إذا كان المتنبي قد قال: وخير جليس في الزمان كتاب، فإن هذه الخيريّة، تنبني على موضوع الكتاب، وطريقة طرح المؤلف لمادة الكتاب، والفائدة التي يخرج بها القارئ من ثنايا الكتاب..
والكتاب الذي بين أيدينا: اسمه «أطفال بلا أُسر»، مؤلفه يعمل في الميدان الذي عالجه هذا الكتاب، فأضفى عليه، من تجربته، ما أعطاه حلية الصدق والتجربة. إنه الدكتور عبدالله بن ناصر السدحان، الوكيل المساعد للتنمية الاجتماعية المكلف..
فالكتاب الذي بلغ مع الفهرس 151 صفحة، يبحث موضوع اليتيم، الذي وصّى برعايته والإحسان إليه، كتاب الله الكريم، في عدة مواضع، وحث على رعايته، وتعويضه عن حنان الأبوين، أو أحدهما، ورعايتهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل منزلته ومن كفل اليتم في الجنة كهاتين، وقارن بين أصبعين من أصابعه عليه الصلاة والسلام.
وقد عرض المؤلف هذا الموضوع، من وجهة النظر الإسلامية: استدلالاً وترغيباً، منذ بداية اليتم حتى يعان بعد تجاوز هذه المرحلة: ذكراً كان أو أنثى، بأسلوب شيق، يدفع القارئ إلى أن يعطى من قدرته أيّا كان نوعها:
«لا يكلف الله نفساً إلا وسعها»، بحيث يكفي الشعور والإحساس بما لهذا اليتيم من مكانة يجب أن يشعر بها كل فرد في المجتمع، ولو أن يمسح على رأسه.. وهذا من محاسن الإسلام، واهتمامه بالتكافل.
ويدل على الجهد المبذول من المؤلف، كثرة المصادر التي استعان بها، إذْ تبلغ «117» مرجعاً.
فبعد المقدمة التي زادت عن الصفحتين، نراه يجزِّئ الكتاب، عوضاً عن المباحث والفصول، إلى أجزاء سبعة.
فالأول منها: في تعريف اليتيم لغة وشرعاً.. واعتبر اللقيط له حق بوصف اليتم تجوّزاً، دون أن يخرج من مدلوله وحكمه في الفقه الإسلامي.. وهذا حكم جيد تنبه له المؤلف، حتى لا يتبادر للذهن أنه خاص بابن الزنا.. وأعطى تعريفاً مجملاً في كتابه هذا لليتيم: بأنه جميع من توفى والده، أو جدهما، أو كان مجهول الأبوين أو أحدهما.. لأي سبب من الأسباب التي استعرضها.
وفي ثانياً: وهو أسس رعاية اليتامى في التشريع الإسلامي «17 - 26»، وقد جعل هذا الجزء في سبع نقاط، يعبر في بعضها عن تعاطف المجتمع الإسلامي، وتأصل الخير في البيئة الإسلامية حول اليتامى.. وإن كنت أفضِّل أن الرعاية الاجتماعية، التي جعلها في نهاية حديثه عن اليتيم بأن تدخل مع ثانياً في مدخل:
أسس رعاية اليتامى في التشريع الإسلامي.. للصلة في الموضوع.
وفي ثالثاً: حقوق اليتيم في التشريع الإسلامي «27 - 46» نراه قد استوفى باختصار مفيد حقّه في إحدى عشرة حالة تبدأ من الرضاعة والنسب، وكلها جوانب ذات أهمية لليتيم، حتى يشعر من أول خطوة في حياته أنه مكفيّ ومهيأ له من يرعاه ويحنو عليه، ليشارك غيره في الجوانب التي تمسّ حياته: طفلاً ثم مراهقاً فشاباً فرجلاً يشارك غيره من أبناء المجتمع، بما يعود عليه وعلى من حوله بالخير فلا يتبادر إلى ذهنه تمييز أو تفرقة.. بل إن الاهتمام بالحقوق التي ذكرها المؤلف تدفع ببعض اليتامى الى التفوّق على غيرهم، والبروز فيما يتلاءم مع مواهبهم المتفتحة بهذه الرعاية.
وفي رابعاً: فضل اليتم « 47 - 58».. جاء الحديث على هذا العنوان مع حالتين هما: عناية الإسلام بالأيتام، والأوقاف ورعاية الأيتام.. وأعطى في هذا المبحث أهمية لدور المسلمين قديماً وحديثاً، بأن كانت رعاية الأيتام حاضرة في أذهانهم: عطفاً وإحساناً.. فأوقف الموسرون والحكّام ما يدرّ دخلاً ثابتاً، يؤمِّن عيشة مستقرة، وراحة بال للأيتام ومن يهتم بشؤونهم.
وهذا ما تحدثت عنه الصحف هذه الأيام من اهتمام كبير، من ولاة أمرنا بالأيتام، ورعاية لمصالحهم علاوة على ما كانت تقوم به وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، منذ تأسست، ولكن هذه البادرة الكريمة سوف توسّع دائرة الرعاية، بحسب ما تزايد في أطراف الدولة من أيتام في أمسِّ الحاجة لليد الحانية لترعاهم.
وفي خامساً: تعّرض لمظاهر رعاية الأيتام المعاصرة «56 - 98» وأتى بأربعة أنواع هي: نظام التبِّني، الرعاية في المؤسسات الاجتماعية، والمشروع النمساوي المعروف باسم:
قرى الأطفال» sos، والأسر البديلة، وختم هذا الموضوع بكلمة أخيرة، أجرى فيها موازنة في الاصلح لليتيم، بعد أن استبعد التبنّي، لأنه مرفوض في الإسلام، ووازن من حيث حاجات اليتيم، وما ينعكس على حياته بعدما يكبر، من خلال 15 خصلة وضعها «ماسلو» تمثّل هرم احتياجات الطفل، إلى أن الأفضل الأسر البديلة، ولكنه رأى أن تطبيقها يحتاج إلى إرادة قوية وعزيمة صادقة، لتوطين الرعاية الاجتماعية، وعدم الركون إلى نماذج مستوردة.
ثم كان حديثه في سادساً: عن الأسر البديلة «99 - 108»، قرن هذا بمنطلقات شرعية في شؤون أحوال اليتيم: الزكاة والميراث والرّضاعة، وغيرها هذا مما استند فيه على فتوى من دار الفتوى بالمملكة رقمها 1145 في تاريخ: 22/10/1420هـ.
ثم أعقب ذلك في سابعاً: بتجربة المملكة في رعاية الأيتام «109 - 122» فكانت تجربة ذات منهج متميّز لأنه نابع عن البيئة، ومن منطلقات إسلامية، اشتركت فيها دور التربية الاجتماعية للبنين والبنات الحكومية، مع جهود الجمعيات الخيرية..
وأوضح معلومات موجزة عن ما صدر من لوائح وتاريخها، والشروط المطلوبة ممن يسند إليه حضانة أحد الأطفال في أسر بديلة، أو جهة ما لرعايته.
ويتم ذلك بواسطة بحث اجتماعي لكل أسرة بديلة، وإشراف دقيق في متابعة حالة الأيتام عند هذه الأسر أو في دور الرعاية، وكتشجيع للأسر الحاضنة تعطى «5000» ريال عند انتهاء إقامة الطفل اليتيم لديها وختم الكتاب بملحق وحكم من كفل يتيماً وماذا يجب له بعد بلوغه..
ولا أكتم القارئ أنني استمتعت بقراءة هذا الكتاب، وما حوى من معلومات مختصرة، تعطي أهمية عن شريحة من المجتمع، كانت موضع اهتمام المسؤولين ورعايتهم، وكنت أتمنى اشارة المؤلف إلى مدارس الأيتام التي أسسّت في عهد الملك عبدالعزيز في الرياض عام 1365هـ بالمربع، ثم اتساعها في مدن المملكة في عهد الملك سعود قبل إنشاء الوزارة.
خبر عجيب:-
ذكر المقريزي في كتابه: درر العقود الفريدة أن امرأة صالحة، روت له: أنها رأت بساحل بولاق خارج القاهرة عام 779هـ، امرأة تبكي وتقول في دعائها: الذي ردّك عليّ أولاً، يردك ثانياً، فسألتها عن ذلك، فأشارت إلى مركب سائرة في النيل، وقالت: هذه مركب فيها ولدي ولي فيه خبر عجيب، وهو أني سرت مع أبيه في بحر المالح الى اليمن، وركبنا البحر الى الهند، وأنا حامل به، فانكسرت السفينة، وهلك كل من فيها، وصرت أنا على لوح، والأمواج تدفعني حتى ألقتني بجزيرة، فبينما أنا على البّر، إذا بشيء يدفعه الموج، فتناولته، فإذا أنا من هول ما مرّ بي، ألقيت الحمل من بطني وأنا لا أشعر وقد نزل في برنس ساقه إليه الله، فلم يصبه الماء، فضممته إليّ، وأقمت بالجزيرة ما شاء الله، الى أن مرت بي مركب، فصحت بأهلها، حتى أتوني واحتملوني، وستروني بشيء، وكان فيهم من عرف زوجي، وذكر أنه يعرف له مالاً ببعض بلاد الهند، فسلّم الله وعبرنا تلك البلدة، فأخذ لي منها مبلغاً.
ووجدت أهلها يستخدمون في مهنتهم القرود، فاشتريت لي قرداً ليخدمني، وسرت معهم من البلد، فمرّوا في سيرهم، إلى مغاص اللؤلؤ، فلما رأى القرد الرجال تغوص في البحر وتطلع بالصدف، التي فيها اللؤلؤ، صار ينزل من مؤخرة المركب، ويغوص ثم يطلع لي بالصدف، التي فيها اللؤلؤ، وهم لا يرونه، ويعطيني ما تحصَّل عليه من الصدف بخفيه.
فآخذها منه حيث وجدت فيها من اللؤلؤ الكبار عدة فأخفيتها، وسلّم الله حتى عدت به إلى القاهرة، وربّيته حتى كبر، ودفعت إليه اللؤلؤ، فباعه وعمل له رأس مال يتجرّ به، حتى نما وكثر ماله، وهو أبداً لا يسافر إلا في البحر مثل أبيه، وكل مرة أدعو الله عند سفره بهذا الدعاء «1:395».
|