اطلعت على جدول أعمال مجلس الشورى ليوم الأحد الموافق 20/1/1424هـ وذلك عن طريق جريدتكم الغراء في العدد رقم 11131 ليوم الجمعة الموافق 1/1/1424هـ فاستثارني البند الرابع من بنود أعمال المجلس فأحببت أن أومئ إيماءة سريعة لبعض الملحوظات التي ظهرت لي بواقع الاختصاص إسهاماً مني ولو بالقليل في خدمة هذا الوطن المعطاء.. لذلك أقول وبالله تعالى التوفيق:
شرع التعزير من أجل الردع والزجر، ومتى ما تحققت هذه العلة أو هذا الهدف في العقوبة لم يجز الزيادة عليها بحيث تصير تعدياً ولو فعل ذلك كان القاضي ضامناً.
فمتى كانت العقوبة التعزيرية كافية في الوفاء بالمطلوب اكتفي بها.
فإن تمرد الناس وأصبحت العقوبة التعزيرية غير رادعة ولا زاجرة فإن للحاكم ان يزيد فيها حتى يتحقق الردع والزجر.
ومن الأمثلة على ذلك حد الخمر، فقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شارب الخمر أربعين جلده، كذلك فعل أبو بكر وعمر في صدر خلافته.
فلما تجرأ الناس في عهد عمر على شرب الخمر، ولم يردعهم الضرب بالأربعين شاور عمر أصحابه في ذلك فصدروا عن رأي سديد وهو مضاعفة العقوبة إلى الثمانين.
فعمل عمر بذلك فتحقق الردع والزجر وكف الناس عن الشرب.
وقد نص الفقهاء في كتبهم انه لو زاد الإمام في العقوبة عن الحد الكافي للزجر والردع فترتب على ذلك تلف فإنه يضمن..
ومع تطور مناحي الحياة، واستحداث كثير من المعاملات وظهور علوم لم تكن معلومة في سابق العصور، ووجود وسائل للجريمة تختلف بحسب الزمان والمكان والمحل والظروف المحيطة فقد اقتضى الأمر من باب السياسة الشرعية تشريع عقوبات تعزيرية تتوافق وواقع الحال، وتكون وافية بتحقيق الحد الأدنى من الأمن، وضامنة للردع والزجر..
فتسابقت الأمم إلى إيجاد تشريعات مختلفة لتكون هي الفيصل في إيقاع العقوبات المناسبة بحق مرتكبي الجرائم بحسب نوع الجريمة وتأثيرها على المجتمع والاقتصاد والأمن..
وبما أن الدولة السعودية رعاها الله قد قامت على أسس ثابتة، ومبادئ راسخة وهي أن الحاكم في كافة مناحي الحياة هما الكتاب والسنة وما خالفهما فهو مطروح مردود، فإنها قد أوجدت المحاكم الشرعية المختصة بالحكم في الحدود الشرعية والأنكحة وما يتعلق بها وكثير من المعاملات المالية .. إلخ.
كما أوجدت جهات أخرى تختص بالنظر في بعض العقوبات التعزيرية كما في حال التزوير والرشوة والاختلاس والتفريط في المال العام والعملات المزيفة والقضايا التأديبية والتجارية والإدارية ونحو ذلك مما يخفف الوطأة عن وزارة العدل والمحاكم التابعة لها، ومعلوم ان كل هذه الجرائم مما لم يأت بالعقوبة عليها حد معين أو نص معلوم فكانت العقوبة عليها متروكة لولي الأمر يحكم فيها بما يراه متفقاً مع نصوص الشريعة العامة وقواعدها الكلية من باب السياسة الشرعية.
والناظر في القسم الثاني أعني التعزيرية يجد أن كثيراً منها قد وضع له شقان من العقوبة: أصلي وتبعي..
وسأعرض هنا لحال صنف واحد من أصناف المجتمع السعودي، وهذا الصنف يمثل شريحة مهمة من شرائح المجتمع وما يقع على فرد من أفرادها يتعدى أثره إلى عدة أفراد وربما بيوتات .. هذا الصنف هو المعني بنظام وزارة الخدمة المدنية الخاص بموظفي الدولة فيما لو ارتكب أحدهم ذنباً جنائياً يستوجب العقوبة بشقيها الأصلي والتبعي...
فأما الأصلي فهو العقوبة التي يحكم بها ديوان المظالم مما هو مناسب ومنصوص عليه في الأنظمة المعمول بها سواء كان ذلك سجناً أو غرامة أو بهما ...
وأما القسم التبعي فهو ما نص عليه نظام وزارة الخدمة المدنية مما يتعلق بموظفي الدولة وهو:
بأن من حكم عليه بالسجن في جريمة من الجرائم المخلة بالشرف أو الأمانة، كالتزوير والرشوة والاختلاس والنصب والاحتيال وخيانة الأمانة .. إلخ، وكذا الحكم فيما لو حكم عليه بحد شرعي أو بالسجن مدة تزيد على سنة، فإنه يفصل تبعاً من الوظيفة الحكومية بقوة النظام، ولا يحق له طلب الحصول على وظيفة حكومية حتى يمضي المدة المنصوص عليها ويرد له اعتباره من قبل الجهات المختصة.
والناظر في هذين القسمين يجد حقيقة ان العقوبة التبعية في الغالب تكون أشد على المذنب من العقوبة الأصلية.بل ربما تسببت له في ضرر بالغ وعظيم لا يعلم مداه إلا رب العزة والجلال، ولا سيما ان كان ممن خدموا في الدولة مدة طويلة ..
ويزيد الطين بلة إذا عرفنا انه ربما كانت الجريمة المدان بها قد نشأت في الأصل عن دعوى كيدية نتيجة لإخلاص ذلك الموظف في عمله وتفانيه فيه ، وعدم قبوله المساومات أو التغاضي عن التفريط في المال العام، فهل من العدل أن يفصل هذا الموظف من عمله ويظل من غير دخل طوال سنوات عجاف حتى يظهر الحق!!
وربما اقتنع القاضي بأن المتهم بريء ولكن لظروف محيطة بالمتهم فإن الأدلة المادية تشير إلى إدانته، وهنا يضطر القاضي إلى ترك العمل بعلمه والحكم بناءً على ما بين يديه من الأدلة المادية ..
والسؤال هنا ماذا لو كانت العقوبة التبعية متروكة لتقدير القاضي؟؟
أعتقد انه في مثل هذه الحالة وان كان سيحكم بإدانة المتهم وإيقاع العقوبة الأصلية عليه..
إلا أنه ربما استطاع أن يجنب المتهم العقوبة التبعية أو على الأقل يحكم بتخفيفها من الفصل إلى الحرمان من علاوة دورية واحدة ونحو ذلك مما هو مذكور ومنصوص عليه في نظام تأديب الموظفين..
إلا أن الواقع هو أن القاضي يحكم بالعقوبة الأصلية، ويترك تطبيق العقوية التبعية للجهة المختصة في مرجع الموظف..وربما تقاعست تلك الجهة عن ذلك مراعاة لما تعلمه من حال ذلك الموظف وما يحيط به من ظروف قد تكون خافية على القاضي وعند ذلك تتدخل هيئة الرقابة وتطالب ديوان المظالم بفصل ذلك الموظف.
وهنا يلجأ القاضي بالديوان إلى الحكم بعدم اختصاص الديوان ولائياً ويشير إلى أن على جهة مرجع الموظف ان تقوم بفصله بقوة النظام..
وهنا سؤال يطرح نفسه بإلحاح وهو: ماذا لو كان الموظف ممن له خدمة طويلة في الدولة ووراءه زوجة وأطفال وربما أب وأم؟ ما ذنب هؤلاء وما هو جرمهم حتى يحرموا من الرزق الحلال والعيش الكريم؟!
وانطلاقاً من هذا الملحظ فإن بعض الدوائر القضائية ربما سعت إلى تخفيف وطأة الحكم على المتهم وأسرته وذلك بإيقاف تنفيذ عقوبة السجن المقضي بها على المتهم مع إلزامه بدفع الغرامة المالية المقررة في الحكم .. وهذا بلا شك يتماشى مع ما تنص عليه الأنظمة الجزائية والتأديبية من ضرورة مراعاة الظروف المخففة والمشددة عند النطق بالحكم وأخذها في الاعتبار.
بل ان المادة الثانية والثلاثين من قواعد المرافعات والإجراءات أمام ديوان المظالم قد نصت على أن للدائرة إذا رأت من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو سنه أو ظروفه الشخصية أو الظروف التي ارتكبت فيها الجريمة أو غير ذلك مما يبعث على القناعة بوقف التنفيذ أن تنص في حكمها على وقف تنفيذ العقوبة، ولا أثر لذلك الإيقاف على الجزاءات التأديبية التي يخضع لها المحكوم عليه ..
وهذا النص ولا شك قد أعطى حرية للقاضي في التصرف في الحكم بحسب ما يظهر له من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو سنه أو ظروفه الشخصية .. إلخ بحيث يستطيع تجنيب المتهم وأسرته آثار تنفيذ العقوبة متى ما وجدت القناعة لدى القاضي بضرورة إيقاف تنفيذها كلياً أو جزئياً كما مر إلا أن الواقع هو أن استخدام القاضي لهذا النص في مصلحة المتهم كان على أضيق نطاق حتى أن المتتبع لأحكام الدوائر الجزائية والتأديبية يرى أن النسبة التي تم فيها إيقاف تنفيذ العقوبة لا تتجاوز ربما واحداً في المائة في بعض السنوات ..!!
وحتى لو فرضنا جدلاً أنها وصلت إلى نسب عالية نسبياً إلا أن المشكلة تبقى قائمة وهي زيادة في أعداد المفصولين من وظائفهم تبعاً، ومن ثم زيادة أعداد العاطلين فالأسر المسجلة لدى الجمعيات الخيرية باعتبارها من الداخلين حديثاً في تعدادها .. إلخ.
وقد يحتج عليَّ البعض بأن هذا الشخص المذنب ما دام قد أوقع نفسه في هذا المأزق بارتكابه هذا الجرم فعليه أن يتحمل ما يصيبه وأسرته من جراء ذلك ...إلخ.
أقول: أولا: من منا لا يخطئ؟ ومن منا يملك زمام نفسه الأمارة بالسوء عن الزلل؟.
ثانياً: من خلال عملي لاحظت أن كثيراً من الوقائع قد حدثت قبل اكتشافها ورفع الدعوى على المتهم ربما بأكثر من عشر سنوات، بمعنى أن المتهم كان قد نسي جرمه ذلك، وانغمس في عمله الوظيفي، وصلحت حاله، واستقام أمره، وأنشأ يبني مع أسرته التي ربما لم يكونها إلا بعد تاريخ ارتكابه للذنب بفترة غير قليلة آمالاً وأحلاماً بمستقبل أفضل، في ظل حياة أرقى وأمتع.. ثم يفاجأ وأسرته الضحية بمندوب السلطات يطرق عليه بابه أن قد حان الحساب! ويا له من حساب لا تنفع معه توبة سابقة، ولا تقادم مدعى!
إذ أنه من المعلوم أيها الأخوة ان الجرائم الجنائية لا تسقط بالتقادم، كما أن ادعاء المتهم ندماً على ما صدر منه، أو أسفاً عما بدر عنه غير مقبول .. فإذا بالأحلام سراب، وبالمستقبل ظلام، وبالراتب بوار!
مع أن الله تعالى قد قبل توبة من هو أشد منه جرماً وفتكاً وفساداً وهو المحارب إذا أعلن توبته وأوبته قبل القبض عليه قال تعالى)إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) )إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
وبعد فلا شك ان عرض موضوع أثر وقف تنفيذ العقوبات الأصلية على العقوبات التبعية على جدول أعمال مجلس الشورى ليوم الأحد الموافق 20/1/1424ه يمثل انجازا آخر من انجازات المجلس العظيمة، وتطبيقاً صحيحاً للأسس السليمة التي قام عليها برعاية كريمة من لدن حكومة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله .
من هنا فإني أنادي الجهات التشريعية بالدولة والمنوط بها مراجعة الأنظمة القائمة وعلى رأسها مجلس الشورى أن يلتفتوا عاجلاً إلى نظام وزارة الخدمة المدنية والأنظمة الجزائية والتأديبية المعمول بها بديوان المظالم ليقوموا مشكورين مأجورين بمراجعتها ودراستها دراسة متأنية بحيث يتحقق بها ما يلي:
أولا: أن يتعدى الحكم بوقف تنفيذ العقوبة الأصلية إلى وقف تنفيذ العقوبة التبعية أيضا، لأن الأخيرة هي العامل الأكثر ضرراً على المحكوم عليه..
ثانياً: أن تكون العقوبة الأصلية أشد من العقوبة التبعية.
ثالثاً: أن يكون من حق القاضي النظر في العقوبة التبعية من حيث إيقاعها على المتهم أو تخفيفها إلى ما هو أدنى من الفصل والأخذ بالاعتبار واقع الحال في هذا الزمن من شح الوظائف وقلتها هذا من جهة.
ومن جهة أخرى مراعاة ظروف المتهم ومن يعولهم، إذ انه ربما لو فصل المتهم من وظيفته لترتب على ذلك نزوله إلى رصيف الفقراء، وتشرد أولاده، وربما طلاق زوجته مع ما يترتب على ذلك من مشاكل اجتماعية وتبعات خطيرة يخرج العقوبة عن غرضها الأصلي وهو الردع والزجر إلى أن تصل حدا يصدق معه وصف الفقهاء بقولهم: متى ما تجاوز الحاكم بالعقوبة التعزيرية حد الردع والزجر فانه يضمن.
مع ملاحظة ان هذه العقوبات التبعية قد شرعت في وقت كانت الوظائف فيه متوافرة من غير منافس يذكر، بل أذكر ان أحد معارفي ذكر لي انه قد توظف في أكثر القطاعات الحكومية من عسكرية ومدنية و حيث كان إذا أصابه الملل في جهة ما قدم استقالته والتحق بكل سهولة بجهة أخرى.. أما اليوم فالكل يعرف الوضع القائم لا سيما مع كثرة خريجي الجامعات والكليات والمعاهد المهنية والفنية المختلفة وغيرها وغيرها ..
فقل لي بربك كيف لهذا المفصول من عمله من الحصول على عمل آخر خاصة إن كان لا يحمل مؤهلات جيدة!
ولهذا فإني أكرر النداء بأن تكون تلك العقوبات التبعية خاضعة لتقدير القاضي وان تكون أيضا متدرجة كالتأديبية.ولزيادة التوضيح أسوق هنا مثالين أحدهما يمثل واقع الحال الآن والآخر يمثل الواقع المفترض بعد التغيير:
المثال الأول: واقع الحال الآن فيمن ارتكب تزويراً ...
العقوبة الأصلية: الإدانة بجريمة التزوير والاستعمال المنسوبتين إليه والحكم عليه بالسجن سنة واحدة وتغريمه مبلغ ألف ريال.
العقوبة التبعية: الحرمان من علاوة دورية واحدة «أو أكثر». أخيراً فإني لا أطالب هنا بإلغاء العقوبة كلياً بل أطالب بتوظيف المادة الثانية والثلاثين من قواعد المرافعات والإجراءات أمام ديوان المظالم بشكل أفضل.. هذا من جهة ومن جهة أخرى أن يراعى تناسب العقوبة الأصلية مع التبعية بحيث تكون الأصلية هي فعلا الأصلية والأقوى والأشد .. مع الأخذ بعين الاعتبار واقع الحال اليوم كما مر الإيماء إليه سابقاً.
محمد بن موسى الفيفي
|