** عندما استودع الشاعر «ابن زريق» زوجته «قمر بغداد» - كما سمَّاها - وهو في رحلة البحث عن الرزق.. ودعها بهذا النغم الشجي:
«أستودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزراء مطلعه»
|
لقد كان «ابن زريق» أمام أمرين مُرين: إما البقاء مع قمره مع الفقر والجوع، أو النأي عن قمره بحثاً عن الرزق رغم قناعته بأنه لن يأتيه إلا ما كتب الله له، ولكن لا بد أن يسعى بدلاً من أن يركن إلى الاتكالية فهو يقول في بيت شجي في هذه القصيدة:
«والسعي في الرزق - والأرزاق قد قُسمت -
بغي إلا أن بغي المرء يصرعه»
***
** استدعيت إلى ذاكرتي ابن زريق، وقمره وبغداده وأنا أرى وأتابع وأعايش - بألم - أحداث ومآسي الحرب في العراق، وضرْب شعبه وحضارته ومدنه «من بغداد دار السلام إلى البصرة بلد النخيل».
هذه الحرب على بغداد دار الرشيد، «وليس دار صدام»..
بل الرشيد الذي كان يأمر السحابة أن تذهب أنى تشاء وهو مطمئن على خيرها أينما نزلت.
«بغداد الجواهري» الذي قال: «باق وأعمار الطغاة قصار».. وما صدق - مع شديد الأسف - فقد ذهب وبقي طغاة وطنه!.
إن المرء يموت في اليوم مائة مرة والقنابل والصواريخ تزهق الأرواح، وتهدم حضارة العراق!
وكم يؤلمنا - في الوقت ذاته - تهور وعناد صدام وحزبه.. وما جر على شعبه من مآسي.
إن هذا التهور هو الذي جرّ على العراق الحبيب، وشعبه الصابر كل المآسي والحروب منذ حوالي ربع قرن من الزمان، حتى أصبحوا لا يخرجون من حرب إلا إلى حرب، ولا يرحلون من حزن إلا إلى حزن آخر أشد.
لقد أصبح كثير من العراقيين مشردين في هذه الدنيا باحثين عن الأمن والرزق.
لقد أصبح شعب العراق بؤساء في بلدهم رغم ما منحهم الله من خيرات في أرضهم!
***
لقد كاد البعض - في غمرة عاطفتهم المشروعة نحو العراق وشعبه - لقد كادوا - كما قال - الأستاذ عبدالله أبو السمح في مقالة موضوعية في صحيفة «عكاظ» «أن ينسوا كل ما فعله نظام صدام، وحزب البعث في شعب العراق، وما أوقعوه من قتل وتدمير وانتهاك للحرمات لامتلاك أسلحة وجيش لا يحتاجها إلا لتهديد جيرانه والسعي المجنون ليكون زعيم العرب الأكبر وفرعونهم».
إنه يجب التفريق بين وقوفنا مع شعب العراق الحبيب وبين حزبه الحاكم، ويجب ألا يجرنا إلى جعل «صدام» بطلاً شريفاً لم يتلطخ تاريخه بخطأ، ولم يكن سبباً في مصائب أمتنا، وكم كان الأستاذ خالد السليمان موفقاً في «جهاته الخميس» في صحيفة عكاظ عندما كتب قائلاً: «إن أحداً لا يمكن أن يقبل أو يُبرر الحرب التي تشنها أمريكا وحلفاؤها على العراق، ولكن أحداً أيضاً لا يقبل أن تكون مخاض ولادة جديدة لبطولة صدام يُكلّل فيها بأكاليل الغار والتمجيد بعد أن تلبّسه الخزي والعار بسبب أفعاله تجاه شعبه وجيرانه حتى أخمص قدميه!!».
حقاً إن البلاد لا تنمو وتسعد بثرواتها فقط، ولكن أيضاً تسعد وتشقى بحكامها!.
وكم جر غياب الحكمة والتهور في الحكم والتصرفات من أعضاء الحزب في العراق من مآسي ليس على الشعب العراقي ولكن على هذه الأمة المنكوبة.
منْ جلب أو تسبب في اتيان القوات الأجنبية الى هذه المنطقة إلا تهور حزب البعث الحاكم بالعراق.. إنهم هم من جلبوا هذه القوات، فلولا احتلالهم للكويت ما جاءت هذه القوات.. ولا يمكن ان تُلام الدول التي جلبتها وفق قرارات مجلس الأمن، ومن أجل أن تساعد في حماية نفسها.
فمن يلوم الكويت على ذلك - مثلاً - إن العقل يقول: إن عدواً يحميها خير من صديق يحتلها مع الأسف!
***
** ألا يؤلمكم كما يؤلمني أنه بسبب حروب العراق وتهور حزبه تم تهميش أهم قضايا هذه الأمة: قضية فلسطين والقدس الشريف.
لقد أصبح الناس يتابعون الحرب في العراق، وعندما تأتي أخبار المآسي في فلسطين يعرضون - بكل ألم - عن متابعة جهاز التلفاز!.
إن الكاسب الأكبر والفرح الوحيد هو «إسرائيل»
وإن الخاسر الأكبر هو شعب فلسطين الحبيب، والقدس الغالي!
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم إن الخسارة الأخرى الكبرى تأتي على شعب العراق وأطفاله.
إن غياب المنطق والحكمة - مع الأسف - عن حكام العراق رغم مأساة الحرب، لن يجعلهم يكسبون الرأي العام العالمي، وإن منطق وتهور وبذاءة عبارات حزب البعث جعلهم يخسرون هذا الرأي، أو على الأقل فإن منطقهم يجعلهم لا يكسبونه.منذ بداية الأزمة ونحن نسمع ونعايش المنطق الأرعن، بدأ من تلك الكلمات البذيئة التي أطلقها نائب الرئيس العراقي عزة إبراهيم على أحد أعضاء الوفد الكويتي في مؤتمر القمة الإسلامي، وانتهاء بتلك العبارات المتهورة في التصريحات والمؤتمرات الإعلامية لوزير الإعلام «الصحاف»، ووزير الداخلية لديهم، وقبلهم خطب «صدامهم»!.
ولعل الغريب - كما أشارت صحيفة الندوة السعودية - أن «الصحاف» كان يشتم أمريكا وهو يمتطي سيارة أمريكية كما شاهده العالم..!
***
** إن مشكلتنا اليوم في العالم الإسلامي والعربي مع العراق هي نفس مشكلتنا في أزمة الخليج عند احتلال العراق للكويت ألا وهو التناقض، وخلط الأوراق - بهذا الشأن - ما بين الجلاد والضحية!
ويجب التفريق.. فالجلاد في العراق الذي جر حزبه على أهل العراق الويل هو غير الضحية شعب العراق الشقيق.
إن الخلط بين «الجلاد والضحية» هو خلط للأوراق وإطالة لمأساة العراق سواء في حالة الحرب أو بدونها!
وليست المطالبة بعدم الخلط بين الجلاد والضحية مطلوبة من العالم الإسلامي والعربي بل ومن أمريكا نفسها التي تشن الحرب على العراق!
ترى ..
ما ذنب الأطفال والنساء والشيوخ ومنشآت العراق المدنية، وهي تحترق تحت نيران الغارات والصواريخ.
وفي الوقت ذاته..
فإن بقاء نظام العراق وحزبه أمر مخز بعد ما جر على العراق وهذه الأمة المصائب والمآسي ولم يتعظ رغم كل ذلك، ورغم كل الأصوات العاقلة في هذا العالم التي دعته إلى الإقلاع عن تهوره وإصلاح شأنه مع جيرانه والعالم، ولكن.
***
** أما قبل
إن الكلمات تهرب من شفتي، ولا يبقى في قلبي إلا الحزن على شعب العراق.. ولا في قلمي إلا مداد الحسرة.
و..
اللهم احفظ شعب العراق وحضارته.
اللهم احم وطننا الحبيب من كل الفتن والشرور.
اللهم أدم عليه أمانه وإيمانه، ونماءه.
|