كان لكسرى قصر اسمه «المشقَّر» في ناحية البحرين، وقد أمر كسرى ببعض بني تميم أن يؤخذوا إلى ذلك القصر على حين غفلةٍ منهم ثم يُقتلوا فيه بسبب جنايةٍ جنوها على كسرى، وكان الذي قام بأمر كسرى فيهم عامله على البحرين، حيث أرسل إلى أولئك القوم قائلاً: لقد أمرني الملك كسرى أن أقسِّم فيكم أموالاً وطعاماً، فأقبل القوم عليه فرحين، فلما استقروا في مجلسه أخذ يدخلهم إلى القصر واحداً واحداً، وقد أوكل بهم من يقتل كلَّ من يدخل منهم، فلما رأى الذين لم يدخلوا أن إخوانهم لا يرجعون إليهم، وأنَّ من دخل إلى القصر لا يخرج منه، علموا أن الدخول إليه إنما هو الأسر ثم القتل، فقال قائلهم محذِّراً «ليس بعد الإسار إلا القتل» ثم امتنعوا من الدخول وهربوا، بعد أن قُتل منهم نفرٌ قبل معرفتهم بالخديعة.
ولا يزال هذا المثل يُضْرَب في كلِّ حالةٍ مشابهة، ولا شك أن المتأخّر ينتفع بهذا المثل أكثر من المتقدم، وأنَّ المتأمِّل لهذا المثل وقصَّته يجد أمامه مثالاً واضحاً يحول بينه وبين الوقوع في مثل تلك الخديعة.
ومن خلال القصة يظهر لنا أنَّ الرّكون إلى العدوِّ الذي لا تزول عداوته - وإن أخفاها أحياناً - يُعَدُّ غفلةً، وتمكيناً للعدو من النفس، فهؤلاء النفر بينهم وبين كسرى عداوة متأصِّلةٌ، ثم انهم عملوا عملاً استوجبوا به غضبه، فكان من الفطنة والحَذَر ألا ينخدعوا بحلاوة وعوده، وبريق ادعائه، لأنّ حزازةَ النفس متأصِّلة فيها، ولأن العدو الحقيقي لا يلبث أن يعود إلى إظهار عداوته وغدره وخداعه في الوقت الذي يراه مناسباً لتحقيق مصالحه، خاصةً حينما يتحكَّم في أمور من خدعهم، ويصبح صاحبَ قوةٍ لا يستطيعون مقاومتها، وهنا يجب أن يكون الحَذَر هو الأصل في التعامل مع ذلك الصديق «المؤقت»، أو العدوّ «الصامت»، الذي لا يعرف للوفاء بالوعد، والالتزام بالعقود والمواثيق قيمةً، ولا يحمل لها تقديراً واحتراماً.
إنَّ الطريقة المكشوفة التي تتعامل بها الولايات المتحدة الأمريكية مع أصدقاء أمسها، وحلفاء ماضيها، تؤكد أنَّ تلك العهود والوعود لا تتجاوز كونها سطوراً مكتوبة على ورقٍ، محفوظةً في ملفَّاتٍ لا ترى النور، وتوضِّح أن قصر «الخداع الأبيض» الذي يتم فيه مع من ينخدع فيدخله، مثل ما تم في قصر «المشقَّر» الذي وردت قصته آنفاً، لا يزال مثالاً للغدر والخداع، وأنَّ الخاسر مَنْ يدخله أملاً في تأييده ودعمه، ولا يخرج منه إلا جثةً هامدةً ليس بها حراك.
إنَّ المسلم الذي يضع يَدَه في هذه الفترة في يد أصحاب الخداع والمراوغة، منخدعاً ببعض الوعود المستقبلية إنَّما يضع يده في جحر الثعبان، فهو يدخل إلى حيث يجد المفاجأة التي لا تسره أبداً.
ها هي ذي الأمثلة والشواهد تتوالى يوماً بعد يوم، حيث يتم تحطيم كلَّ مخدوع بوعودٍ سبقت، ومواثيق عقدت، وكأن شيئاً لم يكن، وما ذلك إلا لأن المحالف المخدوع ألقى بزمام الثقة إلى من لا يرعاها، ولا يفكر أصلاً في رعايتها، لأن الثقة عنده إنما هي لعبةٌ من اللعب السياسية، وخدعةٌ يطيب له أن يستخدمها في الوقت الذي يراه مناسباً.
نعم يا أبناء الإسلام، ليس بعد الإسار إلا القتل، وما وراء تلك الجدران الخادعة إلا أزيز الطائرات، ودَمْدَمة المدافع، وضجيج الدَّبابات فانتبهوا لأنفسكم، وضعوا ضوابط واضحة للطريقة المثلى في التعامل مع أصحاب قصر «المشقَّر»، - عفواً - أقصد «قصر الخداع»، حتى لا تتكرَّر المآسي.
إشارة:
إنما الظلم طريق الموت، مهما حقَّق الظالم من وهم انتصار
|
|