صدام حسين ديكتاتور وطاغية ودموي وقمعي، عذّب شعبه طويلاً، دمّر العراق وهدر موارده وطاقاته الهائلة في شنه الحروب على جيرانه، ولم يتورع عن استخدام حتى الاسلحة الكيميائية ليس ضد الايرانيين فحسب، وإنما ضد ابناء شعبه من الأكراد في حلبجة، وظل حتى النهاية محجماً عن القيام بأي شيء من أجل درء الكارثة عن بلده وشعبه، فلا غاية له سوى البقاء في الحكم حتى اللحظة الأخيرة.
هل هذا الحكم صحيح أم خاطئ؟
الآن، والآن فحسب، ليس مهما على الاطلاق طرح هذا السؤال او الاجابة عنه، ولكننا رأينا أهمية كبرى في انْ نبدأ بقول ذلك حتى نبلغ القول الأهم، وهو أنْ ليس بعربي وليس بإنسان من يفضّل، الآن، أنْ يتذكر، وأنْ يذكّرنا، بكل مثالب ومساوئ نظام حكم صدام حسين، فموقف كهذا لا يمكن أنْ ننظر إليه، الآن، كما يريد لنا صاحبه أنْ ننظر، موقف كهذا لايمت إلى الغيرة الديمقراطية او الانسانية بأدنى صلة، ولا يمكن فهمه على أنه نابع من حرص على العراق وشعبه أو على الأمن القومي العربي والمصالح القومية العربية.
موقف كهذا يمكن ويجب إدراجه، الآن، في الرغبة في اختراع ذريعة للانهزام القومي والانساني والاخلاقي، وللتنصل من كل الالتزامات القومية اللفظية، وللاستخذاء لمشيئة بوش شارون، وللانضمام العلني الصريح والذليل للمعسكر «الرابح»، معسكر الحرب والعدوان.
«أيّ عدوان على العراق إنما هو عدوان على الدول العربية جميعا.. هو تهديد للأمن القومي العربي برمته»، العدوان واقع الآن، العالم بأسره يعلن الآن، أنْ الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق هي «عدوان سافر» و«مروق عن الشرعية الدولية» و«انتهاك صريح لميثاق الأمم المتحدة»، فماذا قلنا؟ كان قولنا عندما بدأ العدوان على «الدول العربية جميعاً» أنّ صدام حسين هو الذي يتحمل المسؤولية كاملة، فلو لم تغزُ قواته الكويت لما جاءت القوات الامريكية الى المنطقة، ولما حصل أخيراً هذا الذي حصل!
الآن فقط، وليس في اثناء صوغنا لذلك «القرار القومي» في قمتي بيروت والقاهرة، اكتشفنا أنّ «أصل البلاء» يكمن في غزو الكويت، وأننا لانستطيع، بالتالي، أنْ نفعل أي شيء لنصرة العراق الذي جنا عليه حاكمه.
كل ما نستطيع فعله، الآن، هو الطلب الى شعوبنا الهائجة المائجة الناقمة حتى على نفسها، أنْ تنتظر «الإذن» و«الرخصة» قبل ومن أجل أنْ تعبّر عن مشاعرها التي لانقف ضدها، لأنها «مشاعر طبيعية» يمكن أنْ تبديها أي ضحية قبيل ذبحها!
الآن، ينبغي لنا، إذا ما أردنا أنْ نكون عرباً وديمقراطيين وانسانيين، حقاً، أنْ ننسى تماماً صدام حسين ونظام حكمه الديكتاتوري، وكل ما جلبه على شعبه وعلى المنطقة من ويلات وكوارث، ينبغي لنا أن ننساه حتى نتمكن من تذكّر «الحقيقة الكبرى»، وهي أنّ الأمة جمعاء تتعرض، الآن، لعدوان امريكي بريطاني لامثيل له من قبل، وأن الطريق الى الديمقراطية في العراق وغيره تمر، حتماً، عبر مواجهة هذا العدوان والتصدي له.
الخيار ليس أنْ ننضم أو أنْ نمهّد السبيل إلى الانضمام إلى «معسكر المنتصرين» حتى نثبت لأنفسنا أنْ كان لدينا من الذكاء والحكمة وبُعد النظر ما مكّننا من تبريد رؤوسنا الحامية وإخماد مشاعرنا الهوجاء الملتهبة واجتناب الوقوع في وهم أنّ العراق سيهزم القوة العظمى في العالم ويخرج منتصراً من هذه الحرب، التي لن ينتصر فيها إلا إذا منيت بهزيمة منكرة قوانين الفيزياء والعقل والمنطق.
ليس بالذكاء ولا بالحكمة ولا ببُعد النظر انْ نبرهن على ذكائنا وحكمتنا وبُعد نظرنا بالإسراع في الانضمام إلى «معسكر المنتصرين» عبر موقف تقفه دولة في السر أو في العلن أو عبر موقف يقفه صاحب قلم، لأنّ الغباء بعينه الاعتقاد أننا بانهزامنا المشين هذا سنكون جزءاً من «معسكر المنتصرين»!
الآن، ينبغي لنا نبذ هذه اللعبة الانتهازية التافهة الحقيرة، التي لاتليق بأي إنسان لديه أقل إحساس بآدميته، فنحن شئنا أم أبينا لا مكان لنا في هذا المعسكر، ولو كان ممكنا أنْ يكون لنا مكان فيه لما كانت الحرب أصلاً! نحن في المعسكر الآخر شئنا أم أبينا، فمعسكر «المنتصرين» لا مكان فيه إلا لمن تخلق منّا بأخلاق هؤلاء.
القضية، الآن، ليست أنْ تكون مع صدام حسين أو ضده، وكل من يطرحها على هذا النحو إنما هو عن وعي أو عن جهل ضد شعبه وأمته، القضية الآن، هي في كلمة جامعة مانعة، وفي منتهى البساطة والتبسيط، هي أنْ تكون مع هذا العدوان أو ضده، ويتوهم كل من يعتقد أنّه أذكى من أنْ يقع في فخ هذا «التبسيط الساذج للأمور»! قبل أنْ تقع الحرب، التي طالما قلنا بحتمية وقوعها، كانوا يقولون إنها ليست بالحتمية، ويمكن اجتنابها إذا ما لبّى صدام حسين جملة من الشروط والمطالب، قلنا بحتميتها، لأننا أدركنا دوافعها وأهدافها الحقيقية، ولم نُؤخذ بمزاعم وادعاءات المعدّين لها، واليوم يقولون، وسيقولون، أنّ انتصار الولايات المتحدة حتمي وليس بالأمر الذي يمكن تلافيه، واليوم، نقول إنّ انتصارها ليس بالحتمي، ويجب ألا ننظر إليه على أنه حتمي، فهزيمة المعتدي في العراق ممكنة واقعياً، وينبغي لنا أنْ نؤمن بذلك، وأنْ نعمل في اتجاه تحويل هذه الإمكانية الواقعية إلى واقع. هزيمتهما تبدأ بالصمود أياماً، ثم أسابيع، ثم أشهر، تبدأ بإحباط «الهدف الأول» وهو «الحرب الخاطفة السريعة»، فحملة «الصدمة والترويع» لا ترمي إلا إلى شيء واحد هو أنْ تصيب مقتلاً من روح الصمود والمقاومة، وهذه الحملة الجهنمية، التي تنفّذها طائرات «ب - 52»، و«الشبح» و«أم القنابل» وصواريخ «كروز» و«القنابل الذكية» و«الصور والمشاهد التلفزيونية» وتصريحات رامسفيلد التي عدّد وشرح فيها مزايا وخواص كل وسائل وأدوات الموت والدمار التي شرع يستخدمها، لا هدف لها سوى إلقاء الرعب والذعر في قلوب العراقيين جميعاً، وفي قلوب العرب، وفي قلب كل من يفكر في تحدي القوة العظمى في العالم، في سعيها الذي بدأ للهيمنة على العالم.
ولكن هذه الحملة لايمكنها أنْ تستمر وأنْ تزداد حدة وعنفاً وهمجية وشراسة من دون أن تستنفد، في الوقت نفسه، قدرتها على التأثير الذي تتوخاه الولايات المتحدة، ومن دون أنْ تستجمع القوة العظمى في العالم أسباب هزيمتها، عراقياً، وإقليمياً، ودولياً، أخلاقياً وسياسياً.. وعسكرياً في آخر المطاف.
كل من راقب وتأمل المسار الذي سارت فيه الحرب أدرك أنّ الغاية العظمى للولايات المتحدة هي أنْ تقي نفسها الشر الأعظم وهو احتلال بغداد والمدن العراقية وبعض المواقع والمناطق بالقوة العسكرية، لأنّ اضطرارها إلى ذلك يعني إطالة أمد الحرب وتحويلها، بالتالي، إلى حرب تستنزف قواها العسكرية والسياسية، وتُكسب المعسكر المناهض للحرب، في داخل الولايات المتحدة وفي المنطقة والعالم ثقلاً واقعياً على كل الصعد، لقد بدأت الحرب بضربة أشبه ما تكون بضربة حظ، بدأتها في طريقة تكمن فيها الرغبة في أنْ تكون عاقبتها أنْ تدخل بغداد سلماً أو بخسائر لاتذكر خابت ضربة الحظ، ولم تفز بهذا «الصيد الثمين». ثم بدأت هجوماً برياً متعثراً مصحوباً بحرب نفسية شرسة لعلها تتوصل الى الهدف ذاته، وهو اجتناب الاحتلال بالقوة العسكرية، وإذ خاب سعيها هذا لجأت إلى ما أسمته من قبل «الانفجار الكبير»، أي هذه الحملة الشرسة من التدمير الجوي والصاروخي. الولايات المتحدة ستمضي قدماً، الآن، في هذه الحرب الجوية والصاروخية المدمرة لعلها تتمكن من تغليب الروح الانهزامية على روح الصمود والمقاومة لدى العراقيين من نظام حكم وقوات وشعب، ولعلها تتمكن، ايضاً، من اغتيال صدام حسين وغيره من كبار القادة العراقيين، وفي سياق هذه الحرب الجوية والصاروخية ستستمر في محاولة توسيع رقعة انتشار قواتها البرية في داخل الاراضي العراقية مبدية حذراً شديداً في سعيها إلى اقتحام مدن في الوقت الحاضر، فهذا الانتشار الصحراوي او شبه الصحراوي يمكن أنْ يقترن بتطويق وحصار مدن مع محاولة السيطرة عسكرياً على مدينة مهمة مثل البصرة في طريقة مأمونة العواقب إذا أمكنها ذلك.
الولايات المتحدة ستظل تخوض الحرب وتديرها في طريقة تأمل في أنْ تمكّنها من احتلال بغداد سلماً او بخسائر لا تُذكر، وهذه الطريقة يمكن أنْ تشتمل على ضرب حصار عسكري حول بغداد، تتخلله هجمات عسكرية تشارك فيها قوات عراقية تابعة لحكومة يعينها الغزاة، حكومة كهذه يمكن تأليفها قبل احتلال بغداد، ولكن لا يمكن تأليفها قبل السيطرة على المدن العراقية الأخرى. العراقيون يمكن ويجب أنْ يصمدوا، وأنْ يطيلوا أمد الحرب مع اضطرارهم القوات الامريكية الغازية الى خوضها في طريقة تمكّنهم من إلحاق خسائر بشرية متزايدة بها، ويكفي أنْ يفعلوا ذلك حتى تبدأ التناقضات الاقليمية والدولية بالانفجار في وجه الولايات المتحدة، التي يكفي أنْ تخرج من العراق خروجها من فيتنام حتى يصبح مشروعها الامبراطوري أثراً بعد عين، ففي أرض الرافدين، يتقرر مصير العالم، الذي في الوقت الذي كان يحبس انفاسه في انتظار انتهاء «المهلة» فضّل بوش أنْ يظهر في حديقة البيت الأبيض وهو يداعب كلبه!
انتصار العراق، في هذا المعنى، كان يمكن أنْ يكون موضع شك قبل أنْ نرى جميعاً المثال المفعم بالمعاني والدروس والعبر.. مثال «الانتفاضة الفلسطينية»!
|