العشرين الميلادي الفارط، وقد أطلق بعض العلماء على هذه الظاهرة النفسية اسم «الكدر الذهني» مما تثيره الحروب ويشعر به غير المحاربين وهو شعور وقتي سرعان ما يزول بمجرد زوال أسبابه، إذن بادر بتسجيل هذه الحقيقة في سبورة قناعتك فالوقتي مصيره الزوال وبزواله سوف ينكشف بإذنه تعالى ماهمك وغمك ولا سيما حين تأخذ في حسبانك حقيقة أن تصديق الأوهام دعوة للهموم، أو كما قالت العرب تمثلا «الهمُّ ما دعوتُه أجاب» بمعنى ان للحزن جاهزية لتقبل دعوة داعيه.
عذراً عزيزي القارئ ان توشحت هذه المقالة بأردية المباشرة والتقريرية بل استميحك عذرا آخر لكوني سوف أعمد الى اجمال ما اردت ايصاله اليك في هيئة نقاط مختزلة كالتالي:
** لا جدال في ان للحروب وطأة نفسية وقد تكون شديدة وثقيلة على النفس غير ان القليل من الوعي بحقيقة كونها (مؤقتة) كفيل بتحويل تأثيراتها السلبية الى ايجابية: فالقلق قد يدفع بالفرد الى الهرب المؤقت من الحقيقة ولو بتبني نوع من أحلام اليقظة وما يعرف بالتفكير الاستهوائي، وهذا بحد ذاته مصدر تنفيسي يحمينا بإذنه تعالى من مخاطر السقوط صرعى في براثن ما سماه العلماء (الكمد العاطفي) الذي هو النتيجة الحتمية فيما لو عدمنا الوسيلة النفسية للهرب نفسياً مما لاقدرة لنا عليه.
** الحروب لا شك تنجم عن نوازع انسانية بحتة ومع انها دوافع شريرة وعدوانية، فالعلم حتى الآن مع شديد الأسف غير قادر على تحييدها، ومن المعلوم ان جوهر الطبيعة الانسانية بدائي/عدواني، فالانسان مهما كان متحضراً يمتلك كل قدرات النكوص الى غرائزه الأولية أي بدائيته المتوحشة.
** قد يضايقك شعورك بالتأرجح بين ما يجب ان يكون إنسانيا وأخلاقيا وما هو كائن فعلا على أرض الواقع، ولك كل العذر في شعورك هذا غير انه يجب عليك أن تتذكر كم من المرات التي شعرت فيها (أنت) بالحب لا متناهي والمرات التي احسست فيها بالكراهية الشديدة اذن فكما اجتمع المتناقضان في ذاتك الفردية فقد يجتمعان أيضا في ذوات الدول وللدول ذوات.
** حاول ما استطعت التقليل من كميات مشاهدة التلفاز، وفي حال اردت الاطلاع عليك بالاكتفاء بقراءة الصحف وذلك لكي تتفادى التأثيرات النفسية التي تنجم حين تنقل صور الأحداث حية ومباشرة، وغني عن القول انه يتوجب عليك بذل غاية جهدك للحيلولة دون أن يشاهد أطفالك مشاهد هذه الحرب، وعليك كذلك ألا تناقش تفاصيل أحداثها بحضور طفلك مهما اعتقدت انه لحظتها عن حديثك غافل، علاوة على ضرورة ان تتذكر ان لكبار السن ظروفاً نفسية خاصة بهم مما يجعل من مشاعرهم أكثر رهافة ويجعلهم من ثم عرضة للحزن والقلق والاكتئاب.
** في خضم مايدور الآن في أفقك من أحداث يجب الحذر من منْح السلبيات شرف الدفع بك الى اغفال ما لديك من إيجابيات.. نعم ان لديك منها بفضل الله الكثير الكثير ويكفيك اطمئنانا انك في هذا البلد المطمئن تمتلك ما جعل الشاعر العربي القديم يعلن اعترافه بسرمدية أهميتها حيث قال:
ثلاثة ليس لها نهاية
الأمنُ والصحة والكفاية
وبتحليل بسيط لهذه المرتكزات الثلاثة فأنت ولله الحمد تنعم بالأمن وتتمتع بالصحة وبحوزتك من القوات أكثر من الكفاية، فعليك ألا تمنح نفسك اللوامة فرصة تهجير نفسك المطمئنة من كيانك، وقبل كل شيء تذكر نعمة انك مسلم، بل دعني أقول «ابتسم فأنت مسلم».. انك موعود بما هو أغلى وأبقى من هذه الدنيا الفانية، وما عليك إلا الدعاء تضرعا الى مجيب الدعوات، وحقا فالدعاء أحصن حصن وأفعل سلاح بل انه قنبلة القنابل ما اخترعه الانسان منها ومالم يخترع..
|