قد يكون الحدس الاقتصادي وراء اختياري عنوان هذا المقال، وذلك من حيث المضمون. أما من حيث الشكل، فلعل اختياري يرتبط بموضة تفسير الأحلام في الفضائيات العربية وعلى الهواء مباشرة! وفي هذا السياق قد يرتبط الشكل بالمضمون. فكثير من الأحلام تبدو لغير المختص بتفسيرها أو لمن لا يتمعن في مضمونها وكأن لها دلالات أخرى، ويتضح فيما بعد ان الواقع يختلف عن القراءة الأولى أو التفسير الصحيح لها. وعودة على الحدس الاقتصادي، أقول بأن للأرقام دلالاتها الواضحة التي قد لا يفهم معناها إلا متخصص وذلك بإسقاطها على مرجعيتها العلمية الحقيقية.
والأرقام بطبيعتها العلمية لا تتجمل بل تتصدى للواقع بجلاء وشفافية، وإن كان هناك من الناس من يهوى لي رقبة الواقع. وقد لا يمنعه هواه من استخدام نهج علمي على طريقة كلمة حق يراد بها باطل، تماماً كما فعل مؤلف كتاب «كيف تكذب بالإحصاءات». المعنى هو التلاعب في تفسير الأرقام. والأرقام المهمة عموماً هي تلك التي تختص بالشأن الاقتصادي باعتباره يخص كل إنسان في عصر اليوم وعالمه الجديد وعولمته الكاسحة. والحكمة في تفسير الأرقام هي الوصول إلى مدلولها الحقيقي واستنباط جملة مفيدة تصف الواقع وتقرر الحقيقة.
أعود إلى الأرقام، وأستعرضها بنهج شمولي أهدف به الوصول إلى الجملة المفيدة. أما تفصيل الأرقام فمكانه الأبحاث العلمية ذات الصلة أو المصادر الإحصائية والمعلوماتية وهي كثيرة وإن كانت مبعثرة أو موسومة بشعار «سري للغاية» وهي الكلمة التي تصيب كل باحث في مقتل.
في الاقتصاد السعودي أرقام «تنموية» عديدة تفصح عن إنجاز تنموي في زمن قياسي. هذا الإنجاز يجير لمنظومة عمل جماعي تشمل أطراف معادلة الناتج القومي كله بطرفيه العام والخاص، الحكومة والشعب. قد تختلف درجة المشاركة من قطاع اقتصادي لآخر ولكنها تجتمع في الرغبة في العمل التنموي. واليد الواحدة لا تصفق، والعمل الجماعي نهج تنموي تذوب فيه المصلحة الشخصية لترتقي المصلحة العامة أو المصلحة الوطنية بحدودها السياسية والاجتماعية المترابطة.
والأرقام «الاقتصادية» في مجالات التنمية الاجتماعية لها أولوية لأنها ترتبط بالإنسان. وقد تفصح عنها أعداد المدارس. وفي هذا الصدد لك أن تتخيل جهدا تفصح عنه هذه الأرقام ببناء أو افتتاح مدرسة كل يوم طوال العام ولأعوام ممتدة كامتداد مدن وقرى وهجر هذه الأرض الطيبة. وينطبق القول نفسه على أعداد الخريجين، أعداد المراكز الصحية، أعداد المصانع، أطوال الطرق المسفلتة والمعبدة، أعداد الهواتف الثابتة والجوالة. هذه نماذج لأرقام اقتصادية تنموية قد لا يحسن الكثير منا تفسيرها لاعتقادهم بأنه امتداد طبيعي لتطور الحياة. وهي كذلك إن لم يطغَ على تفسير البعض الضرب بالكلام على الجزء الفارغ من كوب الماء/ التنمية بالتركيز على الأرقام الاقتصادية السلبية مثل أرقام الدين العام والبطالة، وهي أرقام حقيقية لا ننكر وجودها، بل يحسن تفسيرها.
وهنا يكمن الربط بين تفسير الأرقام وتفسير الأحلام، فالأحلام كما تفسر. واستثمار الأرقام الاقتصادية التنموية الإيجابية هو نهج علمي يهدف إلى شحذ همة الاقتصاد، والاقتصاد هو المجتمع. وشحذ الهمم أسلوب علمي عملي للقضاء على بواطن الخلل في أي اقتصاد. وشحذ الهمم يؤدي الى رفع كفاءة الأداء والإنتاجية في الاقتصاد لتتكون من خلال هذا النهج يد خفية، كيد آدم سميث، تعمل لتخفيف الدين العام وأرقام البطالة. أن تشحذ همتك يعني أنك تتيح فرصة للتوظيف، وخلق فرصة توظيف تهدم هرم البطالة وتزيد من الناتج القومي. أحسنوا الظن في الاقتصاد، وتفاءلوا بالخير تجدوه.
وتفسير الأرقام بنهج إيجابي يخلق هذه الروح الوثابة في الاقتصاد ويثري نزعة الاستمرار على طريق التنمية. والجملة المفيدة من هذا التفسير هي أن ثمة مناخاً إيجابياً في الاقتصاد السعودي يستحق استثماره بروح وطنية عالية تتجاوز طروحات الإخفاق والتردد والقنوط واليأس وتنطلق إلى غدٍ أكثر إشراقاً. نحن في نعمة كبرى يجدر بنا أن نرعاها حق رعايتها ونحافظ عليها ونعض عليها بالنواجذ. اللهم أدم علينا نعمتك واحفظها من الزوال. اللهم زدنا ولا تنقصنا. اللهم إنا نبات نعمتك فلا تجعلنا حصاد نقمتك.
*رئيس دار الدراسات الاقتصادية الرياض
|