دخل الأب إلى المنزل فوجد ابنه منهمكاً في النظر إلى صفحة من جريدة «أمامه، وسلَّم الأب على عادته بصوتٍ مرتفع ولكنَّ الابن لم يرفع رأسه، ولم ينطلق إلى أبيه كعادته ليعانقه، إنها حالة غريبة على الأب أثارت اهتمامه، فتوجه إلى حيث يجلس طفله الصغير، وجلس بجواره، والطفل مستغرق في النظر إلى صفحة الجريدة، وضع الأب راحة يده على رأس صغيره وقال: لماذا لم ترد السلام يا أحمد؟ والتفت الصغير إلى أبيه بعينين دامعتين، أثارت بدموعهما دهشة الأب، وقفز الصغير إلى حضن أبيه وأخذ ينتحب، ونظر الأب إلى الجريدة فإذا به يرى صورة مكبَّرة لوجه طفل عراقي صغير مخضَّب بالدماء، إنها صورةٌ مبكية حقاً، كان وجه الابن مدفوناً في صدر أبيه، وبكاؤه لا ينقطع، ولم يتمالك الأب دموعَه، لقد كان الحزن أكبر من احتماله فأخذ يبكي كطفله، وبكت الأم والأبناء الآخرون حينما رأوا ذلك المشهد، لم يكن الأب راضياً عن هذه الحالة التي يظهر فيها أمام أهله، فهو معروف بالتجلُّد، والصَّبر، وعدم البكاء إلا في حالاتٍ نادرة.
لا عليك أيها الأب الحزين، فإنك الآن تعيش في احدى تلك الحالات النادرة. ألستَ ترى في صفحة الجريدة صورة طفل عراقي بريءٍ تثير الحزن؟ ألست ترى وجهه الطفولي مخضَّباً بالدماء؟ ألست في هذه اللحظة تضمُّ إلى صدرك ابنك الصغير الذي عجزت مقدرة براءته وطفولته أن تحتمل منظر طفل صغيرٍ في مثل سنه، وقد بدت عليه آثار همجيَّة الغرب؟!، إنها من الحالات النادرة البائسة فلا تثريب عليك، وليس بكاؤك هذا ضعفاً يمكن أن يُعاب عند أهلك الذين عهدوك جَلْداً صبوراً قوياً.
بعد أن هدأ حال الأسرة، جلس الأب مع طفله الصغير الحزين، يحاول أنْ يهدِّىء من رَوعه، وأنّ يهوِّن عليه الأمر حتى تَهْدَأ نفسه البريئة، ويطمئن قلبُه الصغير، وحاول أنْ يصرفه عن الموضوع بأحاديث شتَّى عن الألعاب التي يحبّها، والأطفال الذين يحبّ ذكرهم من الأقارب، ولكنّ الطفل لم يكن مهيَّئاً لشيء من ذلك، وكيف يلتفت إلى الحديث مع أبيه عن الألعاب ورأسه الصغيرة مشحونَةٌ بأسئلةٍ كثيرة يريد أن يستمع إلى إجاباتٍ شافية عنها؟، إنها أسئلة الطفل الذكيٌ الحزين التي أطلقها مطراً من سهام على أبيه:
أبي، لماذا هذه الحرب في العراق؟، ولماذا يقتلون الأطفال والنساء، ولماذا يهدمون البيوت؟، ولماذا يشعلون النيران؟ ولماذا لم تهزمهم العراق؟ أليست دولة عربية مسلمة؟ والعرب كما أخبرتنا أقوياء، والمسلمون يحبون الجهاد في سبيل الله والقتال للأعداء؟ لماذا لا ندافع عن الأطفال؟ أين العرب كلهم يا أبي؟
لماذا يسكتون أمام هذا الظلم والإجرام؟ إنَّ الأطفال مساكين يا أبي ، فلماذا يقتلونهم؟ لماذا لا يتضارب الكبار مع الكبار ويتركوا الصغار؟ لماذا جاء هؤلاء بطائراتهم وصواريخهم؟ أليس لديهم أطفال مثلنا يخافون عليهم ويحبونهم؟
مسكين يا أبي هذا الطفل العراقي الذي تغطي الدِّماء وجهه، أليس كذلك؟، هل هو مجرم يا أبي استحق ما حدث له؟ تحدَّث يا أبي ما لي أراك صامتاً؟؟.
اسئلةٌ كالسهام أطلقها الصغير كان وقعها فوق احتمال الصَّبر، أسئلة بريئة غير متكلَّفة لكنها مهمة جدَّاً، قويَّة جداً، واضحةٌ جدَّاً.
يعترف الأب في هذه اللحظة أنه عاجز عن الجواب، وأنَّ حالةَ انفعال طفله الصغير أكبر من حالة اتّزانه بصفته رجلاً قويَّاً قادراً على الإجابة، كما يعترف أن هذا الابن الصغير في هذه اللحظة لم يعد ينفع معه الكلام الذي يقال للأطفال في مثل سنِّه لصرفهم عن الموضوع الذي يتحدَّثون عنه، إنَّها حالةُ انفعالٍ صادقة، وحالة يقظة ذهنية هائلة.
قال الأب لطفله: هنالك إجابات عن هذه الأسئلة التي طرحتها، ولكنني قد جئت من العمل متعباً، فأنا في حاجةٍ إلى الراحة، وأعدك بالإجابة عن اسئلتك في أقرب وقتٍ ممكن، المهم أن تعلم يا ولدي أنَّ لله حكمة فيما يجري في هذا الكون. وَجَم الطفل، ورمق أباه بنظرة عميقة، وقال حزيناً شكراً يا أبي ولكني أخشى أنّ يموت هذا الطفل العراقي قبل أن أسمع منك الإجابة، وتوقف الحوار.
إشارة:
ما جاء الكفَّار إلينا بل نحن جلبنا الكفَّار
|
|