من البديهيات في علم البلاغة أنه اذا عرضت لك فكرة قلت فيها من الكلام ما يحسن أن يقال واخترت للتعبير عن المعاني الجائلة بخاطرك ألفاظا وجملا وأساليب تناسب عقول القارئين اذا كتبت والسامعين اذا خطبت تلكم هي البلاغة في أبسط تعريفاتها.
والأدب الصحفى منذ أن اهتمت الصحافة بالأدب وأفردت له حيزا في صفحاتها يهدف الى اشراك القارئ في أحاسيس الكاتب التي عرضت له في صورة أفكار وتداعيات فأفرغها في قالب فتى ليتخلص من مخاض الفكر من ناحية وليشرك القارئ في أحاسيسه من ناحية أخرى.
ورسالة الفنان الاولى أن يجعل المتلقى لأثره الفنى يحس أنه ازاء أثر زاخر بالفنية والابداع ويرتفع به عن ماديات الحياة ولو الى حين، فاذا فشل في تكوين هذا الحس فهو جدير بأي اسم لا اسم الفنان.
هذا الاحساس أو الرغبة في هذا الاحساس هي التي تدفع القارئ دائما الى قراءة الصفحات الفنية، فهي المكان الجدير بتقديم هذا اللون من الغذاء الروحي للفرد.
ولكن بعض الكتاب الصحفيين عندنا فهم الموضوع بطريقة ما، فأخذ يعرض أفكاره عرضا غامضا ليوهم الناس أن غموض العرض ناشئ عن عمق الفكرة، أو الافكار التي يعالجها. وخير لأولئك الكتاب أن يعدلوا عن الكتابة من أن يحاولوا التماسها من غير طريقها.
فالذين يقرأون صفحاتنا الفنية في الداخل والخارج محاولين تتبع نشاطنا الثقافي وتنوعه سوف يصدمون لا لعدم وجود أدب ونقد أدبى لدينا فتلك دعوى عريضة لا بينة عليها مهما كان نوع ذلك الادب ووزن ذلك النقد، بل سيصدمون لأن بعض الذين يكتبون ويناقشون ويعرضون النشاط الادبى في صحفنا لا يهتمون بحسن عرض هذا الادب بحيث يترجم واقعنا الادبى.
نعم هناك كتاب يوميون اذا جاز هذا التعبير يتحفوننا ويمتعوننا أحيانا بانتاج أدبى غني ودسم وجدير بالاحترام والتقدير والاحتفاء والاحتفال، ولكن يظل عطاؤهم من باب الاتحاف، والتحفة لا توجد بين الحين والآخر، وحتى انتاج هذا البعض الذي يتسم بالحرفية يصدق عليه قول أحد الكتاب: «ان الاديب المضطر انما يشقى للقوت لا للفن ويسعى للحياة لا للمجد، وينتج للحاضر لا للمستقبل، اذن فلا يكون أدبه الابخس في الكيف ونقص في الكم، وشعوذة في الوسيلة، واسفاف في الغاية.
والأدب الصحفى يجب أن يمتاز بالسهولة والوضوح والأصالة والعمق والافادة. فأين ما يكتب في صفحاتنا الادبية من هذه المعاني المصاغة في بيان واضح وعميق؟؟
قد يقول بعض المتحذلقين أنا لا أؤمن بالجديد والتقدمي من النزعات والافكار في دنيا الادب وجوابي هو أني لا أريد هنا أن أناقش الافكار والنزعات بقدر ما تهمني طريقة الاداء التي جهد بعض الادباء الصحفيين عندنا في أن تكون ملتوية معوجة غامضة ممعنة في الغموض والالتواء. جاهلين أو متجاهلين أن الاسلوب المشرق الذي يأتي نتيجة اختيار الجمل المصفاة والالفاظ المنتقاة ذات الدلالات العميقة والايقاع الآسر، ضرورة حيوية للغة الى جانب أنها واجب بلاغي.
واذا كان أحدنا يحرص على الحياة الاجتماعية فأحرى به اذا كان من العاملين في دنيا الادب أن يحرص على تكوين شخصيته الادبية المميزة الواضحة وما ذلك الا بحرصه على أن يعبر عما في نفسه بأسلوبه الخاص الواضح الجلي، وألا يكون امعة وراصف جمل، وتقليد أساليب الآخرين قد يخلق من الانسان أي شيء الا الاديب الذي يلهث الشداة خلف أن يوسموا بميسمه.
بلادنا في طور بناء في شتى مجالات الحياة. ولا يناسب هذا الطور غير الواقعية المدركة المفتحة، والتعبير عن مشاكل الحياة بلغة الحياة. هذا اذا كنا نؤمن بأن رسالة الاديب هي التوجيه والتوعية خلال ما ينتجه من أدب جاد وقور رصين.
وأنا لا أنكر أن المذاهب الفنية منذ أن عرف الانسان الفني في اصطراع وتخاصم وأخذ ورد ولا يمكن أن تكون الا كذلك ولكن يجب أن تكون لأدبنا شخصية بارزة واضحة محددة المعالم متفردة مبدعة بحيث لا تختلط وتضيع في غيرها، ثم ليتفرع بعد ذلك ذوو الترف الذهني من كتابنا للكتابة على أي مذهب أدبي شاءوا، ولكن ليس قبل أن يعمل الكاتبون على خلق وبلورة شخصيتنا الادبية.
ولست متفائلا اذا تركنا هذا التيار الدخيل المفسد الركيك يتوغل في أدبنا من خلال أدب الصحافة بأننا سنتمكن من أداء الرسالة كما يجب.
وهذا الذي أدعو اليه ليس فيه الزام ولا حجر ولا وصاية على العقول، بل هو دعوة ملحة وصادقة الى احترام الادب ورسالته ووسائله وغاياته، واحترام عقل القارئ ومحاولة تثقيفه من ناحية والاخذ بيده من ناحية ثانية فتلك هي رسالة الادب الحي.
نريد لشداة كتابنا أن يتمرنوا ويتمرسوا على الكتابة الجادة، وألا يتعجلوا المجد الادبي فهم لاريب مدركوه، أما هذا الطريق الغامض الذي يسيرون فيه فأنا قمين لهم أنه سينتهى بهم الى اللامعقول واللا شيء.. الى الضياع..
«المحرر»
|