لقد ظنت واشنطن ولندن أن العراقيين لن يبدوا مقاومة مثل تلك التي أظهروها حتى الآن، فقد كان من المسلم به أن صدام سوف يتم الإطاحة به من خلال سلسلة من الثورات الشعبية، وقد تحدث الوزراء البريطانيون عن أن هذه الحرب ربما ستنتهي خلال أيام، ولكن سوء التقدير ذلك أوجد مشكلة عويصة، فالقوات التي أنهكت في قتال ضار استمر لأكثر من أسبوع كامل وضعت في مسار أطول مما كان متوقع لها بكثير، وقد وجد قادة التحالف أنفسهم مجبرين على جلب المزيد من التعزيزات؛ مما يشير بصورة واضحة إلى حالة الارتباك التي هم فيها الآن.
وحتى الآن لا يوجد اعتراف رسمي بأن الظروف قد تغيَّرت، وقد عقد رئيس الوزراء البريطاني قبل سفره إلى كامب ديفيد قبل اسبوع مؤتمرا صحفيا ناقش فيه جدول أعمال تلك القمة التي وصفها بلير بأنها روتينية، وأكد على أن أجندته تشتمل على الاطلاع على سير العمليات وبعض المسائل الإنسانية، وإصلاح بعض الخلل في العلاقات مع أوروبا والتعامل مع عراق ما بعد صدام.. إلخ، ولكن أقل ما توصف به مقولات رئيس الوزراء هي أنها محض أوهام، فمناقشته لعراق ما بعد الحرب يعني إشراك الأمم المتحدة، ولكن من المستحيل على الأمم المتحدة أن تبدأ في معالجة تلك المسألة في الوقت الذي يعترف فيه معظم الأعضاء بأن النظام العراقي الحالي معترف به بالفعل، ولكن الحقيقة هي أن بوش وبلير لم يلتقيا لمناقشة وضع ما بعد الحرب، لأن الحرب لو كانت سارت كما هو مخطط لها لما كانت هناك حاجة لقمة كامب ديفيد، ولكن الزعيمين التقيا لمناقشة الآثار الاستراتيجية لهذه المقاومة العراقية غير المتوقعة، فقد أصبح الآن من غير المحتمل على الإطلاق أن قوات التحالف سوف يتم استقبالها كأبطال محررين إذا ما دخلوا بغداد كما كانوا يأملون، ولكن ربما يجدون لزاما عليهم أن يفتحوا المدينة شارعا بعد شارع! وربما للقوات البريطانية خبرة في ذلك النوع من المعارك الحربية الشرسة، ولكن الأمريكيين لا خبرة لديهم، وفي كافة الأحوال سيكون الاستيلاء على بغداد ربما أكثر دموية من عمليات مراقبة الوضع في أيرلندا الشمالية، ولكن من المتوقع أن تؤدي معارك الشوارع تلك إلى وقوع عدة آلاف من القتلى في صفوف التحالف.
والمبادئ العسكرية بشأن ذلك واضحة للغاية: إذا ما أردت أن تستولي على مدينة معادية فدمرها تماما! وقد كانت تلك هي الاستراتيجية في حصار مدينة ستالينجراد الروسية ومدينة غروزني، وهذا النوع من الاستراتيجية العسكرية هو الذي ربما يجعل الميزان يميل ثانية في كفة القوات المعتدية ولكن بخسائر فظيعة بين المدنيين، وقد أعيقت قوات التحالف حتى الآن بسبب تعهدها بعدم إيذاء المدنيين غير المقاتلين، ولكن في مرحلة ما ربما يجد الأمريكيون أنفسهم في مواجهة أحد خيارين: إما أن يخسروا آلاف القتلى ويقتحموا المدينة، أو أن يبيدوها ويقتلوا عدة مئات الآلاف من المدنيين، ولكن يظل هناك خيار ثالث: وهو تجميد الموقف على ما هو عليه وحصار بغداد، ولكن ذلك الوضع سيؤدي إلى فقدان الدافع وتسليم المبادرة إلى يد صدام، وكلها خيارات سيئة، وقد واجه بلير لحظات عصيبة أثناء مقابلته مع بوش، ولم تحن اللحظة التي تقرر فيها الولايات المتحدة استهداف المدنيين بعد، ولكن إذا ما حانت فسوف تتزامن مع استئناف مناقشة السياسات الداخلية في بريطانيا بعد فترة التوقف بسبب الحرب، وهنا سوف تتعالى أصوات المعارضين للحرب بالاحتجاج.
ربما كان التحليل السابق كئيبا للغاية، ولكن السياق الكامل للأحداث لم يتكشف بعد، فقد كانت هناك لحظات أليمة في صراعات كل من كوسوفو وأفغانستان ثم تحولت لتكون مقدمات لنجاح باهر، وقد أدى وجود وسائل الإعلام المرئية في العراق إلى إيجاد جو من الهياج بدلا من الموضوعية.
ولكن يظل الوضع هو أنه حتى لو كان هناك نجاح تام فسوف يخلف وراءه كما من المشاكل المرعبة؛ مثل الشرق الأوسط الذي في حالة هياج، وانفراط عقد الأمم المتحدة، وتحطيم الناتو، وزيادة الفجوة بين الولايات المتحدة وأوروبا، كما لا يزال هدف الحرب المعلنة وهو جعل العالم أكثر سلاما بعيد المنال.
* مجلة «سبيكتاتور» البريطانية
|